التحول بعد الإنساني في مسرح ما بعد الدراما(2)

التحول بعد الإنساني في مسرح ما بعد الدراما(2)

العدد 894 صدر بتاريخ 14أكتوبر2024

     مثل ما بعد الحداثة، تشحذ ما بعد الانسانية بعض المواقف النقدية تجاه الفهم التقليدي للحياة، وتشير الى تفكيك النظام البطريركي ومتاهتنا في الثنائية . ويحدد مقال هاراواي “ تصريح السايبورج Cyborg Manifesto” الهجين من الآلة والكائن الحي الذي يدعم التحولات في المجتمع . وبالنسبة الى جاي ديفيد بولتر، ما بعد الانسانية هي رد فعل  لما يُفهم باعتباره ممارسات اجمالية وبلاغة العصر الحديث . ففي كل حالة، كان رد الفعل محاولة لتقويض مزاعم الوحدة، أو البساطة أو العمومية . ان نظرية ما بعد الانسانية تعارض أفكار النزعة الانسانية المقبولة والمطبقة باعتبارها سردية غربية كبرى تهيمن على العالم ككل . ويزعم أنصار ما بعد الانسانية أن هيمنة الأفكار الغربية وصلت الى نهايتها، لأن أفكار الانسان ومشاعره ورغباته وأشكاله قد تغيرت بشكل جذري في العملية التاريخية . ولهذا السبب نحتاج أن نفهم أن خمسمائة سنة من الانسانية ربما تصل الى نهايتها باعتبارها انسانية تحول نفسها الى شيء يجب أن نسميه “ ما بعد الانسانية “ . وتوضح لويز لوبيج عند تحليلها لكتاب كاثرين هايلز “ كيف تصبح ما بعد انسان How to Become Posthuman “ أن مصطلح ما بعد الانسان كوجهة نظر مبنية داخل تجليات تجسيد محددة وناشئة، وتكنولوجيا وثقافة، وتحدد أن ما بعد الانسان يشكل الانسان بحيث يمكن ربطه بسلاسة بالآلات الذكية . وطبقا لهايلز، لا توظف ذات ما بعد الانسان مثلما تفعل الدراما بين الشخصية . اذ تقوم علاقة الشخصية  بالدراما على مشاعر عقلها أو رغباتها الفيسيولوجية . وفي هذا السياق، تتفكك فكرة الانسانية الموحدة وحدود الذات المتحررة .
     ان الغاء مركزية الهوية الانسانية يقوض التناقضات الثنائية مثل الانسان/ الحيوان، والذكر/الانثى، والمادي /الافتراضي . الغاء مركزية الهوية الانسانية يخلق ظهور تهجين وهويات هجينة تفقد تكاملها وحدودها . وبشكل اصطناعي، تتضمن الهوية الهجينة عقول وأجسام انسانية متقلبة . ويمثل هذا التغير، مع ظهور الوسائط والثقافة الرقمية الذوات بعد الانسانية من خلال تفكيك الذوات المتحررة . وبهذا المعنى تعارض استعارة الجذمور البنية المسلسلة وتدعم البنية التعددية المركزية في نظرية ما بعد الانسان ودراما ما بعد الانسان . وبدلا من التعارض الثنائي، يمكننا أن نتحدث عن البنية الجذرية التي تتطور تلقائيا في الاتجاه المطلوب وتحافظ على التغذية الذاتية والقيود المرتبطة بها . والجذور من خلال بنيته الفوضوية والأحادية مضاد للتسلسل والمركزية . ولا يوجد مبدأ منظم الاستمرارية والتوافق بين شبكة عناصره . وبالتالي تحاول نزعة ما بعد الانسان أن تلغي مركزية الجذر وتدعم بنية تسلسلية مضادة . وقد قدم هذا الجزء من هذا الفصل تاريخا موجزا للكيفية التي تطورت بها الأفكار الغربية فيما يتعلق بالانسانية، وكيف كان مسار ما بعد الانسانية مفتوحا . وسوف يحلل الجزء التالي العملية الابداعية الجذرية في دراما ما بعد الانسان ومسرح ما بعد الدراما .
