التحول بعد الانساني في مسرح ما بعد الدراما(1)

التحول بعد الانساني في مسرح ما بعد الدراما(1)

العدد 893 صدر بتاريخ 7أكتوبر2024

شهد المسرح والدراماتوجيا تحولات جذرية منذ النصف الثاني من القرن العشرين . ولعل أحد أهم مفاتيح القوى هو مزج الوسائط والتكنولوجيا في المسرح وفنون الأداء . وبالتالي تغيرت الممارسات والنظريات والمناقشات حول مسائل الدراماتورجيا . وللكشف عن التصور الجديد للممارسات المسرحية والنظريات، قبل التقسيم إلى عصور عند ليمان، يوضح بيتر سوندي العصور عند تطور الشكل الدرامي الذي يشمل الدراما اليونانية ودراما عصر النهضة والدراما في القرن السابع عشر ( الدراما الخالصة) . باعتبار أن الدراما حدثا أدبيا تاريخيا محددا، فقد انتقل جوهر مفهوما في نظرية الدراما وفي الفلسفة من «الفعل action» (عند أرسطو) إلى الشخصية (عند هيجل)، ومنها إلى الفضاء الداخلي للشخصية، والى خارج عالم البشر رغم ذلك، والى المجال الروحاني والخارق للطبيعة. وبالنسبة لسوندي كان التقسيم إلى عصور هو المعيار الرئيس لفهم الدراما التي تُبنى على فهم العلاقات الإنسانية : 
جاءت دراما الحداثة إلى الوجود في عصر النهضة. إذ كانت نتيجة الجهد الفكري الجرئ الذي قام به كينونة واعية بعد انهيار النظرة إلى العالم في القرون الوسطى، والتي سعت إلى ابتكار حقيقة فنية استطاع من خلالها أن يثبت ذاته ويعكسها على أساس علاقات التبادل الشخصي وحدها . ولم يدخل الانسان الدراما الا كزميل . 
يشير سوندي إلى أن قد تطورت بمعنى رؤية عالمية . لقد تم ابتكار انعزال الدراما الذاتي ومركزيتها الانسانية الكاملة في عصر النهضة كرد فعل للرؤية الانسانية للعالم . فقد ظهرت الشخصية كاملة وأصبحت الذات هي بطل/بطلة الدراما بصراعاتها الداخلية حتى سقط قي ذاتيته الممزقة نتيجة لعصر التنوير والأفكار الرومانسية والنظرية المنسوبة إلى هيجل . واستمر هذا التقليد حتى ظهور الداراما الحداثية الي سماها سوندي أزمة الدراما . وقد شكل الأزمة اختفاء تفوق النظام الدرامي المسيطر على المسرح وحركات الطليعة (التعبيرية والمستقبلية والسيريالية والدادية ) ثم ازدهار مسرح ما بعد الدراما . ومن خلال رفض الممارسات الفنية التقليدية، نجحت حركات الطليعة في تقويض الفلسفة الغربية التي تضع البشر في مركز الحياة والطبيعة، وتستخدم العالم كأرضية اختبار، وتقمع الفن . 
 لقد وضع سوندي بريخت والمسرح الملحمي في مقابل التقاليد الأرسطية في المسرح . وبنظريته في المسرح بعد الدرامي التي توافقت مع كتاب سوندي « نظرية الدراما الحديثة Theory of Modern Drama”, على الرغم من أن ليمان اعترف أن بريخت يفكك الجذور الدرامية، وأشار إلى أن المسرح الملحمي، الذي يقوم على القصة، ظل داخل حدود المسرح الدرامي . ورغم ذلك ظل بريخت مؤثرا جدا في تمهيد الطريق للمسرح بعد الدرامي بتطويره لعرض المسرحية وفن المشاهدة . 
 وبدمج الشكل المسرحي، كان ليمان أول من استخدم كلمة  «ما بعد الدراما postdramatic» كمصطلح مسرحي في كتابه « المسرح والأسطورة Theater and Mythos « . وبعد ثماني سنوات، قدم إطارا نظريا كاملا للمصطلح في كتابه «مسرح ما بعد الدراما Postdramatisches Theater» عام 1999 (وقد نقلته إلى اللغة العربية الدكتورة مرة مهدي). ويصف مفهوم مسرح ما بعد الدراما علم الجمال الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين. ففي كتابه الذي ترجع جذوره إلى عام 1880، وقد نظّر لممارسات المسرح  بعد الدرامي التي يمكن اعتبارها من ورثة مسرح العبث Absurd Theater والتقاليد المنسوبة إلى بريخت، ويعالج ليمان، في هذا الكتاب، أعمال صناع المسرح التجريبي تدووش كانتور وهاينر موللر وروبرت ويلسون الذين تبنوا أساليب العرض بعد الحداثي في العصر الحديث. ورغم ذلك، قسم ليمان، بتحليله لنظرية الدراما، الأشكال الدرامية إلى أشكال قبل درامية predramatic (وهي العصور القديمة)? وأشكال درامية dramatic (وهي الأشكال النقية، عصر ارسين في القرنين السادس عشر والسابع عشر) والأشكال بعد الدرامية postdramatic. بمعنى آخر, بحث ليمان بدقة المسرح الغربي من خلال عدسات التغير الزمني: العصر الكلاسيكي، المسرح الدرامي في أوروبا منذ بداية العصر الحديث حتى أوائل القرن العشرين، وقيام المسرح بعد الدرامي في أعقاب اضطراب الطليعة الكلاسيكية لمنع حدوث انقطاع جذري. 
