العدد 894 صدر بتاريخ 14أكتوبر2024
يعتبر الكاتب والمخرج فهد ردة الحارثي من رواد المسرح السعودي، حيث ارتبط اسمه وعمله بتشكيل تاريخ المسرح السعودي والتأثير فيه ، وتم تكريمه والاحتفاء بتلك التجربة في عدة مهرجانات عربية وخليجية. وقد كرم عن مشواره الفني ضمن مكرمي الدورة التاسعة والعشرين من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر كما تم تكريمه من قبل إدارة مهرجان الإسكندرية الدولي للمسرح في دورة سابقة، وفي هذان المهرجانان يشاهد جمهور المسرح المصري العرض السعودي «ضوء» من تأليف فهد ردة الحارثي، سينوغرافيا وإخراج: أحمد الأحمري
عرضت مسرحية «ضوء» في العام الماضي على خشبة مسرح فهد ردة الحارثي بجمعية الثقافة والفنون ضمن فعليات «مهرجان الرياض للمسرح» بالطائف. وهو أحد المهرجانات المحلية التي تهدف إلى تنشيط المسرح السعودي وتفعيله من خلال حزمة من العروض المسرحية السعودية.
حين يخلو المرء لنفسه، فلا يتعرف عليها وينكرها يصبح تجسيدا حيا لمعنى الاغتراب.
في مكان مجهول لا يتضح من معالمه زمان أو مكان، يلتقي إنسان بإنسان ثم يبدأ شيئا فشيئا يتكشف كلاهما للآخر..
هذا المكان يمكن أن يكون سجن، أو غرفة احتجاز، قد يكون أي شئ غير مريح.، غير مبهج أو سار، وقد نجح المخرج والسينوغراف أحمد الأحمدي بإبراز الطبيعة الموحشة للمكان بتجرده من أي وسيلة رفاهية أو راحة، هناك سرير حديدي متين لكنه خلو من أي حشايا أو وسائد، هناك كراسي لكنها من صفائح معدنية مما يستخدم في تخزين الجبن، غير مريحة طبعا ولا تستخدم ككراسي إلا في حال الفقر المتدقع. كما توجد ستائر سوداء في الخلفية ومسرح مكشوف بوسائل إنارة خاصة من الكواليس، حيث رفعت البنطالونات وكشفت بارات الإضاءة.
المسرحية ديودراما، بطلاها شخصيتان شابتان تصنعان الحدث ولا يحمل أي منهما اسم.
هذان الشخصان هما كأي إثنين غريبين خائفين يبدأ تعارفهما بمحاولات فرض السيطرة، الخلاف بينهما يبدأ ويستمر على ماهية الضوء، هل هو نور كاشف أم نار لا تبقي ولا تذر.
في مكان مظلمم تقريبا ينام احدهما على السرير، يدخل الوافد يتخبط في الظلام ويشكو ما يشعر به من خوف ووحشة يعزو سببهما للظلام، وحين يحاول إشعال عود ثقاب فيرفض الآخر في إصرار، يكرر الوافد رغبته أن يشعل عود ثقاب مؤكدا أنه لطالما أشعل آلاف أعواد الثقاب ولم يحدث شئ، فيحذره الآخر أن هذا سيعرض المكان للاحتراق وتستمر حركة الثاني متكررة_- كإلحاحه على الإضاءة_ ودائرية كما حبكة مسرح العبث، وأول علامات العجب أنه لا يصطدم بالآخر ولا بأي شيء في المكان رغم الظلام! ومن هنا يضعنا الكاتب والمخرج على مسافة مع ما يحدث مؤكدين على عدم واقعيته لكي يبدأ تساؤل عن هذان الشخصان من هما ح؟ وهل هما شخصين حقا؟ أم شخص واحد يخشى نفسه ولا يريد أن يراها، لأن حقيقتها تفزعه. كما تشير إلى خبرة سابقة لهذا الوافد بالمكان، فمن أين له تلك الثقة وكيف ومتى أشعل في هذا المكان آلاف أعواد الثقاب؟ في الأخير أشعل العود ولم يحدث الاحتراق كما تنبأ هو وحذر الآخر.
لغة الحوار:
فصحى تتخللها عامية، كذلك بعض أغاني وأهازيج محلية.، وتعدد مستويات اللغة شئ شائع وجائز واحيانا ضروي، خاصة إن كان ثمة داع للإيحاء بأن شخصين لا يفهم بعضهما البعض وليسا على نفس النغمة، أويتحدثا لغات مختلفة، أو لا يفهم أي منهما الآخر. أو ببساطة لإلقاء النكات وهذا الأخير أكثر الأسباب شيوعا.
