العدد 892 صدر بتاريخ 30سبتمبر2024
انتهى موسم فرقة الريحاني المسرحي، بوصفه موسماً مميزاً شاهد بعض عروضه الملك فاروق لأول مرة، لذلك أقام الريحاني حفلة بمناسبة نهاية الموسم، نقلتها لنا جريدة «البلاغ» في مايو 1938، قائلة: انتهى في الأسبوع الماضي موسم الأستاذ نجيب الريحاني على مسرح ريتز .. بهذه المناسبة أقام الأستاذ الريحاني حفلة التمثيل الأخيرة مع حفلة صغيرة للعشاء دعى إليها جميع ممثلي فرقته .. وقد أقيمت الحفلة على خشبة المسرح.
وبعد تناول الطعام ألقى الأستاذ الريحاني كلمة شكر فيها جميع الممثلين على جهودهم الطيبة التي بذلوها خلال الموسم، وأشار إلى ما نالته الفرقة من نجاح وما وجدته من تشجيع توج في النهاية بذلك العطف الملكي الكريم الذي وجدته الفرقة من صاحب الجلالة الملك. ونوه الأستاذ الريحاني بفضل زميله الأستاذ بديع خيري وبالثمرة الطيبة التي أنتجها تعاونه معه. كما نوه بفضل الصحافة والخدمات التي أدت إليه وفي نهاية كلمته طلب من الصحافة أن تعاونه على لفت أنظار المسئولين من رجال الحكومة إلى ضرورة إعانة فرقته وذكر أن هذه الإعانة ستصرف على تحسين المسرح نفسه وعلى الممثلين الذين يجب أن يحصلوا على أرزاقهم في فترة فصل الصيف. ووعد بألا يأخذ لنفسه قرشاً واحداً من أي إعانة تقدم إليه بل سيكتفى بإنفاق الإعانة على هذين الغرضين دون سواهما. وقد قوبلت كلمة الأستاذ الريحاني بالاستحسان وتلاه الأستاذ بديع خيري الذي عاد بذاكرته إلى الأعوام الكثيرة التي قضاها مع الريحاني فشكر الله على ما وجداه من توفيق وأشار إلى فضل الممثلين وإلى إخلاصهم لعملهم وفي نهاية كلمته تمنى أجازة سعيدة لكل منهم. ثم تحدث بعض الممثلين شاكرين للأستاذين نجيب وبديع حسن تقديرهما لهم ووعدوا بالإخلاص للفرقة والعمل الذي يؤدونه فيها والاستمرار معها حتى النهاية.
وقبل ابتداء موسم الصيف للفرقة، نشرت مجلة «المصور» بياناً من كشكش بك إلى أهالي كفر البلاص!! والحقيقة لا أعلم هل هذه القصة حدثت بالفعل في الواقع، أم هي مزحة من المجلة، أم هي وسيلة مبتكرة – متفق عليها - للإعلان عن الفرقة!! لذلك سأنقل ما نشرته المجلة، والحكم للقارئ!!
نشرت جريدة الأهرام أن نشالين من نشالي الطريقة الامريكانية احتالا على قروي واستوليا منه بطريق النصب على مبلغ ?? جنيهاً، وقد انتحل أحدهما لنفسه شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص. وذهب القروي يشكو أمره إلى البوليس ويطلب استحضار كشكش بك العمدة والتحقيق معه بشأن النقود. ولما سأله البوليس عن أوصاف اللصين أجاب: أوصاف إيه؟ هاتوا كشكش بك تلاقوا الفلوس معاه .. ما فيش حد خد فلوسي غيره .. والبلد كلها عارفة کشکش. ولما علم أهالي كفر البلاص بهذه الحالة، وما أصابه من إفلاس اضطره إلى احتراف النشل، ثاروا وقدموا الشكاوى إلى الإدارة طالبين عزله من العمدية فوراً حفظاً لكرامة الكفر أولاً، وتأديباً لهذا العمدة ثانياً. فقد نصحوه كثيراً بعدم الذهاب إلى القاهرة والصرمحة في ربوعها خوفاً من الإفلاس فلم يرتدع. وقد تعب كشكش بك في تفهيم أهالي الكفر حقيقة الموقف، وأنه لا يزال بحمد الله في بحبوبة من العيش لا لزوم معها إلى استعمال النشل والسرقة وأنه محافظ على كرامة الكفر زي عينيه وأحسن. وأخيراً رأى أن يصدر البيان الآتي تصحيحاً لموقفه وحفظاً لعمديته، وقد وجه خطابه إلى اللص النشال:
