استنى بختك !!

استنى بختك !!

العدد 894 صدر بتاريخ 14أكتوبر2024

عرضت فرقة الريحاني مسرحية «استنى بختك» أواخر ديسمبر 1938 واعتبرها النقاد من المسرحيات الكوميدية الأخلاقية، أي التي تجعل المشاهد يضحك مع التفكير في المواقف!! وكان المثل الحيّ لهذا نسيان أحد تجار القطن موعد البيع في البورصة، وبدلاً من خسارته، نجده يربح لأن نسيانه أدى إلى تأخير الوقت وفي هذ التأخير تم ارتفاع سعر القطن في البورصة، وبدلاً من اتهامه بالكسل والنسيان يتم مدحه لفراسته وحسن تدبيره بوصفه ذكياً استطاع حسن التصرف والتدبير!!
تدور أحداث المسرحية حول «تيسير أبو الذهب» الذي عاش أربعين عاماً في سوء حظ، وكان يعمل عند «عبد العظيم بك» المقاول، وبعد وفاته كتبت له زوجته خطاباً إلى صديقتها «شريفة هانم» كي تتوسط له في العمل طرف زوجها «بهجت باشا المفتش»! وحمل تيسير الخطاب وذهب لمقابلة شريفة هانم ولكن سكرتير زوجها كان يحول بينه وبين هذه المقابلة، وكانت شريفة هانم ترفض مقابلته من جهة أخرى، حتى وقف مكتوف اليدين حائراً «لمن يسلم الخطاب؟» وبهجت باشا هذا رجل يرشح نفسه للانتخابات وينفق ويضحي بكل شيء في سبيل مشروعاته الكبرى التي تصل به إلى الشهرة، غير أنه حدث في الوقت نفسه الذي ذهب فيه تيسير أن وصل الباشا إلى المنزل قادماً من الخارج. ولاحظت زوجته استبدال طربوشه فسألته عن سر هذا الاستبدال فاضطرب واتضح لها أنه كان في منزل «سنية» الممثلة واستبدال الطربوش حدث هناك. وهنا تجلت غيرة المرأة بمعناها الحقيقي على زوجها، أو على من تحب، وصممت أن تنتقم بأي وسيلة من وسائل الانتقام فماذا تفعل؟ نصحت لها صديقتها «عدالات» أن تجعل نيران الغيرة تدب في قلب زوجها بأن تمثل الحب مع أي شخص ما، تمثيلاً بعيداً عن الحقيقة، من خلال شخص تستأجره لهذا الغرض. وحينئذ جاءت الفتاة (بنانا) التي تتصل بصلة قربى لبهجت باشا ترجو شريفة هانم أن تقبل (تيسير) وعززت طلبها بأنها لمست فيه الطيبة، ووجدت الفكرة بأن يقوم هو بتمثيل دور العاشق! وطمأنت بنانا تيسير بأن مستقبله لا بد أن يكون سعيداً جداً، فكما أنه قضى أربعين عاماً سيء الحظ لا بد أن يقضي أربعين عاماً أخرى أسعد الناس حظاً لأن هذه هي نظرية الشاعر العظيم أبو فراس! فقابل تيسير حديث بنانا بالسخرية والاستهزاء في بداية الأمر، لكنه آمن به أخيراً إذ استدعت شريفة هانم تيسير وطلبت إليه أن يقوم بتمثيل دور روميو نظير مبلغ ثلاثين جنيهاً في الشهر عدا الطعام والشراب والمصاريف! ومن ثم قدمته إلى زوجها بهجت باشا ترجو أن يلحقه في وظيفة طرفه ولاحظ الباشا من حديث تيسير أنه رجل يتحدث بطلاقة لسان وفلسفة عالية فقال له: «إيه رأيك لو عملتك مدير للجرنال بتاعي وتاخد ??? جنيهاً في الشهر؟». وكان تيسير كلما فوجئ بإتمام إتفاق من هذه الاتفاقات التي ستدر عليه الأموال يذكر قول أبو فراس. ولم تمض أيام قليلة حتى كان هو الذي يرافق شريفة هانم في غدواتها وروحاتها ولكن لم يشك بهجت باشا فيه مطلقاً .. والجريدة فتحت أبوابها وكانت كل يوم تزداد الكمية التي تباع منها بفضل أسلوبها الجديد المبتكر .. وانقلبت حياة تيسير التي كانت كلها تعذيباً وتشريداً إلى سعادة وهناءة. وبهجت باشا كان كلما رأى نجاح جريدته يثني على جهود تيسير ولا يشك فيه بأي حال مهما سمع عنه وعن نزهاته مع زوجته شريفة هانم وهذا ما كان يضايقها جداً. إلى أن تعمدت شريفة هانم إبلاغ نزهات تيسير معها لزوجها بقصد أن تستفزه للغيرة فصمم على طرده واستدعى في الحال الأستاذ «الخرطوشي» الذي كان مرشحاً لإدارة الجريدة من قبله، ولكن من يوم