التحول بعد الانساني في مسرح ما بعد الدراما
     في دراسته التي تحمل عنوان « الأداء بعد العضوي : ظهور المسرح في فضاء افتراضي The Postorganic Performance : The Appearance of theater in Virtual Spaces “ ضم ماتيوس كيزي مصطلح ما بعد الانسان الى المسرح عام 1999 لكي يصف العروض التي تحرك علم جمال الوسائط والتكنولوجيا . وتركز نزعة ما بعد الانسان على قضايا التكنولوجيا والتغير، حيث لا توجد شخصية وممثل في بؤرة العمل تأخذ مكانها في فنون الأداء . وتتواءم نزعة ما بعد الانسان مع السياقات الثقافية المتغيرة وعلم الجمال . ومن خلال مادتها، تستدعي بعض النصوص طريقة بعد انسانية في القراءة أو تتبتكر بنيات دراماتورجية جديدة وشخصيات . فمثلا تحدث دراماتورجيا ما بعد الانسان في المسرح التكنولوجي، وهي أبعد ما تكون عن فنون الأداء المبنية على نص . وفي هذا الصدد، تتصور سلسلة ما بعد الانسان فراغا بديلا عن المسرح يستجيب لتغيرات زمنها . وتقترح كاثرين هايلز بشكل ملحوظ أربع مراحل مهمة لنزعة ما بعد الانسانية . وفي المرحلة الثالثة تركز هايلز على أفكار ما بعد الانسان عن الجسم باعتبار أنه الطرف الاصطناعي الأصلي استمرارا لعملية بدأت قبل الولادة . ومثلما نحتاج الى العودة الى أصول واستلهامات الانسانية لكي نفهم نزعة ما بعد الانسان وتطورها وابتكاراتها وحدودها الجديدة وبنيتها غير التسلسلية في الدراما، وكما هو الحال في السمة الاصطناعية عند هايلز، فاننا نحتاج الى الالتفات الى الأصول الدرامية المترابطة والتغيرات التاريخية والمراحل . فبينما يشير المقطع “post” الى أن ما بعد الانسان يأتي بعد الانسان، أي أنه تال للانسان في الترتيب الزمني، ويقترح أيضا أنه في تقارب مع الانساني، بمعنى أنه مايزال يعتمد على الانسان وجوديا . وتعرف كارين يورس مونبي المسرح بعد الدرامي بأنه سيرة ذاتية للمسرح الدرامي، لأن السيرة الذاتية تمثل اعادة اكتشاف المعرفة الموجودة بداخلنا، واعادة اظهار المعرفة المتولدة أثناء التجليات السابقة . وعلى غرار السمة الاصطناعية عند هايلز تترابط المراحل التاريخية ومختلف العصور تحت اسم “النص التشعبي hypertextuality” في مسرح ما بعد الدراما .
     ومثل مفهوم ما بعد الانسان, فان مسرح ما بعد الانسان مفهوم تطوري . وفي هذا المفهوم التطوري، تركز نزعة ما بعد الانسان على علم الجمال، ونظرية الفن, والوسائط، والعرض الرقمي في فن الأداء والمسرح . ويرسخ تحليل ماثيو كيزي “ ظهور المسرح في الفراغ الافتراضي The appearance of theater in the virtual space” موضوعا جماليا فريدا وصيغ تكنولوجية وسائطية في القرن العشرين، ويحدد مكان المسرح في مرحلة ما بعد الانسان . وفي هذا السياق يخلق الأداء الوسائطي أجساما بعد انسانية أشارت اليها أعمال تادووش كانتور، وتشكل فهم المسرح المعاصر . وفي تصريحه “ مسرح الموت Theater of Death “ يؤكد كانتور أن الممثل الأول جلب معه رسالة كاشفة نقلت من مجال الموت أصابت المشاهدين بصدمة ميتافيزيقية . ولا شك أن تحلل الممثل والفكر المتمركز حول الجسم هو أحد عناصر المسرح بعد الدرامي، فلم يعد الجسم الذي يمثل الذات الانسانية بالمعنى الأساسي والضروري للوجود الموحد مرئيا ( مراقبا). ففي مسرح كانتور، حيث يختفي الجسم الانساني للمؤدي وراء ثقل النص والأشياء, التي تمزق تعريف المسرح الدرامي بالأشياء التي تتحرك بشكل روحاني. بمعنى آخر، لم تعد الذات الانسانية المركزية تمثل الحقيقة الأدائية .  
