العدد 892 صدر بتاريخ 30سبتمبر2024
وسط تسلط المال، ومن يملك يحكم، يصبح الإنسان سلعة تخضعها الرأسمالية التي تتخذ التحضر ستارا لها، ذلك التحضر الذي قسم العالم إلى جدارين عازلين؛ الفقراء والأغنياء، والشرف والمال، فماذا يفعل الشرف عندما يكون مقيدا بالظروف والعجز والحاجة للمال؟، ويجد نفسه محاط بسلة من القمامة، يملئها نفاق وانحطاط لا يتشابك مع القيم الإنسانية.
ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السابعة عشرة، قدم المعهد العالي للفنون المسرحية عرض “والعشاء علي شرفك”، المأخوذ عن النص المسرحي “مطعم القردة الحية” للكاتب التركي “جونكور ديامان»، دراماتورج (أحمد عصام)، إخراج (محمد فاروق).
يقول رولان بارت: « أن العنوان هو المفتاح الأول لأي نص سواء كان مطبوعاً أو مسموعاً مرئياً.”، فعنوان العرض “والعشاء علي شرفك”، استخدام كاف الخطاب الضمير الذي يُستخدم للتوجه مباشرة إلى المخاطب، فالعنوان يكون موجه للمتلقي فما يحدث داخل العرض قد يحدث لك، فمن العنوان الذي يجسد معاناة الشرف الذي يمثل القيم الإنسانية فماذا يحدث عندما يكون وجبة عشاء؟!، لأن الشرف أصبح سلعة يلتهمها حيوانات بشرية، تمثل أقصي درجة من تدني الإنسان، فاحذر أن تكون أنت وجبة العشاء التالية.
تدور أحداث العرض عن قدوم رجل اعمال غني يدعي (السيد جوناثان) ليحتفل بعيد زواجه في مطعم يقدم أصنافاً فريدة ومختلفة، عن طريق اكل مخ قرد وهو حي، ويقوم الشاعر/المؤلف (وونك) الموجود في نفس المطعم بتهريب القرد، ومن هنا يصل الحدث لذروته، وبسبب احتياج الشاعر للمال من أجل إنقاذ طفله، يعقد مع جوناثان صفقة بأن يأكل مخه بدلا من القرد، ليصبح وجبة العشاء....
يقوم العرض علي تعرية وفضح العالم الغربي، المتخذ من التحضر والتمدن قناعاً يخفي وراءه بشاعته و زيفه، فها هو السيد جوناثان (محمد شحاتة) سيد المال الذي يتحكم في الجميع وجعلهم طوع أمره، يقطع هو و زوجته مشواراً طويلاً من أقصي الغرب إلى المطعم الموجود في الشرق، وذلك من أجل ماذا؟! تجربة فريدة من نوعها؛ أكل مخ قرد وهو حي..!، وذلك ليرضي غروره ، فهو يملك المال فيفعل ما يحلو له، فرغم ملكه للمال لا يمتلك ذرة شرف، وعند هروب القرد عقد صفقة مع وونك (عبدالباري سعد) -الشاعر الفقير- أن يأكل مخه بدلا من القرد الذي هرب، مقابل مبلغ من المال من أجل عملية جراحية لطفله الصغير، فيري جوناثان أن هذه التجربة أفضل بكثير من مخ القرد، لتتجلى مدى وحشية شخصية جوناثان التي تصل إلى حد التقيؤ.، وونك عقد تلك الصفقة من أجل إحساسه بشرف المسئولية كوالد تجاه طفله، وعلي الرغم من أن جوناثان يستطيع بكل بساطة أن يساعده، لكن شخصيته الانتهازية لا تفعل شيئا دون مقابل، مصلحته فوق كل شيء، فيستخدم زوجته من أجل طموحه ومجده الشخصي وأنه قوادا، فنعلم ماضيه عندما كان طفلا فقيرا، يبيع الصحف ويمسح الأحذية ، وتركه أبوه وحيدا، وحينما أصبح شابا طلب منه صاحب شركة النفط -التي يملكها جوناثان الآن- أن يعاشر زوجته من أجل أن يعمل في الشركة فلم يتردد لحظة، و عندما أقامت زوجته علاقة مع الصياد (أحمد تيسير) كان لا يمانع أن تقيم علاقة ولكن ليس مع صياد فماذا سيعود عليه بنفع من ذلك، ومن أجل صورته الإجتماعية أيضاً، كل هذا يُعري شخصية جوناثان بالإضافة لكونه سادي يتلذذ بعذاب الأخرين، في أكله القرد -قبل هروبه- و وونك وهم أحياء، ونعلم أن السيدة جوناثان (سما حسن) مديرة جمعيات حقوق الإنسان والحيوان في الغرب، ليوضح ازدواجية المعايير لدى الغرب الذين ينادون في العلن بالحرية والحقوق لكن ما خفى كان أعظم.