 لا يمثل المقطع post تصنيفا دوريا أو معنى زمني، ولكنه مجرد تفكيك ومكمل متجاوز دون نسيان الماضي الدرامي . ولا يشير إلى انقطاع مهمل أو تقدمي في الماضي الدرامي، بل هو بالاحرى انفصال، وحالة تجاوز في علاقات الترفيه المستمرة في الوجود في الفن الدرامي . فلا يوجد بالضرورة تمييزا للمسرح باعتباره  أداء درامي، يبتكر تتابعا للسرد على خشبة المسرح، وفن الأداء باعتباره تناقضا مع كل شيء يمكن أن يصف الآخر. وبهذا المعنى لا يوجد ما يسمى ثنائية ديكارتية مثل حداثي – بعد حداثي في السياق الحقبوي أو الزمني لأن الانفصال التام عن الجذور مستحيل . ورغم ذلك يواجه المسرح بعد الدرامي الأشكال المبكرة والمفاهيم التقليدية، ويبحث البنيات مفتوحة النهاية والفوضوية بدقة? والأشكال النصية، والسرد، ويمثل البنيات غير التسلسلية للقراء والمتفرجين. وبدلا من الترابط المتبادل للنصوص المبكرة، يشكل المسرح بعد الدرامي الترابط بين الأصوات والأضواء والمشاهد والأجسام والمتفرجين والزمان والمكان والأفكار والثقافات والمجتمعات . وفي نفس الوقت تتمزق وتنهار داخل الدراما نفسها . 
     وبناء على لغة الشعر الشفهية، فان مفهوم التكوين poiesis . المتضمن في كتاب الشعر Poetics عند أرسطو فانه يتضمن الابتكار الصنع والتقديم، بالاشتراك مع جوانب أخرى مثل الموسيقى والرقص والايقاع والجوقة، قاد لفترة طويلة تاريخ المسرح وبنية المسرحية . ومفهوم التكوين في المسرح بعد الدرامي يتناقض مع فكرة التكوين عند أرسطو . فالبنية بعد الدرامية تفكك الهويات والتعارضات الثنائية عن طريق استبدال التمييز بالبنية الشفهية، ونسبية الزمن الخطي وعدم تسلسل البنيات المسلسلة . ففي الملامح الأسلوبية، وجوانب المسرح بعد الدرامي، يمكن أن نفهم أن البنية بعد الدرامية ليس لها بنية محددة ولا تعريف .فالمسرح بعد الدرامي يدعم البنية الترادفية / غير المسلسلة والتشاركية والانغماسية التي تتكون من خلال مزج العلامات المختلفة عن بعضها البعض، والتي يكون ترابطها مع بعضها البعض غامضا. والاستخدام غير المسلسل للعلامات والذي يهدف إلى تصور تركيبي ويتناقض مع التسلسل الراسخ . وتمزق الملامح غير المسلسلة التقاليد الدرامية ويشكل روابط غير متجانسة في المسرح. وفي هذا السياق يشير ليمان إلى آلة كل من جيل دولوز وجواتاري ( الآلة التحليلية الفصامية), ومصطلحهما الشهير «الجذمور rhiome» ( وهو الساق الأفقية للنبات التي توجد تحت الأرض ) . فمن ناحية، يقدم ليمان رابطة بمسرح التحولات عند روبرت ويلسون الذي يقود المشاهد إلى أرض الأحلام التي تمر بمرحلة انتقالية وغموض وتطابق، ومثل الآلة المنسوبة إلى دولوز، فان التحول يربط الحقائق غير المتجانسة وألف هضبة، فتتدفق الطاقة . ومن الناحية الأخرى، تعكس البنية الجذرية جذورا متعددة للحقائق التي تمنع التركيب فيها الفروع غير القابلة للحصر والمجموعات غير المتجانسة . ويعرف دولوز وجواتاري الجذمور بأنه البديل المتعدد الوجوه لوحدة الشجرة. فالجذمور يرتبط في أي اتجاه بشكل لا نهائي. والجذمور باعتباره شكل دراماتورجي يربط التطور التحولي المستمر في الأداء. وبمساعدة العناصر غير المتجانسة وكثافة العلامات، يشكل المسرح علاقات جذرية متعددة. اذ تظهر البنية الجذرية من خلال تقسي الزمن الدرامي إلى الى تتابعات أصغر وتفكك الشكل الدرامي باستخدام الصوت والمؤثرات البصرية، ويمنح الفراغ التعدد، وتوليد العلامات، والاستخدام الآني بدون كبرياء التوليد . 