     وقد ساهم باحثون كيزي وجياناتشي وهاراواي وهايلز في مصطلحات مثل المسرح الافتراضي، ومسرح السايبورج، والمسرح متعدد الوسائط، والأداء السيبراني، وشكلوا مفاهيم مثل الجسم بعد الانساني، والمسرح بعد الانساني، والذوات الهجينة . ومن خلال مزج التكنولوجيا والوسائط بالأداء تم تهجين الهويات والذوات . فاندفع المتفرجون لمشاهدة ذات ما بعد الانسان على خشبة المسرح . وذات ما بعد الانسان تعني أن الذات الآن قد تحولت تقنيا الى كيان أداء متكامل، بعكس التفكير المسرحي الغربي التقليدي . وبالتالي، تحتاج خشبة المسرح الجديدة ابتكار أشكال أداء هجينة في المسرح تربط وتمد وتستكشف بين الفعلي الحي والوسيط . فالفجوات بين الحقيقي والافتراضي والذات بعد الانسانية يؤدي الى الجدال والاضطراب بين المتفرجين ذات ما بعد الانسان لم تعد ثابتة وغير قالة للتغير، ورغم ذلك يمكن تشكيلها كذوات هجينة .
    وقد ناقش كارل لافري وكلير فينبور ديلاني، الجماليات غير المتمركزة حول الانسان في المسرح في كتابهما “ تأمل مسرح العبث Rethinking of the Theater of the Absurd”، وكان ليباج ولويس فان دين هينجل من بين الأكاديميين الذين كونوا رابطة بين الرؤية غير المتمركزة حول الانسان والمسرح . والمسرح بطبيعته شكل فني متمركز حول الانسان . وقد قدم أرسطو المسرح باعتباره محاكاة وتمثيل . ويحتاج هذا الشكل الفني المتمركز حول الانسان الى الأداء الانساني ويفضله . ورغم ذلك رفضت عدة أنواع فنية طليعية وحديثة أفكار التمركز حول الانسان . فقد كانت الهويات الانسانية والصراعات هي مادة المسرح منذ آلاف السنين، ليس فقط بسبب المفهوم التراجيدي، ولكن من خلال الكوميدي والساخر والعبثي والمجازي والملحمي، والمسرح الطبيعي والبريختي وما بعد البريختي وكثير من أشكال الأداء الهجينة المعاصرة .
     وهناك صلة لا جدال فيها بين كل من نظرية ليمان وجذور نزعة ما بعد الانسان . ومثل البنية الجذرية، نلاحظ أن دراما ما بعد الانسان ومسرح ما بعد الدراما ليس لهما تفسير أو شكل معين . فكل من مسرح ما بعد الدراما ونزعة ما بعد الانسان هما مصطلحان شاملان لمختلف الأشكال المسرحية الهجينة غالبا التي تطبق عليها كل التأكيدات التالية أو بعضها . وبالتالي يمكن أن يكون مصطلح “ مسرح ما بعد التمركز حول الانسان postanthropocentric theater “ مصطلحا ملائما لهذا الشكل المهم الذي يتبناه مسرح ما بعد الدراما . وبدلا من القاعدة التقليدية التي تتبنى تلقائيا الفكر التتابعي ( الخطي)،تظهر البنية متعددة المركز مع نزعة ما بعد الانسان . ومثلما يمثل مبدأ تعدد الألسنة polyglossia نصوص المسرح متعددة اللغات في الجوانب بعد الدرامية، تظهر البنية غير الخطية المتناقضة مع اللسان المغاير . فالطريقة التي تعمل على تغيير لا خطية الخطية بشكل أكبر تستدعي طريقة التفكير الجذرية .  ولأن ما بعد الانسانية هي جذرية عرضية، فان حصر جذورها كحركة ومجموعة من الأعمال النظرية لا يمكن أن يتبع بسهولة مسار خطيا زمنيا، وبالتالي فان النص مفكك بالضرورة . ومن خلال البنية الجذرية، فان مسرح ما بعد الدراما أكثر من مجرد نصوص، “اذ لم يعد المشاهد في موقع واحد، ولم يعد أيضا يشاهد شيئا له بداية ووسط ونهاية واضحين . اذ أصبحت اعادة كتابة النصوص أهم . والنص الذي يظهر من جذور وتقاليد محددة يمكن أن يكتسب متغيرا وملامح غير متوازنة خلال الابتكار التقني والوسائط وكثافة العلامات . ويشارك ليمان جرترود شتاين في فكرتها بأنه “ لن يكون هناك دراما ولا قصة، وحتى الأبطال والأدوار التي يمكن التعرف عليها سوف تكون مفقودة . المسرح بدع الدرامي بالنسبة لجماليات شتاين له أهمية كبيرة، لأنه يحلل كيف يتفكك الجذر الدرامي ودور الشخصيات  وكيف يتصرف المشاهدون ويفكرون بحرية بدون الالتزام بحبكة للقصة وأفكار البطل/ البطلة . وفي هذا السياق فان مسرح ما بعد الانسان والمسرح بعد الدرامي هما عملية في تفاعل مستمر .