أن صمم بهجت باشا على طرد تيسير كان يفاجأ كل ساعة بنبأ محزن أو حادث مرعب .. وبمجرد حضور تيسير لتسليم وظيفته إلى من يخلفه وهو الخرطوشي! تبين الفارق. كان التليفون يدق فإذا رد عليه الخرطوشي تلقى نبأ كارثة .. ويدق مرة أخرى فيرد تيسير فإذا بأسعار البورصة ترتفع أو كنز يكتشف في منزله حتى فوجئ بنبأ أخير هو أن اسمه - أي اسم بهجت باشا - قُيد في قائمة الوزارة الجديدة .. وحينئذ آمن بهجت باشا بأن تيسير هذا حظه ليس مقصوراً عليه بل والحظ أيضاً موجود في كل مكان يوجد فيه فعانقه، وصافحه وأعاده إلى منصبه. وكاشفته شريفة هانم بالحقيقة .. فزاد ثقة واغتباطاً. وكانت مكافأته الأخيرة أن يتزوج بنانا وهي الفتاة التي أبلغته بنبوءة أبو فراس وأحبته حباً عميقاً من صميم قلبها. وكان لبنانا خطيب مسن يتقرب إليها فتساءل: «أمال أنا راح أتجوز مين؟” فأجابه تيسير: استنى بختك!!
وقال ناقد مجلة «الصباح» - الذي وقع على مقالته بحرف العين - عن إخراج المسرحية: بذل الأستاذ نجيب الريحاني في الإخراج مجهوداً مشكوراً جديراً بالتقدير. وكان الجمهور يضحك باستمرار للمشاهد التمثيلية الحيّة التي تأخذ باللب، ويكفي أن يراها صامتة. وهذه خطوة جديدة موفقة كل التوفيق في الإخراج المبتكر تدل على أن المخرج في استطاعته أن يتغلب بإخراجه على مجهود المؤلف. ولكن متى يكون ذلك؟ حينما يكون المخرج فناناً كنجيب الريحاني درس من الفن ما يؤهله لإبراز مشاهد الفن الصحيح، ولإخراج شخصيات تخدم التمثيل على أساس متين. والشيء الذي لاحظناه في إخراج نجيب عنايته الفائقة بإظهار مناظر جميلة متقنة وموبيليات فاخرة تكون كأنموذج لموديل مقبل ولعل هذا هو إحدى الخدمات التي يؤديها المسرح للجمهور، فالمسرح الأوربي كثيراً أو غالباً هو أداة صالحة لإذاعة (موديلات) الموبيليات والفساتين. أما «التمثيل» فالأستاذ نجيب الريحاني، هو بعينه تيسير أبو الذهب الذي ساء حظه 40 عاماً والذي كتب له حسب نظريات «أبو فراس» أن يعيش 40 عاماً أخرى في سعادة ونغنغة، وكان يؤدي دوره كما تشاؤه الطبيعة .. والطبيعة هي بعينها الإجادة والتفوق. فإذا كنا قد هنأنا نجيب قبل الآن على تمثيل أدواره ففي هذه المرة نقدم له أضعاف تهانينا السابقة. أما السيدة ميمي شكيب فمثلت دور «شريفة هانم» فكانت ظريفة وبارعة ويعتبر هذا الدور مقياساً حقيقياً للسيدة ميمي شكيب كممثلة ناجحة. والسيدة زوزو شكيب قامت بدور «بنانا» تلك الفتاة التي أشفقت على تيسير وظلت تعطف عليه حتى أحبته وتزوجت به فكانت موفقة كل التوفيق. والسيدة ماري منيب في كل دور يعهد به إلى هذه الممثلة النابعة تجيده إجادة تامة وهي في هذا الدور «عدالات» لا تقل في إجادتها عنها في السابق. وعبد الفتاح القصري مثل «بهجت باشا» المفش هذا الرجل الذي أغرم بالشهرة ورشح نفسه في الانتخابات وأصدر جريدة، وقد أعطاه المؤلفان أهمية كبرى في دوره فكان هذا من العوامل الهامة في إظهار القصري كممثل قادر على تأدية أدوار تتساوى وأدوار البطولة. أما محمد حسن الديب لم يكن دور «السكرتير» دوره الحقيقي أو على الأصح ليس كالأدوار التي عهدناه يمثلها لكنه مع ذلك أداه بنجاح وتفوق. وحسن فايق قام بدور الأستاذ الخرطوشي فكان مثيراً للإعجاب. وزينات صدقي قامت بدور «سنية» وهو دور صغير جداً ولكنها أدته بنجاح يدل على مبلغ تقدمها. ومحمد مصطفى مثل دور مبروك، وهو دور صغير ناجح. ومحمد كمال المصري هو الخطيب المتصابي الذي أراد بماله أن يفعل كل شيء فكان ظريفاً جداً وناجحاً كل النجاح. والفريد حداد قام بدور سمسار أراضي شرق الأردن فكان لا بأس به.
