«يوميات ممثل مهزوم».. لا تشتري فنك على حساب حياتك

«يوميات ممثل مهزوم»..  لا تشتري فنك على حساب حياتك

العدد 895 صدر بتاريخ 21أكتوبر2024

في إطار فاعليات الدورة السابعة من مهرجان القاهرة الدولي للمونودراما قدم على مسرح الغد العرض المسرحي يوميات ممثل مهزوم من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية تأليف (عصام نبيل) ويمثل داخل المهرجان مصر والسعودية حيث أن العرض من بطولة (إبراهيم عمرو) والذي يمثل مصر، ومن إخراج (مطر زايد) من السعودية ويمثلها، وهما طالبان بالمعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج.  والفكرة الأساسية للعرض أنه ليس من المعقول أو من الصحيح أن يترك الإنسان التفكير في جميع مناحي حياته ويهتم فقط بالسعي وراء موهبته لتحقيق حلمة، فلابد أن يفكر ويسعى بين كل مناحي حياته، فلا يطغى حبك للفن على حياتك، وقد ناقش العرض أزمة الفنان الحقيقي المبدع صاحب القضية والرسالة، وليس الفنان المؤدي، وما يعانيه هذ الفنان المبدع في وقتنا الحالي من ازمة التشغيل، واستلهم المؤلف فكرته من نص أنطوان تشيخوف والذي عرف في الترجمات العربية باسم أغنية التيم او أغنية البجعة، حيث يجد الممثل نفسه وحيدا مع ملقن بعد انتهاء أخر ليلة عرض قبل خروجه للمعاش فقد بلغ ثمانية وستين عاما ، فيستعيد رحلته الفنية الحافلة ويتحسر على أنها انتهت أو أوشكت على الانتهاء، فقد عاش وحيداً ولم يتزوج لإنه تفرغ لحياته كممثل وأضاع فرصته في الزواج من فتاة أرستقراطية، فكانت أغنية وداعه الأخير شبيهة بأغنية البجعة وهي تقترب من نهايتها.   
 تدور أحداث العرض المسرحي حول إنسان مشرد يعيش في الشارع نتيجة أنه كرس حياته لفنه فقط ولن يفكر أبداً كيف يعيش حياة مستقرة هادئة  وسليمة، فانتهي به الحال بأن أصبح مشرداً في الشوارع، ويعيش مع صندوق ذكرياته يتخذ منه سريراً ينام عليه، يجمع فيه بعض من مقتنيات والده المتوفى، وبعض من مقتنياته الشخصية التي صنعها بنفسه وكان يرتديها أو  يستعملها إكسسوار في بعض من عروضه المسرحية، وبعض من شهادات التقدير الذي حصل عليها أثناء حرصه على تحقيق حلمه بأن يصبح ممثلاً مشهوراً، يتفاعل هذا الممثل مع من حوله من البشر في إطار أنه يحكي عن حياته وسبب وصوله إلى هذه الحالة المتردية على الرغم من أنه كان في الماضي فنان متميز ويقدم فن راقي، وقام بتمثيل العديد من الشخصيات في مسرحيات مختلفة.