حضرة الزميل الجديد - والعياذ بالله - النشال البارع والخطاف النابغ .. لعله يدهشك كثيراً أن استهل خطابي إليك بالتحيات العاطرة والأشواق الحارة، في حين أنه كان المنظور أن لا تتلقى مني غير ما يليق بشخصك الكريم - أو بالعكس - من الشتائم العاطرة واللعنات الحارة. ولعله كذلك يدهشك أكثر وأكثر أن أقدم لك جزيل الشكر على هذا الإعلان البديع - وإن كان بارداً في حد ذاته - عن شخصيتنا الكشكشاوية العتيدة، التي تفضلت وتكرمت بطريق غير مباشر فخصصت لها على صفحات الأهرام دعاية مجانية واسعة النطاق يقصر عن مثلها بالأجر الباهظ قسم الإعلانات بمسرح ريتز. وأنت لا تعلم فيما أظن أن الأهرام الغراء تحاسبنا على السنتي المربع، وتعاملنا بعدد السطور والحروف والكلمات. وهي اليوم - لأول مرة بفضل فصلك البايخ إياه - تتجاوز لنا عن أجر إعلان طويل عريض يستغرق من صفحاتها عمودين كاملين. وإني مع هذا كله أرجو أن لا يشجعك شكري هذا على إعادة ذلك الإعلان الفريد جداً والثقيل جداً في وقت واحد - وأتعشم أن يتجه تفكيرك في المرات المقبلة إلى أشخاص آخرين تمنحهم نصيباً وافراً من تلك البروباجندا بمقدار ما منحتنا نحن القانعين بهذا الحد من لطفك ومن كرمك. أما الذي أحب أن أعاتبك فيه عتاب عمدة أصيل لعمدة زائف، واؤاخذك عليه مؤاخذة كشكش المظلوم لكشكش الظالم. فهو تلك النتيجة الفظيعة التي كاد يوقعني فيها هزارك الممتع فيقذف بي من مسكني الهادئ المطمئن إلى حيث أرميدان المعظم، ومكاتب النيابة العمومية المكرمة، وربوع أقسام البوليس الفيحاء، وما إلى ذلك كله من الأمكنة الخفيفة الظل التي يعرفها حق المعرفة الرواد الدائمون من أمثالك رافعي لواء النصب والاحتيال عالياً في البلاد. وإذا كانت دعوات الوالدين قد أدرکتني هذه المرة فحالت بين الكلبشات الحديدية وبين تطويق يدي بأعجوبة من السماء فإن هذه الأعجوبة لا تأتي عند البوليس الكريم مرتين في العمر الواحد فاتق الله في شخصي بعد ذلك ولك مني خالص الدعاء. ولست أقبل دفاعاً منك بأنك إنما قمت بالنيابة عني خير قيام في تمثيل عمدية كفر البلاص، بل أرجو أن تسمح لي بأن أطعن في نيابتك هذه بأشد وأقذع مما يطعن به غيري في الانتخابات النيابية الأخرى. وإذا كان لا بد لنجاح مهمتك الاحتيالية من عمدية مصطنعة ومن کفر خيالي فليكن غير كفر البلاص أرجوك - وهناك من الكفور من الشيء الكثير، كفر الزير كفر الزلعة كفر القادوس وكلها كما ترى من طين وفخار ككفر «البلاص» سواء بسواء. والبلاص ليس من البلور ولا من الكريستال حتى تصمم على الانتساب إليه. وثمة شيء آخر يستدعي لعن خاشك ولا مؤاخذه، ذلك هو فداحة الأجر الذي مثلت به دور کشکش في روايتك التي كانت سوداء على رأس زبونك المتفرج الوحيد المسكين. فإني وأنا الأقدم منك عهداً - ولا فخر - أتقاضى