وكتب الناقد «محمود صادق سيف» كلمة في مجلة «الصباح» بعنوان «كلمة إلى الأستاذ نجيب الريحاني بمناسبه ظهور روايته الجديدة»، قال فيها: جلس صديقان على قهوة في شارع عماد الدين يتجاذبان أطراف حديث عن التمثيل. ولم أكن لأعلق أقل اهتمام لحديثهما عن بعض الفرق ولا عن رأيهما، فيما إذا كانت الحكومة قد أخطأت أو أحسنت صنعاً في هيمنتها على الفرقة القومية، حتى جعلت تغدق عليها الأموال، ثم مضت تعبد طريقها بالذهب الوهاج، بينما الفرقة تمشي متعثرة في هذا الطريق الذهبي مشي الحفاة على شوك القتاد، كذلك لم يكن من شأني أن أهتم بكلمه وجهاها إلى الأستاذ يوسف وهبي، أو إلى أي ممثل سواه. ولكن الذي استرعى سمعي وأثار اهتمامي بنوع خاص، حديث فضفاض أفرغاه على شخصية الأستاذ نجيب الريحاني، وكانا متحاملين في رأيهما أيما تحامل!! قال أحدهما لصاحبه وهو يحاوره: لقد مضى على الريحاني ثلاثة أشهر تقريباً، وهو يعمل مع زميله بديع خيري في تأليف رواية جديدة. وإني لأخشى أن تكون النتيجة على حد قول القائل: سكت دهراً ونطق كفراً! أو على قول المثل العربي: تمخض الجبل فولد فأراً. قال الراوي: وكان عن كثب منهما رجل وقور حنكته التجارب وحلب الدهر أشطريه، فما أن سمع حديثهما حتى أنبرى لهما يقول: ليست الكفاية في كثرة الإنتاج، ولكن الكفاية في الإجادة.  وهل نسيتما - يرعاكما الله - ما جرى للكلبة مع اللبؤة، فقالا: وكيف كان ذلك: قال: زعموا أن كلبة وقفت مع اللبؤة موقف الند للند، تنافسها في كثرة الإنتاج فقالت: إني ألد كل عام ثمانية جراء، بينما أنت لا تلدين إلا جرواً واحداً .. فقالت اللبؤة: نعم صدقت، فأنت تلدين ثمانية جراء، وربما أكثر ولكنها كلاب، وإني لا ألد كل عام غير واحد ولكنه سبع! هذا شأن الريحاني وهو المعدم المقل - كما يدعون - مع منافسيه الذين يكيلون الروايات جزافاً بغير حساب، وقد تكون الرواية في جدتها حين تمثيلها لأول مرة كالثوب الخرق الذي عدا عليه البلى، ثم إذا نظرنا إلى هذه الروايات التي يقدمونها للجمهور في تأليفها وإخراجها «سلق بيض» نراها لا يكتب لها من البقاء ما يزيد على عمر الوردة، ثم لا تلبث أن تذوى فتذبل فتموت، ثم يكون مآلها ومصيرها إلى سلة المهملات. ولقد شاءت الأقدار أن تحقق نظرية الرجل الحكيم في منافسة الكلبة للبؤة فلقد افتتح الريحاني الموسم بروايته الجديدة التي أسماها «استنى بختك» وقد قيضت لي العناية أن أكون ضمن شهودها، فما كدت أنتهى من الفصل الأول منها، حتى اعتقدت بأن الريحاني قد اتحف رواد مسرحه بدرة يتيمة، بل بتحفة غالية تعتبر بحق درة تاج التمثيل في هذا الموسم وما سبقه. ولقد تكشفت لي رواية «استنى بختك» لا عن عمارة في سبع طبقات كما ذهب في تهكمه ذلك المكابر المتعنت، بل تكشفت عن طود شامخ من العظمة والجلال، وإن شئت فقل عن عمارة شاهقة من ناطحات السحاب!! شاهدت الرواية في دهش وذهول وأنا مأخوذ بروعتها وحسن السبك في حبكتها ونسج بردها القشيب وقد شعرت بتقدير عظيم يختلج به فؤادي نحو ذلك. المؤلف العبقري الموهوب الأستاذ بديع خيري الذي وفق في هذه الرواية توفيقاً منقطع النظير، أما الأستاذ الريحاني فكان موفقاً في ثلاث نواح من نواحي الإجادة أو في تشييد ثلاث أركان من دعائم القوة التي بدت بها الرواية فكان موفقاً كمؤلف قدير شاطر زميله بديع في التأليف. وكمخرج لا يجارى في هذا الميدان، وأخيراً كممثل كوميدي لا يشق له غبار في