في نص العرض تناص مع نصوص مسرحية أخرى فقد استعار بعض الشخصيات ومنها شخصية أوديب من نص مسرحية أوديب ملكا لسوفكليس، فاستخدم الاسم فقط ويطلقه الممثل علي أحد الجالسين من الجمهور ويتحدث معه على أساس أنه الملك ويبلغه أن الحياة في الحارة أصبحت مزعجة، ومهلكة، ثم يذكر شخصية الفتي مهران من نص عبد الرحمن الشرقاوي ويقول: (ليست العبرة أن تقهر جوعك، لكن العبرة أن تقهر إشفاقك من جوع صغارك، لأن في ذلك الإشفاق، قد يسقط كل قوي وشريف) فهي جملة مهمة في العرض حيث أن المقصود بالخطاب كل الجمهور، حيث نجد الممثل يصعد على  السلم ليوجه خطابه للجميع، ومن نص صلاح عبد الصبور ليلي والمجنون يستدعي شخصية سعيد المناضل ويخبره بأنه يعرف مكان ليلى فقد كان عبد الصبور يشبه مصر بليلى وهي الفتاة التي كان يحبها سعيد، ثم يستدعي شخصية أنطونيو من نص شكسبير أنطونيو وكليوباترا وقصة  الحب بينهما، فيقول (إن كأس السم لم يعد يخلصنا من عذابات الروح، كل يوم نجتر أوجاعنا، ومن جديد نشرب السم فلا يصيبنا إلا تقطيع أحشائنا لنسقط مغشياً علينا، وهكذا نموت كل ليلة، ونستيقظ متوجعين كل نهار، أما أنت فقد استرحت يا صديقي بمجرد رشفة واحدة) فيريد القول أن السم الآن لم ينهي حياة الإنسان ففي عصرنا هذا نتجرع السم يومياً لكن الموت لا يعرف طريقنا فالحياة دوامة تدور على نفس الوتيرة (اللي بنبات فيه نصبح فيه) لتوضيح مأساة حياتنا في الوقت الراهن، وهي جملة خطابية أخرى، ونجدة يستدعي أغنية عبد الحليم حافظ (أهواك واتمنى لو أنساك وانسى روحي وياك... وإن ضاعت تبقى فداك لو تنساني ) ليتذكر انبهاره بأول كاست أشتراه له والدة، ثم يسترجع ذكرياته ويستدعي مرة أخرى شخصية سعيد من نص ليلي والمجنون لصلاح عبد الصبور ويقول: (هذه أخر أشعاري، العنوان طويل، يوميات نبي مهزوم يحمل قلماً، ينتظر نبياً يحمل سيفاً، هذه يومياته الاولى، يأتي من بعدي من يعطي الألفاظ معانيها، يأتي من بعدي من لا يتحدث بالأمثال، إذ تتربى أجنحة الأقوال أن تسكن في تابوت الرمز الميت،....) وتنزل الموسيقى بأغنية السيد درويش (أنا هويته وانتهيت ... وليه بقا لوم العزول) وينتهي العرض.
رؤية المخرج
   قام المخرج بتبسط دلالات العرض فعندما تدخل إلى صالة العرض تجد بعض الصفوف من الكراسي وفي المواجهة لهذه الصفوف تجد بعض من الصفوف الأخرى، وفي منطقة الوسط بين الكراسي يتكون الفراغ المسرحي ونشاهد على يمين المتلقي وضعت بعض الأشياء والتي تمثل ديكور واكسسوار العرض، فنجد صندوق يستخدم كسرير وبعض من  الأكياس كبيرة الحجم وضع بها بعض من متعلقات الشخص النائم على السرير، وبعض المحتويات الأخرى مثل كرسي صالون، برتكبل عليه ثلاث سلالم، صورة منظر طبيعي علقت على الحائط، بعد أن يستيقظ هذا الشخص الذي لم يذكر أسمه طوال العرض، والذي كان في حالة قلق، أثناء نومه فيشاهد الجلوس في صالة العرض، فيشتبك مع بعض منهم والجالسين على الأطراف ويضع على رأس أحدهم تاج والأخر طاقية، وعلى رقبة أحدهم شال، وعلى رقبة الأخر شال أخر، ويحاول أن يشتبك معهم بأن يقوم بحكي جزء من قصة حياته، لكن لم يتجاوب معه أحد، حيث أنه لم يعطيهم فرصة الحوار فهو يستخدمهم كتماثيل أو مانيكان، وقدم المشهد بشكل يرسم الابتسامة على وجوه الجمهور، ويشتبك معهم مرة أخري بلف الشريط الموجود داخل أشرطة الفيديو حول أقدام الكراسي التي  يجلس عليها الجمهور بشكل عشوائي ومعقد وكأنهم مشاركين معه في مأساته، ونستطيع القول بأنه من المؤكد أن بعض من الجمهور الجالس يتماهى مع مشكلة هذه الشخصية ولو بقدر ضئيل، وهذا الشخص يستخدم السلالم كمسرح، يقف عليها ويقوم بالأداء التمثيلي أمام المتلقي، ويقدم بعض من مشاهد مسرحياته السابقة.