لغة الحوار الفصيح تتميز بالشاعرية خاصة في المونولوجات التي يلقيها كلا الشخصين عن حياته السابقة، أو عن نفسه. حين يرويان في عذوبه من أين أتيا وعن مرتع الطفولة والصبا.
كلاهما هارب من ماض ما، تاركا خلفه مدن الفقر أو قرى يغلفها الزيف، ويبحث عن شئ ما عن ذاته ربما. هنا يمنح الكاتب إشارة أخرى تكمن في شدة تشابة تاريخ الشخصيتين رغم اختلاف التفاصيل.
ومن خلال الحوار والمونولوجات تصل إلينا المعلومات تباعا عن دواخل الشخصية وما يعتمل في عقلها من أفكار، ورؤيتهما للعالم ولتاريخهما ومن قابلا من أشخاص أو عاشا من أحداث.
كانت اللغة استعارية احيانا تميل للتشبيه والاستعارة وتأكيد المعنى بالتضاد، ودخلت ثنائية الضوء والظلام تحت تلك الاستعارة، وتطرح سؤلا هل الضوء ضروري للرؤية أم أن إشعاله حماقة وخطر. ينمو وينتشر الجنوح لمثل تلك البديهيات في عصور الحروب والنزاعات التي ترجعنا لمراجعة الثوابت والمعتقدات الراسخة وإزالة الأتربة عنها ومسألتها. نطرح أبسط الأسئلة ونشك في كل ما اتفق الجميع عليه من قبل. فلم تعد الحقائق القديمة تثير الدهشة فحسب بل تثير الريبة ايضا.
الخوف من اضطراب الإيقاع:
احيانا يخشى الممثل ملل المشاهد فيجري الكلام على لسانه وتتسارع ردود أفعاله، يقع حينها ما كان يخشاه، ذلك أن الإيقاع اللاهث مثله كمثل الإيقاع البطئ، رد الفعل السريع في غير محله حيث وجب البطئ والاستيعاب للفعل الرئيس، ثم الإيجابة عليه بإماءه أو كلام أو حركة لكن بعد أن يستوعب الممثل والجمهور ما حدث وأدى لردة الفعل هذه. الإيقاع اللاهث المتواثب هو على طرف النقيض من الإيقاع الميت البطئ لكن النتيجة لا تختلف كثيرا في الإيحاء بالرتابة.
الملابس والاكسسوار:
السينوغراف منح ضوءا آخر على الطريق حيث جعل «موتيف» في الملابس متشابة بين الشخصيتين، آلا وهو خطوط البنطال التي تتشابة بينهما. الملابس في مجملها معاصرة يتم تغيير الجزء العلوي منها باستمرار في إيحاء لمرور الوقت، أو لسبب خاص بتغيير الأدوار، حين يتحول السرير إلى سجن فيرتدي الشخص الأول تيشيرت مخطط معروف بتيشيرت الحرامي وهو ذو دلالة عالمية، وحين يرتدي الآخر زي مخبر وهو بالطو أصفر ويأتي معه بجرنال وهو ذو دلاله واسعة الانتشار أيضا. كما يتحول السرير إلى منصة أدبية في ندوة شعرية، أو عربة تجرها خيل متخيلة... وفي كل مرة تتغير الأدوار ونعرف جزء جديد من حياة الشخصيتين.
يأتي الانكشاف التام لكل ذي عينين في النهاية، حيث يتحول منظور الرؤية ليوضع السرير في وضع رأسي ويصير سريران بدلا عن واحد،، وينام كلاهما كأنهما شخص واحد يحاول أن ينام ليهرب من نفسه فيقابلها في الأحلام وهذا ما يخشاه، فمن الصعب عليه جدا الانفراد بنفسه ومسائلتها.
الاغتراب والشك شيئان ملازمان لإنسان العصرالحديث، فقد ظهرت الفلسفة الوجودية في أوروبا بعد الحربين، كذلك ظهر مسرح العبث في تلك الفترة الملئ بالخوف والكراهية والترقب و الحذر. وما يعاش حاليا يشبه في غرابته وقسوته ما مرت به أوروبا منذ سبعين عاما، ينعكس هذا الواقع في الفن وخاصة المسرح، فتظهرحبكات تميل للتفلسف ويتجسد الخوف وغياب المعنى في دراما اللاحدث.
العرض المسرحي ضوء من إنتاج فرقة الطائف المسرحية، تمثيل:عبد الوهاب الأحمري، بدر الغامدي. تأليف: فهد ردة الحارثي سينوغرافيا و إخراج: أحمد الأحمري خرجت أبحث عن ذاتي ولم اجدها وأطفأت جميع المصادر