هذا المضمار، وفي خفة الظل التي ضرب فيها الرقم القياسي حتى صح فيه قول الشاعر: «لو أن خفة روحه في رجله .. سبق الغزال ولم يفته الثعلب». ولقد كنت أحسب بادئ ذي بدء أن لعين الرضا أثراً فيما يختلج به فؤادي من الشعور بنجاح الرواية. ولكن ما كاد يسدل الستار على الفصل الأول من الرواية حتى انطلقت متغلغلاً بين جمهور النظارة أتسقط أحاديثهم عن الرواية ومبلغ تأثرهم بها، فرأيت الجميع ولا حديث لهم إلا الإعجاب بالرواية في زهو وخيلاء، حتى لكأن كل واحد منهم هو مؤلف الرواية وناسج بردها. وإن أنس لا أنسى كلمة طيبة جهر بها صحفي معروف في معرض التقدير، إذ قال: «لو أن ما بذله الريحاني من جهود جبارة في إخراج هذه الرواية قد وزع على سائر الفرق التمثيلية، لبلغت كلها الحد الأقصى من الكمال. وإني كمؤلف مسرحي سبق له أن ساهم في التأليف فترة من الزمن مع الزميلين بديع والريحاني، لا أستطيع أن أخفي إعجابي بما تجلت به مواهب بديع فيما وفق إليه من تفوق أغبطه عليه فأهنئه على هذا الانتصار خالص التهنئة. أما الريحاني في رواياته السابقة فهو وإن كان قد أصاب من النجاح فيها سهماً وافراً إلا أن هـذه الرواية تمتاز كثيراً عما عداها من الروايات السابقة بأنها ليست مجرد رواية كوميدية عامرة بالفكاهات المستملحة والمباغتات الطريفة المثيرة للضحك والإعجاب، بل أنها تعتبر بحق فسيولوجيا خلقية تتناول الأخلاق والعادات المستهجنة المتغلغلة في جسم المجتمع بشيء من النقد اللاذع والتحليل الخلقي الدقيق، كما أنها تصور بأدق تصوير نفسية بعض الأفراد لا سيما في الشخصيات البارزة منهم، وأن المشاهد ليستطيع أن يقيس أي فرد من أفراد الرواية بشخص معين صادفه في حياته. وإني لأتخيل المؤلفين الفاضلين وهما مكبان على عملهما في تأليف هذه الرواية، وكأني بكل واحد منهما طبيب نفساني. يعالج أمراض الهيئة الاجتماعية، وهو يعمل بقلمه في استئصال تلك العلل ما يعمله الطبيب الحاذق بمشرطه في مواضع الداء من جسم المريض. وصفوة القول إن هذه الرواية كانت دليلاً ملموساً فوق تلك النهضة المباركة، والخطوة الجريئة التي خطاها الريحاني في إعلاء شأن الفن، وفي ظني بل يقيني أن الريحاني لو سار على هذا النهج من رواياته المقبلة فإنه لا شك سيصل إلى الغاية التي تصبو إليها نفسه الطماحة، وأنه سيبلغ الذروة من أعلى درجات الكمال. [توقيع] محمود صادق سيف.
وفي يناير 1939 نشرت جريدة «الاتحاد» إعلاناً بعنوان «أم كلثوم الريحاني الشوا»، جاء فيه: «في تمام الساعة التاسعة من مساء اليوم 15 يناير الجاري تقيم جمعية المساعي الخيرية المارونية بمصر مهرجانها السنوي الكبير بدار الأوبرا الملكية، وسيشمل برنامج الحفلة على تمثيل الأستاذ نجيب الريحاني المشهور رواية «استنى بختك» وكلها مفاجآت وفكاهات، وعلى أدوار غنائية طريفة لمطربة الشرق الكبرى الآنسة أم كلثوم، وعلى قطع موسيقية مختارة لأمير الكمان الأستاذ سامي الشوا. وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بشمول هذا المهرجان برعايته الملكية السامية. ولا شك في أن محبي الطرب والفن وأنصار الإحسان يقبلون على حضور هذه الحفلة النادرة التي يخصص دخلها لمساعدة الفقراء المعوزين.
وفي مارس 1939 قالت مجلة «المصور»: شهد رواد مسرح ريتس في الأسبوع الماضي أحمد حسنين باشا الأمين الأول لجلالة الملك حيث شهد رواية «استنى بختك» كلها للريحاني.


سيد علي إسماعيل