ويسقط العرض الضوء على دور الدول في الشرق في مساعدة ابن وونك الذي وضعته المستشفى علي قائمة الانتظار لحين توافر المال، وفي الوقت نفسه تسمح أن يؤكل قرد أو إنسان وهو حي، ليدلل من ذلك علي فساد الدول، ونقول دول لأن العرض لم يحدد دولة بعينها، لتشمل الشرق كله وإنصياعهم لأوامر الغرب المتحكم بهم المتمثل في السيد جوناثان، وتأكيد على ذلك نجد شخصية صاحب المطعم -الغائب الحاضر- ليست موجودة علي خشبة المسرح لكنها حاضرة دائما عبر الهاتف وكأنه يراقب ما يحدث ويتدخل في وقت الأزمات ويحلها من أجل راحة السيد جوناثان.
شخصية وونك (عبدالباري سعد) ذلك المؤلف الفقير الذي يمثل الشرف والضمير الإنساني الذي يصرخ في وجه الجميع لكن فقره واحتياجه أقوى من رغباته، يأتي إلى المطعم من أجل مقابلة لولو (نسمة عادل) -حبيبته القديمة- لتساعده في بيع روايته الجديدة ليأتي بطعام لطفله، لنكتشف أن لولو تخدعه وتأخذ روايته وتبيعها باسمها، فهي شخصية استغلالية تبحث عن مصالحها فقط وتتقرب من السيد جوناثان التي تريد أن توقعه في غرامها.، ليجد وونك نفسه وحيدا وسط عالم غريب يسوده البشاعة والمال الذي يحكم كل شيء ، و وجوده مع القرد كمعادل موضوعي له؛ القرد في قفص عاجز عن الهروب، و وونك مثله مقيد معنوياً في قفص الحياة، ويري في القرد مرآة لطفله، فأبنه في انتظار الموت، ولأن ضميره وشرفه يحكمانه بألا يقف مكتوف الأيدي وهم يفعلون ذلك بحيوان، دون حتى أن يعطوه أدنى حقه أن يموت دون أن يتعذب، ويقوم وونك بتهريبه ويصبح هو مكانه ، خلال الصفقة التي عقدها مع جوناثان من أجل أن تتم عملية ابنه، بذلك يعطي الابن قلبه ويبيع عقله، لينتصر لإنسانيته وشرفه وواجبه كأب، ليكون العشاء علي شرفه...
استطاع (عبدالرحمن محمد) من خلال عملية الدراماتورج أن ينشأ دراما متماسكة و شبكة علاقات معقدة بين الشخصيات مما جعل إيقاع العرض يسير دون بطء ودون أن يشعر المتلقي بأي ملل مترقبا الأحداث، وحافظ على الوحدات الثلاثة التي أقرها أرسطو، فالأحداث تجري في يوما ومكانا واحدا، والموضوع الرئيسي واحد هو قدوم السيد جوناثان لتنفجر من خلاله الأحداث.
وجاء المخرج محمد فاروق ليكمل اللوحة مع مصمم الديكور (أحمد السيد) ليأخذنا داخل المطعم الذي سمعته تصل العالم، فجاء معبر عن مكانة المطعم ، كان علي يسار مقدمة المسرح مكتبة بها تماثيل فرعونية ويونانية ، علي يسارها مرآة تستند علي جدار المطعم وخدمت فكرة العرض بتعرية الإنسان ووضعه أمام ذاته الوحشية، أمام المرآة مباشرة كرسيين وطاولة مفتوحة من مقدمتها بها سلاسل وقيود -تشبه أدوات التعذيب- التي سيربط بها وونك فجاءت بشكل ذكي ليخدم مشهد أكل المخ بسلاسة، وفي الجانب المقابل طاولة اخري عادية وكرسيين، وعلي يسار المرآة باب الدخول والخروج من المطعم يوجد أعلاه خريطة العالم، دلالة علي أن المطعم عالمي ومعروف و وجودها فوق الباب يعني أن المطعم يدخله زبائن من أنحاء العالم ، وفي ويسار عمق المسرح البار وفي المركز مكتب وعليه الهاتف، وبجواره جرامافون، وفي يسار المسرح باب المطبخ، وخلفية المطعم نوافذ تطل علي الخارج ينظر منها أناس فقراء ليبرز لنا أن هذا المكان خاص فقط لمن يحمل المال أمثال السيد جوناثان، وأن هؤلاء الفقراء يمثلون حال المجتمع وما به من ندوب، أولئك الذين لا يجيدون العيش وسط مجتمع هذا المطعم.