عن تمثيل هذا الدور نفسه فوق خشبة المسرح زهاء الثلاث ساعات وهي نسبة متواضعة إلى جانب نسبتك الفاحشة، ولا أنشل من جيب المتفرج عندي أكثر من سبعة عشر قرشاً فقط وجمهرة المتفرجين في مسرحي من علية القوم. أما السبعة والثلاثون جنيهاً التي تغاليت أنت في اقتناصها ولم تعمل لها بأكثر من خمس دقائق فإنها تكفي الزبون عندي ليتفرج موسماً كاملاً. وعلى ذكر هذا فإني أرى من باب الذوق والإنسانية أن أتطوع بالنيابة عنك، كما تطوعت أنت بالنيابة عني، فأمسح دموع ضحيتك وأتيح له على الرحب والسعة أن يستخلص مني أنا تسديد هذا المبلغ المسلوب، وأن يكون الدفع تذاكر للفرجة في مسرح ريتز كيفما شاء حتى تتم تسوية الحساب المهبب ونظفر نحن الثلاثة بالمخالصة اللازمة لتحسين علاقات المعاملة وعفا الله عما سلف. أما عن المستقبل من فضلك فلست مسؤولاً من الآن فيما عساه أن يحدث من الانتشالات الرهينة بعالم الغيب والكفيلة بها مهارتك الساحرة. وأرجو أن تحيط بتبرعي هذا علم حضرة الضحية المسكينة «عبد الرحمن الدرماوي» أثناء مقابلتكما سوياً التحقيق في دار النيابة العامرة. وأخيراً يجدر بي أن أحتج بشدة لتمثيلك الدور بغير لحية بيضاء ولا عمامة ولا جبة ولا مركوب، كما هو المتبع عندنا لحفظ هيئة العمدية. ولا أطلب منك وعداً لا سمح الله بأن تتلافى هذا في المستقبل فإني غير راغب بتاتاً في سماع شيء عن هذا المستقبل. على أن واجب الإنصاف يدعوني من ناحية أخرى لأن أُشيد بحسن تصرفك في اتخاذ «محمد أحمد عويس» زعرباً لك أثناء التمثيل، كما هو ظاهر في الصورة المنشورة عنكما، ولولا هذا لنقمت عليك في إغفال زعرب وهو لسيده كشكش أول الأدوات والمستلزمات. وختاماً سامحك الله فيما جنيته بفصلك البارد من ثورة هوجاء أشعلها الأهالي في كفر البلاص ضد العمدية المظلومة وما أثاروه من احتجاجات ساخطة إلى جهات الاختصاص والإدارة، مطالبين بالعزل والرفت لولا أن الله سلم وانكشفت حقائق الأمور، والسلام للمرة الأخيرة والشكر الذي أود أن لا يعاد إلى الأبد وحسبنا الله ونعم الوکيل [توقيع] «کشکش الأصلي عمدة كفر البلاص الأصلية».
بعد هذه الواقعة الكوميدية الساخرة، بدأ الريحاني يفكر في موسمه الصيفي الذي أعلن أنه سيستغرق شهراً ونصف الشهر، سيبدأه بالسفر إلى أوروبا ثم ينتقل إلى لبنان ومنها إلى الإسكندرية والتمثيل في كازينو «كامب شيزار»، وهو في الأصل «كازينو المصري» الذي بُني فيه مسرح صيفي وادخلت عليه بعض التحسينات، فأصبح كاملاً وسُميّ بكامب شيزار – كما قالت مجلة «المصري». ولكن الواقع يقول خلافاً لذلك، حيث نشرت مجلة «المصور» إعلاناً في يوليو 1938، حاء فيه الآتي: “فرقة نجيب الريحاني بتياترو الهمبرا بمحطة الرمل بالإسكندرية .. مجهز جميعه بالمراوح الكهربائية .. تليفون 23226 تحيي موسمها الصيفي باستعداد عظيم ابتداء من 30 يونية مدة الصيف كل يوم حفلة سواريه ويومي الجمعة والأحد ماتنيه». وعلمنا من إعلانات المجلة المنشورة فيما بعد أن الفرقة عرضت مسرحيتي «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، و«مين يعاند ست».
في هذا الموسم الصيفي تعرض الريحاني إلى سرقة ملكيته الفكرية لبعض مسرحياته!! ونشرت مجلة «المصور» كلمة بهذا الخصوص تحت عنوان «بين ببا والريحاني»، قالت فيها: كثرت السرقات الأدبية والفنية في الأيام الأخيرة بشكل جعل الصحف تطالب بوضع حد لهذه الفوضى، وقد قدم بعض المؤلفين بفرقة ببا بعض روايات تبين أنها مسروقة من روايات نجيب الريحاني التي أخرجها في موسم الشتاء الماضي، ولا يزال يمثلها على مسرح الهمبرا بالإسكندرية، فلما لفت أولاد الحلال نظر ببا إلى ذلك أرسلت إلى الريحاني خطاباً رقيقاً تعتذر له فيه عن عرض هذه الروايات وتلقي التبعة كلها على المؤلفين الذين لا يراعون ذمة ولا ضميراً، حتى لقد أخبرها أحدهم أنه حصل على إذن من الأستاذين بديع خيري ونجيب الريحاني. وقد رد عليها الريحاني شاكراً لها اهتمامها عاذراً إياها على قبولها بعض الروايات التي لم تكن تعلم أنها من رواياته مؤكداً لها أنه لم يصرح لأحد البتة باقتباس شيء من مؤلفاته. وأنه كان يعتزم اتخاذ بعد الإجراءات القانونية لولا وجود شخصها في الوسط، ولذا فهو ينزل عن حقوقه إكراماً لها .. وهذه ظاهرة جديدة من جانب ببا تدل على كثير من الذوق ومراعاة الشعور وهي في الوقت نفسه خطوة جديدة في وجه اللصوص الفنيين تحد من عدوانهم نوعاً ما ولو أن جميع أصحاب الفرق عمدوا من تلقاء أنفسهم إلى صد هؤلاء العابثين لأمكن حفظ حقوق المؤلفين من غير قانون وليعلم أصحاب الفرق أن مصلحتهم في هذا مشتركة فالمؤلف الذي يسرق اليوم نتاج هذه الفرقة سيسرق غداً نتاج الفرقة الأخرى، وهكذا.
انتهى موسم الصيف، واستعد الريحاني لافتتاح الموسم الجديد بعمل جديد، ولكن الموعد تعارض مع حلول شهر رمضان المبارك، لذلك استغل الشهر الكريم في افتتاح موسمه بإعادة عروضه السابقة، وأعلنت مجلة «الشعلة» في أواخر أكتوبر 1938 عن ذلك، قائلة: «تياترو ريتس» الخميس 27 أكتوبر الساعة 9 ونصف مساء والأيام التالية. افتتاح الموسم التمثيلي لسنة 1938 – 1939 نجيب الريحاني وفرقته، إجابة لرغبة الجمهور الكريم واحتفالاً بشهر رمضان المعظم، تقدم الفرقة كل مساء رواية من رواياتها الممتازة، ترفع الستار يومياً طوال شهر رمضان المبارك في تمام الساعة 9 ونصف. كل يوم أحد حفلة نهارية الساعة 6 ونصف مساء بأسعار مخفضة.
أما مجلة «الصباح» فقالت في إعلانها: «تياترو ريتس» افتتاح الموسم التمثيلي .. نجيب الريحاني وفرقته .. الخميس 27 أكتوبر الساعة 9 ونصف مساء .. رواية «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، الجمعة 28 أكتوبر الساعة 9 ونصف مساء «مندوب فوق العادة»، السبت 29 أكتوبر الساعة 9 ونصف مساء «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، الأحد 30 أكتوبر حفلتان الساعة 6 ونصف والساعة 9 ونصف «لو كنت حليوة»، الاثنين 31 أكتوبر الساعة 9 ونصف مساء «الدنيا لما تضحك» .. إلخ
وفي إحدى الليالي وأثناء تمثيل مسرحية «الدنيا على كف عفريت»، وكان يمثل فيها «عبد اللطيف جمجوم» دور رجل ريفي يظهر على المسرح فيقلد محامياً يتلعثم في كلامه أي (يتهته) .. وفي حوادث الفصل الثاني وأثناء تأدية جمجوم لدوره أحسّ بقوة خفية تحول بينه وبين النطق بما يريد، ولكنه ظل يقاوم، فكانت الكلمات تخرج بصعوبة شديدة، والجمهور غارق في الضحك ظناً أن جمجوم يُمعن في تقليد المحامي المتلعثم .. والواقع يقول إنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث تحامل على نفسه حتى انتهى المشهد، فاستند على كتف الريحاني وخرج إلى الكواليس وسقط على الأرض، ونقلوه إلى مستشفى قصر العيني حيث أسلم الروح .. وبعد انتهاء العزاء وفي اليوم التالي أوقف التمثيل بضع دقائق حداداً على المرحوم.