     وعندما نحلل العلاقة بين مسرح ما بعد الدراما ودراما ما بعد الانسان، يمكننا أن نجد فيهما هدف تفكيك التمركز حول الانسان وأفكار الشخصية . وعندما نركز على مفاهيم مسرح ما بعد الدراما ودراما ما بعد الانسان بالاضافة الى محو الشكل التقليدي والجسم والشخصية من الموقف الرئيسي، ونفكك النص المبني على الدراما والذات ونكوّن بنية لا تاريخية، فاننا سوف نشك في المركز عندئذ . ولذلك تناقش الينور فوش منطق الثلاثة فتقدم أمثلة من البنية التراجيدية عند أرسطو : الانقلاب والادراك والمعاناة، ونظرية الديلكتيك العامة عند هيجل : المقولة والنقيض والتركيب، وانقسام أشكال الدراما عند سوندي وليمان : المسرح ما قبل الدرامي والمسرح الدرامي ومسرح ما بعد الدراما، وتقسم روزي بريدوتي الدراسة الدقيقة للانسانية الى : رجل وانسان وما بعد الانسان : « اذا اعتادت الدراسة الملائمة للانسانية أن تكون رجلا، وكانت الدراسة الانسانية الملائمة هي الانسان ... فان الدراسة الملائمة لما بعد الانسان هي ما بعد الانسان نفسه . ومسرح ما بعد الدراما الذي يمثل الدراسة الملائمة للدراما يمكن أن تشكل خطابا جديدا وعلامات مسرحية عن العروض التجريبية، ودور الجمهور، وأدوات الوسائط الجديدة، واستخدام التكنولوجيا في المشهد، وتفكيك وجود الشخصية . وبينما يشرح ماثيو كيزي الحاسوب المساعد في المسرح يذكر أن “ هناك احتمال آخر للحاسوب الذي يساعد الأداء، وهو ما يتيح للجمهور الوصول التفاعلي للأداء من خلال بنوك وبيانات الصوت والصور النصية المتشعبة التي يمكن للجمهور من خلالها الوصول الى عملية الأداء وتوجيهها .
     تشكل كل من دراما ما بعد الانسان ومسرح ما بعد الدراما بنيات متعددة من خلال التغذية من مختلف الجذور، بدون أن ترفض النظريات والرؤى الفلسفية السابقة . ولدعم هذه البنية وهذا التفكير يؤكد ايهاب حسن أن كل من فوكوه وليفي شتراوس، لا يقصدان نهاية الانسان صراحة بل يقصدان نهاية صورة معينة لنا، الصورة التي تشكلت من خلال ديكارت مثلا، ومثل الصورة التي تشكلت من خلال مور أو ايراسموس أو مونتان . وبجانب الأفكار التي تفككت في عصر التنوير، ظهرت دراسات النزعة الجنسانية والنسوية وما بعد الاستعمار وهي أنماط شائعة في العمل التجريبي لنزعة ما بعد الانسان . وفي هذا السياق كانت نظريات الطليعة، مثل “ نظرية الدراما الحديثة “ لبيتر سوندي، و” مسرح القسوة “ لأنطونين أرتو، والمسرح الملحمي لبريخت هي النماذج الشائعة في العمل التجريبي للمسرح بعد الدرامي . ومثل فكرة ايهاب حسن “ ليست نهاية الانسان “، فان المسرح بعد الدرامي  لا يدعم   النهاية الصريحة للدراما بل نهاية الشكل الدرامي المحض، لأننا يمكن أن نقلب وجهة نظرنا ونرى المسرح كظاهرة قابلة للتفسير من خلال مفاهيم ونظريات أخرى ( تقتحم حدود المجال) . اذ يجب أن نفهم السلوك المحاكاتي (سلوك الممثلين المحترفين والجمهور) كمثال لاستراتيجيات ذهنية وقدرات ادراكية, تجعلنا قادرين أن نعيش في المجتمع . وربما تخلق الأفكار غير التقليدية وغير المتمركزة حول الانسان وتطوراتها فوضى وأزمة في الدراما، مع أنها تدعم الاستراتيجيات الادراكية والمشاركة الفعالية والبنية التجريبية .
....................................................................................
 • هذه المقالة هي الفصل السابع عشر من كتاب « نظريات ما بعد في الدراسات الأدبية والثقافية Post- Theories in literary and cultural studies
 • مسعود جونيش يعمل استاذا بجامعة Aydin Adnan Mederes in Turky


ترجمة أحمد عبد الفتاح