 كان للصندوق الذي يتحرك على عجل دور وظيفي في العرض فاستخدم كصندوق يحتوي على ذكرياته، ثم  يتشَكل الصندوق بأشكال أخرى تساعد على تصاعد الأحداث لتصل الرسالة للمتلقي، وهذا الصندوق يعبر عن أماكن عديدة، وفقا لمتطلبات نص العرض، ومنها استخدامه كمسرح عندما وقف عليه الممثل، وشبهه بالمسرح القومي والذي كان يتمنى أن يموت على خشبته، وقام الممثل بفتح الصندوق وجعله على شكل كرسي وجلس علية، وجعله على شكل رسمة لرقعه الأولى التي كان يرسمها الأطفال على الأرض عندما كانوا يردون لعب الأولى وخاصة البنات، ولعب عليها كأنه طفل، وبعد انتهاءه من اللعب وقف ليوضح لنا  مدي معاناته النفسية عندما يتلاعب بمشاعره أحد مساعدي المخرجين الكبار لعشقه للتمثيل فيطلب منه مساعد المخرج أن يقوم بدور مقطف فيتعجب الممثل، ثم يطلب منه أن يقوم بدور جاموسة تنزل الماء ومن شدة الصدمة والغرابة وإصرار هذا الممثل لعودته للتمثيل مرة أخرى يقبل أن يمثل دور الجاموسة التي  تسبح في الماء، لكنه يكتشف أنه لا يجيد السباحة، فيهدم حلمة، لكنه يسأل سؤالاً مهما وهو: يا ترى من في هذه الدنيا مرتاح الذي يعلم أَم الذي لا يعلم، يا ترى من سيموت قبل الأخر، الذي عاش حياته كما ينبغي، أَم من عاش حياته كمتفرجاً ينتظر تحقيق أحلامه، ونجد الممثل يجعل  الصندوق على شَكل نعش يرقد فيها جثمان الممثل بعد موته، ثم يتطور الأمر ليعبر الصندوق عن مقبرة يدفن بداخلها الممثل ، ولكننا للأسف نرى أن هذا الشخص عندما مات ظهرت قدمة من النعش، كما تظهر قدمة أيضاً من داخل قبرة. لقد عاش هذا الرجل حياة بائسة مهزوما،
حتي في مماته لم يسعه القبر.
لعبت الإضاءة دورا مهما في العرض لتحقيق الحالة الشعورية والنفسية للممثل  فنجد ألون الإضاءة أزرق مائل للون السماء ليحقق الحالة العامة، واللون الأحمر عندما كان يتذكر عذابات حياته وصراعاته الداخلية بتوقفه عن العمل أثناء جلوسه على الكرسي، وفي منولوج الفتي مهران البؤرة الضوئية ذات اللون الأصفر لإظهار تعبيرات وجه الممثل، وعندما يشكل الصندوق على شَكل النعش ثم القبر نجد إضاءة الموفنج هيد المتداخلة المعبرة على كل الأفكار المشوشة والمتداخلة التي كانت في حياته.
أما الملابس الممزقة التي كان يرتديها الممثل تعبر عن أنه ممزق من داخلة وليس منظره الخارجي فقط هو الممزق.
امتلك إبراهيم عمرو أدواته واستطاع بأدائه المتميز ورسم البهجة على شفاه الجمهور أن يتفاعل معه المتلقي ويحوز قلوبهم وعقولهم ويجعلهم منتبهين له طوال العرض.
نشكر كل من شارك في هذا العرض ديكور (كريم معروف)، إضاءة (أحمد صبحي) مكياج (يارا أبراهيم)، تصميم دعاية (سعد الدين علي)، وكل من ساهم في خروج هذا العرض للنور والمعهد العالي للفنون المسرحية بقيادة العميد الأستاذ الدكتور أيمن الشيوي 


جمال الفيشاوي