جاءت ملابس ( رحمة عمر) معبرة عن وضع الشخصيات الإجتماعية، فمجرد النظر لملابسهم تعرف طبيعة كل شخصية، فجاءت ملابس وونك بسيطة تدل على فقره وكان يلبس قميصا رماديا دلالة علي إكتئابه و حالة الوحدة التي يعيشها وسط أشخاص المطعم، كذلك ملابس السيد جوناثان المهندمة مع بعض إكسسوارات مثل سلسلة من الدهب معلقة علي البدلة و ساعة ذهبية ، وكذلك عبرت الملابس عن بقية الشخصيات، و إضاءة (أحمد الرمادي) التي عبرت عن الحالات الدرامية المختلفة طوال العرض كما برزت جماليات ديكور المطعم ، وفصلت بينه وبين الأناس الفقراء خارج المطعم حيث كانت إضاءة صفراء لون أشعة الشمس التي تدل علي تآكل هؤلاء الناس وسط هذا المجتمع، و عبرت موسيقي (مصطفى مجدي) عن الحالات النفسية المختلفة وكانت تتصاعد بتصاعد الأحداث فجاءت ملائمة مع طبيعة الأحداث.
اما عن الأداء التمثيلي فكان في قمة توهجه، بداية بدور ايفريم النادل الذي لعبهُ (أمير عبد الواحد) بخفة ظله فكان فاكهة العرض، و (عبدالباري سعد) في دور وونك المؤلف الفقير الذي وعي (عبد الباري) بطبيعة الشخصية وتحولاتها فنجده الأب الذي يحزن علي ابنه، والحبيب الذي تم خذلانه واستغلاله من قبل تلك الحبيبة، والعاقل الحكيم في المناظرة، و (محمد شحاتة) السيد جوناثان كان متماهيا مع الدور تماما علي المستويين؛ المستوي الجسدي بإكسسواراته وأداه الحركي والمستوي النفسي ، فلعب دور السيد الذي يتحكم في الجميع بسلاسة.، أما عن القرد إيسو (محمد كنفاني) فكان اختبار صعب علي الممثل أن يؤدي شخصية حيوان ولكن (كنفاني) أدي الدور ببراعة بأدائه الصوتي لصوت صراخات القرد وسط هذا العالم القبيح، بجانب أداءه الحركي المنضبط لشخصية القرد وساعده علي ذلك ملابس ومكياج القرد (لرحمة عمر)، أما الصياد جو (أحمد تيسير) فمساحة الدور لم تسعفه ليبرز من خلالها موهبته ، أما العنصر النسائي؛ لولو (نسمة عادل) الشخصية المستغلة التي تفعل اي شيء من أجل مصلحتها فتستغل وونك بنسب كتابته لنفسها ، وكذلك جوناثان وعبرت (نسمة) عن الشخصية وملامحه بشكل جيد، أما عن (سما حسن) فعبرت عن الزوجة الخائنة ببراعة و تعتبر الشخصية المحورية في العرض حيث كان سيتم إخراج وونك من المطعم بعد أن هرب القرد، فتصر علي بقائه لحين عودة جو، وإن لم يعود جو بالقرد فمُطالب من وونك إحضار بديل غيره، ليكون هو البديل.
استطاع المخرج (محمد فاروق) من خلال أدواته أن يقدم لنا عرضا دسما ومتكاملا من حيث عناصره، يقدم لنا أفكار جادة ويحملنا بالتفكير بها، ويترك لنا النهاية مفتوحة لينظر لنا جوناثان ليريد مخا آخر، ونرجع للتحذير الذي أوردناه سلفاً، أحذر أن تكون أنت وجبة العشاء التالية...وهو ما يحقق دلالة العنوان.