حوار مهم مع نجيب الريحاني!!

حوار مهم مع نجيب الريحاني!!

العدد 893 صدر بتاريخ 7أكتوبر2024

بعد انتهاء الموسم الصيفي، وقبل بداية الموسم الشتوي لفرقة الريحاني، نشرت جريدة «أبو الهول» في سبتمبر 1938 خبراً عنوانه «بلدية الإسكندرية وإعانة المسارح وفرقة الأستاذ نجيب الريحاني»، قالت فيه: جاءنا من الإسكندرية أن شخصاً يدعى المسيو بيلوجاتي طلب من بلدية الإسكندرية أن تمنحه إعانة قدرها 1200 جنيه لتنظيم موسم أوبرا إيطالية خلال الموسم القادم، فتقرر إحالته إلى اللجنة السابق تأليفها لبحث مسألة إعانة المسارح، وهكذا تحوّل بلدية الإسكندرية كل طلب يقدم إليها سواء أكان معقولاً أم غير معقول إلى لجنة المسارح التي كونتها للنظر في هذه الطلبات.
 والذي نخشاه أن يكون أغلبية أعضاء هذه اللجنة من الأجانب الذين يفضلون دائماً منح إعانات البلدية ومساعدتها وخيراتها للفرق الأجنبية، فقد حُوّل إلى هذه اللجنة منذ شهرين الطلب المقدم من فرقة الأستاذ نجيب الريحاني وإلى الآن لم نسمع عنه خبراً بالرفض أو القبول. مع أن فرقة الريحاني مثلت في أكبر مسرح بالإسكندرية مدة شهرين كاملين ومسألة ضرورة إعانتها لا تحتاج إلى بحث أو تردد لأن البلدية سبق أن منحت مئات من الإعانات لفرق أجنبية صغيرة لم تمثل أكثر من أسبوع أو أسبوعين .. فما رأي الشواربي باشا في هذا؟
هذا الأمر وغيره ناقشته جريدة «البلاغ» في أهم حوار أجرته الصحف مع الريحاني حتى تاريخه!! وهذا الحوار نُشر في أوائل أكتوبر تحت عنوان «الأستاذ نجيب الريحاني يتحدث عن المسرح المحلي في مصر ومقدار عناية الحكومة به، ورأيه في لغة المسرح وفي الروايات التي يجب أن تمثل»، وكتب محرر الجريدة مقدمة لهذا الحوار، قال فيها:
«ليس الأستاذ نجيب الريحاني في حاجة إلى التقديم، فقد حصل على شهرته بعمله ومجهوده وشخصيته الفذة التي تمتاز بما عرف عنه من روح مرحة. وكل من يعرف الأستاذ الريحاني يحس نفسه مدفوعاً نحوه راغباً في التزود من دراسته وتحليل شخصيته، كما يجد في حديثه لذة خاصة، وفي ضحكته المرتفعة التي تصدر منه بين آن وآخر أكبر مشجع على مواصلة الحديث معه. وقد بدأ الأستاذ الريحاني أخيراً استعداده للموسم المسرحي الجديد الذي قرر أن يفتحه في أول الشهر القادم، ولهذا قصدنا إليه وطلبنا منه أن يحدثنا عن نشاطه فيه وعن الخطة التي ينوي السير فيها ولكنه أبى أن يقول كلمة واحدة في هذا الشأن، وبهذه الطريقة تطور الحديث بيننا إلى الشكل الذي يراه القراء فيما يلي” [توقيع] «المحرر»:
سألناه قائلين: ماذا تمّ في مسألة الإعانة التي طلبتموها من بلدية الإسكندرية؟ فأجاب قائلاً: كنا نعتقد أن البلدية تقدر مجهودنا وتعمل على تشجيعنا ولكننا كنا واهمين ومن الغريب أنه تقدمت معنا بطلب الإعانة فرقة يونانية لم تحضر إلى مصر حتى الآن فأجيبت إلى طلبها، أما نحن فقد أهمل طلبنا ولم نأخذ شيئاً. ومن المؤلم حقيقة أنني أعمل منذ 22 سنة ومع ذلك لم أر هيئة رسمية أو حكومية تحاول أن تساعدني أو تشجعني أو تعترف بي وبفرقتي. وحتى العام الماضي، لو لم يكن صاحب الجلالة الملك حفظه الله قد أظهر عطفه السامي عليّ وأبدى اهتمامه بأمري، لاعتقدت إني أفعل شيئاً رديئاً. ولكن هذا العطف والاهتمام يجعلاني أشعر بأنني أقوم بعمل يستحق الذكر. ولقد كان أمام البلدية فرصة تشجيعي على العمل ولكن رفضها لما طلبناه منها – كسر خاطر – لي وبذلك لم نجد منها حتى التقدير الأدبي الذي يهمنا كثيراً. وليس في نيتي أن أعمل مع البلدية عملاً جديداً، وكل ما سأعمله قبل ذهابي إلى الإسكندرية في العام القادم – إذا قدر لي العمر – هو أن أطلب من البلدية إعانة فإذا أحببت ذهبت إليها، وإذا لم تجب امتنعت ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
وسألناه: ما رأيكم في موقف الحكومة بصفة عامة من الفرق الأهلية؟ فأجاب: إن تشجيع الحكومة ضروري للفرق الأهلية حتى تستطيع النهوض والقيام بعملها وبذلك تتغير حالة مسارحها. وما كنت أود أن يكون مسرى قبلة الأنظار ومقصد أحسن طبقة من أهل البلاد فحسب كما هو حاله الآن ولكني أود أن أجعله كأي مسرح كبير في أوروبا، أي مسرحاً وطنياً يشرف كل مصري، ولكن هل يمكن أن أفعل ذلك منفرداً بدون مساعدة الحكومة! ونحن نستأجر المسرح لمدة عام ندفع فيه الإيجار كاملاً ولا نعمل به إلا بضعة شهور والدخل الذي يجيئنا منه يكاد يكفي لمصاريف الموسم. ونحن لا نشكو من إقبال الجمهور أو من الحصول على الكسب وعدمه، وسنعمل دائماً لأداء واجبنا وتأدية رسالتنا حتى النهاية ولكنا نود أن نجعل مواطنينا يحسون بأن لهم مكاناً يشرفهم في بلادهم أمام الأجانب. إن كلمة «فن» تفهم عندنا خطأ لأن الفن في الدنيا متفرع إلى عدة فروع، ولكل بلد فنه الخاص، فإذا ألقينا نظرة إلى التاريخ، وجدنا أن لكل شعب مدنيته وحضارته وفنونه. ونحن نود مع الأسف الشديد أن نبني المسرح المصري على فن غريب عنا وهو المسرح الأجنبي فننقله تقليداً. وثق تماماً أن المقلد لا يمكن أن يصل إلى من يقلده وقد يبلغ القشور ولكن من المحال أن يصل إلى الباطن أي إلى الروح نفسها التي تسيطر على من ينقل عنه .. يحدث عندنا أن يخرجوا لنا روايات أجنبية يعدونها نماذج، ولكن هذه النماذج تظهر على المسرح ممسوخة باهتة اللون .. ولو أردنا أن نبني مسرحاً محلياً حقيقياً لوجب بناؤه على عاداتنا وأخلاقنا فننتقد عليه عيوبنا، ونبث منه تعاليمنا في الشعب لأنه محتاج إلى ذلك. وقد سرت في مسرحي وفقاً لهذه الخطة فعملت على إظهار الطباع الفاسدة بشكل مكبر يثير الضحك حتى أن من اتصف بها يضحك منها ويحاول تجنبها. أما عن لغة الرواية في المسرح المصري فهي من أهم الأمور التي تؤثر فيه، ومع أن الحديث كثر عن هذه المسألة إلا أنني أرى نفسي مضطراً للكلام فيها. فهم يطلبون من الممثل أن يعبر عما يختلج في نفسه بلغة «أجنبية» ولست أبالغ في هذا الوصف لأني عندما ولدت ورأت عيني النور لم أسمع أمامي إلا اللهجة العامية وقد رضعت وكبرت وربيت في العامية كما سمعت والدي ووالدتي وجميع الناس حولي يتحدثون بها وحتى في المدارس لم أسمع إلا العامية وإني أتحدث معك ومع أهلي ومعارفي بها. وأعبر بها عن جميع التأثيرات النفسية كالفرح والحزن والضحك والبكاء .. فكيف يطلب مني بعد ذلك أن أعبر بصدق بكلمات غير التي سمعتها وتعودت أن أتحدث بها طول حياتي؟ وكل ما يمكن استعمال اللغة العربية الفصحى فيه هو الروايات التاريخية العربية أو الفرعونية.
ثم سألناه: ما رأيكم في الرواية التي يمكن استعمالها في المسرح المصري؟ فأجاب قائلاً: لم يصل التأليف عندنا إلى الحد الذي يصح معه القول بأننا قادرون على الاعتماد على رواياتنا المؤلفة، كما أن الترجمة عن اللغات الأجنبية أصبحت طريقة عقيمة لأن لكل بلد فقه وعاداته وتقاليده كما ذكرت لك ونحن نبعد كثيراً عن الغربيين ونختلف عنهم في أشياء كثيرة. فإذا حاولنا أن ننقل الرواية عن لغتها الأصلية إلى العربية وجدنا أنها لا تعبر عن شعورنا ولا تعطي صورة لحالتنا. وهناك روايات عظيمة ذات أفكار قيمة يجب أن نأخذ منها أفكارها الأساسية ثم نضعها في قالب جديد مراعين في ذلك حاجتنا وأحوالنا الخاصة. وليس معنى ذلك «الاقتباس» الذي اصطلح البعض على تسميته عند نقل الرواية إلى العربية بعد تغيير أسماء شخصياتها وإعطاء كل منهم اسماً مصرياً. لأن المسألة تختلف عن هذا كثيراً إذ أننا ننتج رواية جديدة تختلف عن الأصل الذي أخذت عنه اختلافاً من ناحية تركيبها وسير حوادثها وعدد فصولها وشخصياتها ولكنها تتشابه معها في الفكرة الأساسية التي تتلخص في جملة موجزة قد لا يزيد عدد كلماتها على العشرة.
وسألناه: ماذا ترى في الممثلين المصريين بصفة عامة وممثلي فرقتك بصفة خاصة؟ فأجاب: ليس لدي شك في أن للممثلين المصريين قوة عظيمة وروحاً كبيرة على المسرح، ولكن تنقصهم روح الابتكار التي هي أول صفة مطلوبة من الفنان، فهم لا يجهدوا أنفسهم لعمل طابع لشخصياتهم وإذا لم يوجد وراءهم أستاذ يبث الروح اللازمة للدور الذي يقومون به أصبحوا أشخاصاً عاديين. ولكن إذا وجدوا من يرشدهم وجدت منهم الكمال. وفي هذا المجال لا يسعني إلا الثناء على ممثلي فرقتي الذين قاموا بواجبهم بجانبي، وقد وجدت منهم جميعاً رغبة صادقة في تأديته كاملاً مما جعل كثيرين من ممثلي الفرق الأجنبية الذين زاروا مسرحي في الموسم الأخير ينتظرون دائماً حتى نهاية الرواية. وقد حدث في العام الماضي إنني دعيت لحضور حفلة أقامتها جمعية أنصار التمثيل والسينما لتكريم أعضاء فرقة الكوميدي فرانسيز في مسرحنا، فانتهزت هذه الفرصة وانفردت مع إحدى ممثلات الفرقة ودار الحديث بيننا عن المسرح الفرنسي والمسرح المصري فكنت أرى في ردودها شيئاً ليس هو التهكم ولكنه كلام عظيم يتحدث إلى التابع الصغير. وكان الواجب يقضي عليّ أن أدعوها إلى مسرحي وكنت أمثل رواية «لو كنت حليوة» وبعد الفصل الثاني قدمت السيدة مع زميل لها إلى غرفتي في المسرح وكانا يتحدثان بصوت مرتفع خُيّل إليّ معه أنهما يقومان بمظاهرة أو أيهما حضرا لمشاجرتي إذا كانا يقولان: هو أنت كده! وأطنبت السيدة في امتداح عملنا وأثنت على الممثلين كثيراً حتى خيل إليّ أنها أصبحت هي التابعة ونحن الأسياد! وهذا الاحترام الذي بدا من السيدة كان سببه إننا لم نقتبس شيئاً منهم وجعلناهم يشاهون فناً جديداً خاصاً بنا. وحدث في سنة 1935 أن افتتحت مسرح ريتز برواية «حكم قراقوش» وكان من بين الممثلين عندي راقصة يونانية ترقص أمام الملك في نهاية الفصل الثاني وكانت هذه الراقصة مشهورة في بلادها. وفي هذا الوقت جاء من أثينا مدير الفرقة الحكومية في اليونان، وأراد أن يشاهد ما تفعله مواطنته في مسرحنا وقد حضر الرواية من أولها إلى آخرها. وفي اليوم التالي جاءتني منه بطاقة يطلب فيها مقابلتي، وعندما دخل عليّ رأيت شخصاً لا أعرفه وقدم إليّ نفسه وذكرني أنه جاء ليقول لي شيئاً لم يرغب في الرحيل دون أن يذكره وكان ما قاله لي: “لا أخفى عنك أنني قبل قدومي إلى مصر كانت لدي عنها فكرة تهكمية واستهتار بالشعب، ولما نزلت الإسكندرية ورأيت حالة البلد لم تزل الفكرة في رأسي بالرغم من المظاهر الكبيرة التي رأيتها فيها، ولكن عندما حضرت روايتك أمس زالت هذه الفكرة وقلت في نفسي إن الشعب الذي عنده هذا المسرح العظيم لا بد أن يكون عظيماً كذلك”. وإني أرى في ذلك أحسن تقدير لي.
وختم الأستاذ الريحاني حديثه معي قائلاً: “وبعد ذلك فهل نأمل أن نرى حكومتنا تقدرنا كما قدرنا أولئك الأجانب .. الأغراب عنا؟!».
ظل جمهور الريحاني ينتظر العمل الجديد - للموسم الجديد - الذي لم يظهر حتى منتصف ديسمبر 1938، فنشرت مجلة «المصور» خبراً قالت فيه: انتهى الأستاذ نجيب الريحاني من الاستعداد لإخراج روايته الجديدة «استنى بختك» التي اشترك معه في تأليفها الأستاذ بديع خيري. وسيمثلها الأستاذ الريحاني مع فرقته على مسرح تياترو ريتس بشارع عماد الدين ابتداء من يوم السبت في منتصف الساعة العاشرة مساء. و«استنى بختك» رواية عصرية من ثلاثة فصول من النوع الكوميدي الاجتماعي الراقي الذي امتازت به روايات الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري. وقد خصصت للعائلات حفلات خاصة في أيام الخميس والجمعة والأحد وتبدأ في الساعة السادسة مساء بأسعار مخفضة.
ونشرت مجلة «آخر ساعة» إعلاناً للمسرحية التي ستعرض يوم 15 ديسمبر. وجاء اليوم الموعود ولم يفتتح الريحاني موسمه!! فنشرت مجلة «الاثنين والدنيا» إعلاناً جديداً بموعد جديد وهو يوم 17 ديسمبر، وكان هو الموعد الصحيح الذي افتتح الريحاني موسمه المسرحي 1938 – 1939 بمسرحية «استنى بختك».
وبعد الافتتاح لاحظت اهتماماً صحافياً ونقدياً بهذه المسرحية استمر أياماً كثيرة، حيث كتب عنها «أنور عبد الملك» في جريدة «البلاغ»، ومحمود صادق سيف في مجلة «الصباح»، بالإضافة إلى مقالات أخرى نشرتها مجلة «المصور»، ومجلة «الاثنين والدنيا»، وجريدة أبو الهول.


سيد علي إسماعيل