العدد 892 صدر بتاريخ 30سبتمبر2024
الشتات والتيه في حدوده القصوى، وضراوة الألم والقسوة الطاعنة في الصمت، وثقل الصراع على الوجود المفرط في التكرار؛ كانوا التيمة الأساسية، ومكونات الرؤية الفنية التي اعتمد عليها المخرجان فيرناندو مايلو، وروبرتو سكافاتي لعرض «بابل» الذي قدمته فرقة الباليه الألمانية التابعة لمسرح تريير، على مسرح السامر بالقاهرة، ضمن فاعليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته ال31.
يشكل التكوين الجسدي الجماعي بواسطة مجموعة المؤدين بناءً منهارًا ومتهالكًا في أجزائه، وسرعان ما نكتشف أن شخصًا ما مازال قابعًا تحت أنقاض هذا الركام البشري، فيما تحاول باقي الأجزاء بعثه للحياة بواسطة حركات تعبيرية تعتمد على استخدام الرأس، حيث يقوم المؤدون بجذب رأس الشخص برؤوسهم تارة، وبواسطة الألواح الخشبية تارة أخرى.
تمثل الألواح الخشبية المستطيلة سيمائيات عرض «بابل» وبؤرة الصراعات، ونقطة التماس التي تلتقي عندها جميع إحداثيات أفكار العرض الرئيسية، وكانت في أغلب الوقت مسرحًا موازيًا، أو بديلًا للبريسينيوم، ويمكن اعتبارها الشاهد الحاضر على مسار الحدث المسرحي، أو المحرك الأساسي للصراع منذ البداية حتى نهاية العرض.
يعتمد العرض الألماني «بابل» على استلهام قصة برج بابل التي وردت في الكتاب المقدس في سفر التكوين، حيث تروي لنا أن البشر كانوا يتكلمون لغة واحدة، وبعد بناء برج بابل كمحاولة من سكان بابل لبلوغ السماء، غضب الله عليهم، وكتب عليهم الاختلاف في كلامهم، حتى لا يتفقوا مرة أخرى على التطاول على الخالق، فحدثت اللعنة وبلبل الله ألسنتهم، وهكذا انقطع التواصل بينهم وحل الخراب والشتات لهم ولأممهم.
في هذا السياق؛ اتخذ العرض من روح الفكرة مسارًا لم يحِدْ عنه، موظِّفًا كل عناصره من أداء، وعلامات، ورموزٍ، وديكور؛ لتكثيف المعنى، ليصنع من هذا الخراب بلاغة أقوى من لغة الحوار المفقودة في العرض المسرحي، حيث اعتمد عرض «بابل» بشكل كامل على الرقص التعبيري، والتعبير بالجسد، وبموتيفات الديكور. وسعى المخرج لإيجاد بلاغة أصيلة قائمة على الاقتصاد المفرط في كل شيء، بداية من التقنيات والشخوص والأحداث والرؤية الفنية ككل، وخلف هذه البلاغة المحتكمة إلى جمالية الاقتصاد والتجريد الخالص؛ ثمّة إيقاع خاص خفي وجماليات شديدة الذاتية في ابتكارها بعمق مدهش ومفزع في آنٍ واحد.
يعتمد العرض الألماني «بابل» على تغريب الموضوع للعصف بذهن المشاهد، والإبقاء عليه في وضع المتحفز اليقظ على مدى زمن العرض الذي انقسم إلى لوحتين، اللوحة الأولى منه كثفت المأساة الإنسانية، وما يعيشه الإنسان المعاصر تحت وطأة القهر وانقطاع سبل الود والروابط الإنسانية، حيث صور شابًا بعث للحياة من تحت الأنقاض ليجد نفسه في ذلك خراب يحيط به، وتعصف به حيرة عارمة، حتى تظهر فتاة يمكن اعتبارها الملاذ والأمل الذي سينتشله من هذا التيه ليدخل الشاب في رحلة من التيه أكبر، ودوامه لا نهائية من العوائق كان محفزها الوحيد هي تلك الفتاة، إنها وميض النور الذي ظهر في هذا العالم لنرى حذاءها شاهدًا على قبرها في نهاية تلك اللوحة وبداية اللوحة الأخيرة.
في اللوحة الأخيرة من عرض «بابل الألماني؛ يخلع كل المؤدين أحذيتهم ويضعونها على نعش، ثم يشرعون في رصّها بشكل أفقي على مقدمة المسرح الذي اتخذت الفتاة أقصى يمينه، واتخذ الشاب أقصى اليسار منه كمقياس على ضراوة الصراع، وإبراز مساحة زمنية تعاين التاريخ وتفتش فيه، ورويدًا تتقلص هذه المساحة وتتسع مع ارتفاع وتيرة الصراع أو انخفاضه. وهكذا اتخذت اللوحة الأخيرة من العرض رمزية الأحذية كشاهد على زمن قد ولى وبداية عهد جديد.
يعتمد الصراع الأساسي في عرض «بابل» على الرقص التعبيري، والتشكيل بالألواح الخشبية، حتى نصل إلى ذروة الصراع، وتصل المعادلة المسرحية إلى صفريتها: الفتاة، الشاب، الصراع.. وهكذا نرى الجميع داخل بناء مربع، وهنا يظهر لأول مرة الصوت الذي اتخذ لغة (بربرة)، ومن هنا تبدأ (الحلحلة) شيئا فشيئا، وتظهر مشاهد راقصة يعيد فيها الإنسان استكشاف نفسه والآخر، ويتعلم فيها البشر فهم بعضهم البعض، وينتهي الأمر ببناء الصرح المنهار، وهو ما كانت الرؤية الفنية للعرض تسعى إليه على امتداد العرض الزمني بكل وسائلها على إعلائه وتأكيده.
التمرد.. أهم سمات الرؤية الفنية للعرض، فقد تجاوز المخرج كل الأنماط المألوفة إلى فضاءات أكثر رحابة، وأوسع أفقًا، حيث يتوغل في الذاتية لتحقيق أصالة الاحتياجي النفسي والإنساني، كان ذلك متجليًا في استخدامه للموسيقى حيث اللعب على كورد واحد على مدى زمن العرض، الأمر الذي يقتل فكرة الموسيقى وصناعة الصمت، الصمت الخاص به، رافضًا الصمت الطبيعي الموجود في الحياة، فالصمت الطبيعي بالنسبة له هو عبارة عن ضوضاء عشوائية، أما الصمت الذي وضعنا فيه باستخدامه صوت كورد واحد ذو نغمه مستمرة استطاع أن يشكل بها جميع المشاعر التي عاشها المشاهد والمؤدي والموضوع معًا في آنٍ واحد، واختزال زمن العرض وتكثيف المشاعر، والانتقال من حالات بطء وملل إلى مشاهد متسارعة ومفعمة بالحيوية، كل ذلك صنع إيقاعًا خاصًا، وخلق جسورًا للتواصل بين الجمهور والمؤدين، وقدم ملحمة مسرحية سرمدية من الألم، والشتات، والقهر، والحلم.
ساهم في تقديم عرض «بابل» عدد من فناني الأداء في فرقة الباليه الألمانية التابعة لمسرح «تريير»، منهم: فرانشيسكو افيرسانو، جورجيو سترانو، فاسكو فينتورا، لوك ايميه، داميان نازابال، مدهف فالميكي، بيث اندروز، ايزابيلا دي لييلو، صوفيا اي، كابيلي، لورا ايفانجيليستي، مورجان بيريز. والعرض الألماني بابل من إخراج فيرناندو مايلو، وروبرتو سكافاتي.