تعريف ما بعد الانسان 
 ما بعد الانسانية، المقبولة كمصطلح شامل، ليس لها تعريف . فهي تضم نزعة ما بعد الانسانية الفلسفية والثقافية والنقدية والعابرة للانسانية والنزعات المادية الجديدة ( وهو تطور نسوي محدد داخل الاطار بعد الانساني)، والفضاءات غير المتجانسة للانسانية المضادة وما بعد الانسانية  وما وراء الانسانية . اذ تشير ما بعد الانسانية إلى الانحراف عن كل من الانساني والانسان نفسه . وهي تخص المجتمع المشبع تقنيا ( المثقف تقنيا ) والتحول العميق في الحضارة والتجربة الانسانية، وتأمل تفاعل الانسان مع الطبيعة والعالم . ولا شك أن كتاب روزي بريدوتي « ما بعد الانسان posthuman) ( وقد تُرجم الكتاب في سلسلة عالم المعرفة الصادرة في الكويت) هو عمل نقدي حاد للانسانية، حيث أثار نفس الموضوع الليبرالي الفردي، الذي يكمن كماله في استقلالية الانسان وارادته . وتقدم نظرية ما بعد الانسان تفكيك مفهوم اغتراب سلامة الطبيعة عن الانسان وعن الآخر . 
     يرفض فهم نزعة ما بعد الانسان أسس الانسانية الغربية المتأصلة منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر . وفي كتابه « مقال في المنهج Discourse on the Method « يزعم ديكارت أن العقل يؤكد الوجود الانساني من خلال مقولته الشهيرة « أنا أفكر اذن أنا موجود cogito ergo sum «، ويصف البشر بأنهم كينونات عاقلة . وقد كان المعنى المميز للنزعة الفردية أساسيا عند في فلسفة جون لوك . فالانسان بالنسبة إلى لوك كائن مفكر وذكي، ولدية منطق وتأمل، ويمكنه أن يتأمل ذاته باعتبار أنها هي ذاتها نفس الذات المفكرة في مختلف الأزمنة والأماكن، ورغم ذلك فان مفكرين آخرين مثل داروين ونيتشه وفرويد يرفضون فكرة الانسان كفرد حر في العالم والمثال الانساني . والخطاب بالنسبة لدراوين هو تفكيك فكرة أن الانسان مخلوق على صورة الله، وبالنسبة لنيتشه التشكيك في هذه الحقيقة، وبالنسبة لفرويد اللاشعور . ومن الناحية الأخرى يختلف مارتن هيدجر عن الفكرة الديكارتية بتوضيح أن الانسان Da-sien يمكن أن يكتشف صراحة الكيانات التي تقابله في البيئة، ويمكنه أن يعرفها، ويمكن أن يستفيد منها، ويمكن أن يملك العالم. وفي القرن العشرين، كان التفاعل مع البيئة هو القوة الدافعة وراء تكوين الهوية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، دفاعا عن لا مركزية التصور الانساني، وتفكيك السرديات الكبرى، وانفكاك الذات عن الآخر، دشن مابعد الحداثيين عصرا جديدا . واستمرت خطة عزل الذات المركزية من أجل اهتمامات أكثر هامشية في الفكر بعد البنيوي والفكر النسوي والفكر بعد الحداثي. فتلاشى قبول الانسان ككينونة كاملة نتيجة للتغير الذي بدأ مع رولاند بارث وجاك دريدا وميشيل فوكوه، وكتاب جان فرانوا ليوتار  «حالة ما بعد الحداثة postmodern condition» (1979) وكتاب فريدريك جيمسون «ما بعد الحداثة»? أو كتابه «المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» (1991)، وكتاب بودليار « المحاكاة والتظاهر Simulacra and Simulation» (1981)، وكتاب دولوز وجواتاري «ألف هضبة» (1987) .  
....................................................................................
 • هذه المقالة هي الفصل السابع عشر من كتاب « نظريات ما بعد في الدراسات الأدبية والثقافية Post- Theories in literary and cultural studies 
 • مسعود جونيش يعمل استاذا بجامعة Aydin Adnan Mederes in Turky
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح