«الطاحونة الحمراء».. رؤية خصبة متجددة

«الطاحونة الحمراء».. رؤية خصبة متجددة

العدد 894 صدر بتاريخ 14أكتوبر2024

رحلة طويلة قطعتها مسرحية (الطاحونة الحمراء) لنشاهدها على خشبة المسرح المصري المعاصر، بعد أن شهدها مسرح الثلاثينات من فرقة رمسيس وإخراج يوسف وهبي. عرفت  السينما المصرية الرواية الأصلية في أحد أفلام ليلى مراد وحمل اسم ( ليلى ) مع حسين صدقي ومنسى فهمي وإخراج توجو مزراحي عام 1942 .
   بدأت الرحلة من رواية (غادة الكاميليا) للفرنسي ألكسندر دوماس وأضحت من عيون الأدب الفرنسي، ثم تحولت لأوبرا في ثلاثة أجزاء على يد الموسيقى الإيطالي جوزيبي فيردي وقدمت في عام 1853 في أوبرا فينسيا، من حينها إلى اليوم في كل أوبرات العالم . ثم أخذها الكاتب الأسترالي باتر لومان  وارجعها إلى سيرتها الأولى كقصة بعنوان الطاحونة الحمراء ثم تحولت لفيلم أمريكي استرالي «مولان روج» عام 2001 .
 رغم أن من المؤكد أن العنوان الفرنسي «مولان روج»
 وترجمته العربية الطاحونة الحمراء جاء من مكان إقامة أول ملهى ليلي في باريس في منطة مونمارتر الذي كان في الأساس موقعا ريفيا يضم 30 طاحونة لطحن الحبوب والغلال لسكان باريس كلها، إلا أنه أضحى عنوان يلتصق أكثر بالملاهي وحلقات السهر والرقص بعد إقامة الملهى عام 1889 .
والحقيقة إن تقديم النص المسرحي الذي كتبه الكاتب الأسترالي «باتر لورمان» وأخذ عنه الفيلم، في المسرح المصري بعد ترجمته وإعداده عمل يستحق الترحيب والتشجيع خاصة لو ظهر بمستوى فني عالي ورؤية خصبة متجددة.
   قام بهذه المغامرة الفنية المخرج حسام التوني مع كتيبة من الفنانيين بدأ من الكاتب أحمد زيدان وأحمد البنا، مع الموسيقي زياد هجرس إلى جانب فريق جرئ من الممثلين الموهوبين.
 وتبدأ جماليات العرض من تشكيل المنظر المسرحي الذي تصدرته الطاحونة الحمراء بصورتها الأصلية كشكل ولون، وعدد المخرج بالإضاءة عليها ألوان اخرى حملت دلالات الحدث المسرحي ففي أوقات البهجة هي حمراء أو خضراء وفي أوقات الحزن والقلق هي زرقاء أو سوداء أو خليط من كل الألوان كما يحدث في مصير الشخصيات، ثم وضع مجسم الطاحونة في منتصف عمق المسرح مما  قسم المسرح إلى قسمين، أولهما كان مكان الأوركسترا أو الفرقة الموسيقية التي عزفت موسيقى طوال العرض، والثاني قصر الدوق في حين بقيت كل مساحة المسرح كمكان الصالة داخل الملهى . جاءت  حيوية الموسيقى وإتصاقها مع كل لحظة من العرض المسرحي لتؤكد على موهبة مؤلفها زياد هجرس فجعلنا أمام عرض دراما موسيقية في أجمل صورها. فالموسيقى عنصر أساسي في البناء الدرامي ولهذا دائما ما يحصل المؤلف الموسيقي على جائزة ففي الفيلم الشهير عام 2001 حصل «كريج أرمسترونج» على جائزة الجولدن جلوب كأفضل موسيقى تصويرية، كما حدث مع  زياد هجرس في المهرجان القومي .
  تاتي قيمة العرض في تقديري من عدة أسباب :  
يعد عرض الطاحونة الحمراء نموذج مكتمل للمسرحية الموسيقية وتتويج لجهود كثيرة في مسرح قصور وبيوت الثقافة قام بها أساتذة كبار .  
قام العرض على طموح كبير وحققه فليس تقديم مثل هذا العرض بالأمر السهل بكل فنياته وتكامل عناصره التي نجح بها المخرج لدرجة كبيرة .
حافظ المخرج حسام التوني على ايقاع درامي مميز عبر توالي المشاهد على كثرتها وتعددها ويعود ذلك إلى  بساطة تكوين كل منظر عبر قطع صغيرة مثل كرسي ومائدة صغيرة مكان الدوق، برفان ومقعد مستطيل مكان ساتين البطلة المقهورة، عدة موائد ومقاعد سهلة التحريك والتغيير في صالة الملهى، وهذا مايميز المصممة نهاد السيد.
شكلت الملابس والاكسسوار وخاصة ملابس السيدات جزء هام من جماليات العرض وتوافقت مع الشخصيات فجاءت فساتين سهرة براقة أنيقة من تصميم روجيه ميخائيل
حمل التمثيل دور كبير في نجاح العرض من تفاهم ودأب مجموعة موهوبة منهم، فقام محمود متولي بدور «كريس» المثقف المثالي العاشق ببراعة لافتة وجمع بين التمثيل والغناء والأداء الراقص بسلاسة وثقة تفرح، فهو ممثل شامل ينتظره مستقبل كبير . وكانت رحاب حسن في دور” ساتين “ مبشرة بأداء فاهم للشخصية وصراعاتها بين عواطفها كإمرأة تحب كريس وبين مهنتها كغانية يتحكم بها أصحاب السلطة وهما «الدوق» وأدى الدو رضياء صادق بفهم حقيقي، وصاحب الملهى «شارل» قدمه ممثل صاحب حضور مؤثر وهو محمد أمين . في حين كان حضورنادين حسام الدين ونهى مندور وأمنية النجار على المسرح مع مجموعة كبيرة خاصة أصدقاء «كريس» شكلوا حيوية وخففت من الحزن والشجن الذي غلف بعض المواقف .
أعجبني في الإعداد الذكاء فلم يركن إلى الميلودراما في المواقف الدرامية رغم شهرة النص بذلك، حيث جمع بين الحب المستحيل والمرض المؤلم ثم الموت المفاجيء للبطلة، وبين الظلم والقهر الواقع من الدوق وصاحب الحانة على العاملين والعاملات بالملهى، وهذا يحسب ولاشك للكاتب أحمد زيدان دراماتورج العرض المسرحي .


سامية حبيب