العدد 893 صدر بتاريخ 7أكتوبر2024
مازال التراث الشعبى المصرى كنزا غنيا يحمل بداخله الكثير من الجواهر التى يلتقطها الفنان الذكى ويعيد عرضها للجمهور لتلمع فى وجدانهم وعقولهم .
فقد استقى المخرج وليد طلعت مخرج عرض “عريس البحر “ عرضه المسرحى من الموال الشعبى المعروف باسم (مسعود ووجيدة ) للفنان المعروف الصعيدى الأصل ذو الموهبة الفنية المميزة فى المواويل الشعبية محمد طه وبنى قصة العرض من خلال الأحداث المروية فى الموال بل واستخدم الموال وصوت الفنان محمد طه كراوى للأحداث على خشبة المسرح بطريقة تتسم بالذكاء فى المزج بين التمثيل والغناء الشعبى وقد قام باعادة الكتابة وتحويل الموال لعرض مسرحى أو مسرحة الموال الشعبى الكاتب محمد عادل .
ورغم أن القصة هى القصة المعروفة والمتداولة منذ بداية البشرية وتدور حول الطمع البشرى والصراع بين الخير والشر من خلال صراع الأخين الأشقاء هريدى وعمران على ميراث الأب المتوفى فيقع فى ذلك الطفلين مسعود ووجيدة أبناء عمران كضحية لهذا الصراع ويتم اختطاف مسعود طفلا والقاؤه فى البحر متناصا مع قصة سيدنا موسى والقاؤه فى اليم وهذا استدعاء للموروث الدينى ومعالجته بشكل عصرى إلا أن العرض بعناصره المختلفة قد نجح فى جذب المشاهدين فقد استمر عرض المسرحية ل20 ليلة عرض على مسارح مختلفة فقد تم عرضه فى مهرجان العلمين ومسرح نهاد صليحة واختتم ليالى العرض فى مسرح روابط بوسط البلد .
قد تميز العرض أنه يضم فريق عمل كبير سواء الممثليين الذين تميز كلا منه فى دوره على مختلف حجم الدور فحتى الأدوار الصغيرة أو المجاميع كما يمكن أن نطلق عليهم قد أدوا أدوارهم وكأنها بطولة بالاضافة لفريق عمل الاستعراضات بالاضافة الى الاضاءة والديكور والكواليس والادارة المسرحية وهذا يشير الى صعوبة عمل المخرج حتى يتمكن من قيادة هذا الفريق الكبير وتخرج التجربة المسرحية وتحقق رؤيته الفنية بالشكل الذى أبهر الجماهير بل وجذب بعض من مشاهير الفن لحضور العرض فى عدة ليالى على سبيل المثال وليس الحصر فقد حضر فى ليلة العرض الموافق 23 سبتمبر على مسرح روابط بوسط البلد الفنان مدحت العدل والمخرج محمد الصغير والفنان ميدو عادل وشادى الدالى وآخرين .
ومن أكبر التحديات التى واجهها العرض أن من يقدمه هم طلاب الجامعة البريطانية ويجب أن يتقنوا اللغة الصعيدية وكما هو معروف ليس فقط اللغة فهم من طبقة إجتماعية مختلفة ولكن نجح العرض والمسرح أن يجعل الشباب الممثليين يعايشوا طبقة مختلفة من خلال التمثيل وربما هذا من أهم أدوار الفن والمسرح كأبوا الفنون أن يجعل الطبقات الاجتماعية تذوب وتتضافر وقام بتدريب الممثليين على اللكنة الصعيدى بدرى السيد .
ومن أهم العناصر التى ساهمت فى نقل صورة البيئة الصعيدية بمختلف الاماكن التى تجرى فيها الأحداث سواء منزل مسعود ووجيدة أو دوار العمدة أو الخمارة هو عنصر الديكور وقد كانت مهمة صعبة لسبيبن أولها أن الاحداث تنتقل بسرعة من مكان لاخر وان هناك عناصر مثل البحر والقاء مسعود فيه يصعب توفيرها على المسرح والسبب الأخر وهو مساحة مسرح روابط فهى مساحة مختلفة عن شكل العلبة الأيطالية المتعارف عليها ولكن نجح كلا من المخرج ود.حمدى عطية مصمم الديكور رغم ضيق المساحة وكثرة عدد الممثلين أن يستخدم قطع الديكور بشكل ذكى يجعلنا ننتقل من مكان لاخر عن طريق تحريك باب بالمفصلات فيتغير الديكور وأيضا بناء مستووين فكان الدور العلوى يستخدم أحيانا للاشارة الى مكان مثل قسم البوليس بالاضافة الى استخدام عمق المسرح وكانها هوة يخرج منها الممثلين أحيانا أو الراقصين أحيانا أخرى وبالطبع تضافر مع ذلك الاضاءة والاستعراضات لتكتمل حالة العرض .
فقد نجحت شرين حجازى مصصمة الاستعراضات أن تستخدم هذه المساحة الضيقة مع عدد الراقصيين والمؤديين بشكل مبهج جدا فى استعراض الخمارة وبشكل درامى جدا وفنى لنقل حالة القاء مسعود فى البحر فقد تم استخدام أجساد الراقصات كأنهن البحر الذى يحتضن الطفل فى حنان وخفة مع استخدام الاضاءة زرقاء لتعطى حالة ولون البحر على المسرح وتضافر أيضا ظهور مشاهد التحطيب والتى تميز المجتمع الصعيدى مع الأحداث الدرامية لينقل لنا وجبة دسمة من التراث الصعيدى بمختلف نواحيه وقد ساعد فى ذلك تصميم الملابس التى نقلت لنا الحالة الصعيدية سواء فى الخمارة أو السيدات فى حالة المأتم أو الرجال فى دوار العمدة وما شابه وقامت بتصميم الأزياء أميرة صابر .
أما عن أداء الممثلين فقد كان مفاجأة أن هؤلاء هم مجرد شباب فرقة مسرح الجامعة البريطانية لأن أداؤهم ينم عن حرفية فعلى سبيل المثال تميزت الشابة الفنانة سارة حامد فى دور شامة أم كلا من مسعود ووجيدة وهى الأم التى تم قتل زوجها وخطف أبنها فتميز الاداء بلحظات يملؤها مشاعر الحزن والقهر والفقد وقد نجحت سارة فى الاداء التمثيلى لهذه المشاعر الصعبة واختلف أداءها حسب المراحل العمرية التى مرت بها شامة من شابة الى زوجة فقدت زوجها لأم ثم أم تزوج بنتها الى أم وجدت ابنها بعد غياب طال سنوات عديدة ومع مفاجأة انه كان سيتزوج أخته وقام بدور المجذوب بركة الفنان يوسف على حسن والذى أقنع الجمهور وكأنه فعلا شخصا مجذوب بحركات جسمه ونظرات عينه وطريقة كلامه واستخدام صوته وحتى طريقة حركته على المسرح ولا نستطيع أن نغفل الاداء المتميز لمن قاموا بأداء مسعود ووجيدة سواء فى مرحلة الطفولة الطفل سليم وليد االجندى والطفلة ليلى وليد طلعت وفى مرحلة الشباب حبيبة محمد فى دور وجيدة ومحمد عبد المجيد فى دور مسعود .
وقد أضاف المخرج جرعة كوميديا ليكسر بها التراجيديا التى استمرت من بداية العرض ليكون فى النصف التانى من العرض من خلال تعارف مسعود على وجيدة والتى اصطحبها حالة من الضحك تم خلقه من كوميديا الموقف وتضطاد الشخصيات وربما كان هذا الجزء يحتاج الى تقليل الوقت لانه قد طال هذا المشهد بهدف الكوميديا فقط وليس لأسباب درامية أو تحريك الأحداث .
ورغم أن كما سبق وأن أشرنا أن العرض مستوحى من الموال الشعبة (مسعود ووجيدة ) وكان يدور بالخلفية فى أحيان كثير لكن قد أستعان المخرج أيضا بأغنية البحر للشعر الصعيدى عبد السميع لانها كانت مناسبة فى أحداث رم المطاريد للطفل فى البحر بالاضافة للاستعانة بالشاعر المعاصر أحمد شاهين لكتابة أغنية الخمارة وأغنية ليلة الدخلة مع استعراض عرايس البحر لعدم توافر ذلك فى الموال الشعبى وهذا تأكيد على حرص المخرج على المزج بين العناصر المستوحاة من الماضي وتلك التي تعكس الحاضر، وذلك لتحقيق رؤيته الفنية المتكاملة وضمان تماسك السرد الدرامي. هذا النهج ساهم في تقديم عرض يربط بين الأبعاد التاريخية والحديثة، مما أضفى عمقًا على القصة وأبرز القيم التي تتجاوز حدود الزمن.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن العرض المسرحي كان تجربة استثنائية تجمع بين جماليات الفولكلور والموروث الديني، مع تقديم بصري ودرامي مبدع. استطاع فريق العمل، بأدائه المتقن وتناغم الجهود بين الممثلين والتقنيين، أن يقدم تجربة فنية تلامس القلوب والعقول على حد سواء. لقد أعاد هذا العرض الحياة لقصص من الماضي، مسلطًا الضوء على جوانب إنسانية ذات صلة بقيمنا المعاصرة. مثل هذه الأعمال تؤكد قدرة الفن المسرحي على خلق جسور بين الأجيال المختلفة، واستحضار تراثنا بطرق تلهم وتثير التفكر.