العدد 895 صدر بتاريخ 21أكتوبر2024
تعد مسرحية «ماكبث» للكاتب الإنجليزي الشهير ويليام شكسبير واحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي تجمع بين الحوارات الفلسفية العميقة والدوافع النفسية المعقدة التي تعكس طبيعة الإنسان. قدرتها على التطور والاقتباس بما يتماشى مع التحولات الثقافية والاجتماعية جعلتها تظل في صدارة المسرحيات التي تُعرض وتُعاد صياغتها. في هذا السياق، تأتي مسرحية «ماكبث المصنع» التي عُرضت ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، والتي سبق لها أن حصدت العديد من الجوائز في المهرجان القومي للمسرح المصري. وهي تجربة فنية تقدم رؤية عصرية من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي في إعادة صياغة النص الكلاسيكي.
القصة والدراماتورج المسرحي
تدور أحداث المسرحية حول شخصية ماكبث، الذي يعمل في مصنع كان يملكه والده وعمه قبل أن يتولى الأخير إدارته بعد وفاة الأب. يعيش ماكبث حياة رتيبة ومتكررة بين العمل والنوم، لكن يسيطر عليه شعور عميق بأنه الأحق بمكان عمه، مما يدفعه إلى اللجوء إلى تطبيق ذكاء اصطناعي يُدعى «مدركة» ليساعده في تحقيق طموحاته.
الحبكة تبدأ عندما يسأل ماكبث التطبيق عن مصيره بعد خمس سنوات، فتجيبه «مدركة» بأنه سيصبح الرجل الأول. ولكن هذه الإجابة لم تكن كافية لماكبث الذي أراد تسريع الأمر، ليتم توجيهه إلى ضرورة التخلص من عمه. بمساعدة زوجته، التي تستغل تأثيرها لإقناعه بارتكاب الجريمة، يتجه ماكبث لتنفيذ خطة قتل عمه عبر حادث سير مدبر، محققًا بذلك طموحه في السيطرة على المصنع والحصول على الخوذة الذهبية التي ترمز إلى السلطة.
أزمة السلطة والعواقب الوخيمة
بعد استيلاء ماكبث على السلطة، تبدأ الكارثة. قراراته غير المدروسة تضع المصنع في أزمة كبيرة، خاصة بعد محاولاته زيادة الإنتاج دون تخطيط سليم، مما يؤدي إلى انهيار أوضاع المصنع. في الوقت نفسه، تعاني زوجته من الكوابيس والشعور بالذنب، ويبدأ طيف عمه الملطخ بالدماء في مطاردته.
تتصاعد الأحداث عندما يفقد ماكبث السيطرة على نفسه فيشك في خيانة زوجته وصديقه له بعد أن جعلته مدركة يشك فيها ويقتل زوجته وابنه أمام آلاف الأشخاص.
يسأل ماكبث مدركة للمرة الأخيرة عما كان سيحدث لو لم يقتل عمه فقالت ستكون نفس النتيجة. هنا أدرك ماكبث تماما الخطيئة التي وقع بها وكما يقول المثل «لو صبر القاتل على المقتول لكان مات وحده « ثم يحقق نبوءة مدركة الثانية حين أخبرته ان البداية شعلة والنهاية شعلة فيشعل النار في كل ما حوله بعد أن قتل زوجته وطفله الذي لم يظهر للنور. في مشهد يشبه التطهير الموجود في الأساطير القديمة.
رؤية عصرية للنص الشكسبيري
في «ماكبث»، تدور الأحداث في قلاع وساحات حربية تعكس الطبيعة العسكرية للمجتمع والصراعات التي تنشأ حول الهيمنة على السلطة. بنيت الحبكة على نبوءة الساحرات الثلاث، التي تمثل المحفز الأساسي لتحول الأحداث وتوجيه مصير الشخصيات. أما في «ماكبث المصنع»، فقد تم نقل الأحداث إلى عالم صناعي قاسٍ تديره التكنولوجيا الحديثة. استبدلت المسرحية الساحرات بتطبيق الذكاء الاصطناعي، حيث جسدت شخصية «مدركة» دور الساحرة الشريرة للعصر الحديث، مما يعكس تأثيرات العولمة والتطور الصناعي على النفس البشرية. هذا التغيير يسلط الضوء على كيف يمكن للتكنولوجيا والتقدم الصناعي أن يحولا الطموح البشري إلى أداة لتدمير الذات، تماماً كما فعلت النبوءة في النص الأصلي.
المسرحية تقدم شكل جديد للنص الأصلي، من خلال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي واحتفظت بنفس الفكرة التي تناولها النص الأصلي حيث ركزت على الأطماع الإنسانية والصراع الداخلي، وكيف يمكن أن يقود الطموح المفرط البشر إلى سلسلة من الأخطاء المدمرة والجرائم. وقد استخدمت هنا كلمة «البشر» وليس «الإنسان» لأن الإنسانية إذا كانت حاضرة، لكانت طغت على بشريته، ولما دمر كل شيء حوله، بما في ذلك ذاته.
الديكور والإضاءة
المخرج والدراماتورج ومصمم الإضاءة محمود الحسيني سعى إلى خلق بيئة صناعية معاصرة على خشبة المسرح، واستفاد هو ومصمم الديكور روماني جرجس من الفضاء المسرحي بشكل إبداعي. مُصمماً بطريقة تعكس البيئة الصناعية المعاصرة. تحولت خشبة المسرح في بعض الأحيان إلى مصنع بآلاته وتروسه مما أضفى بعدا واقعيا، وأيضا في إشارة إلى أن الجميع يعمل مثل تلك التروس لا هوان ولا تباطىء، وأحيانًا أخرى إلى غرفة اجتماعات، غرفة نوم والتي جاءت بتصميم يشبه أسرة السجون، مما جعلها تبدو كسجن حقيقي لشخصية زوجة ماكبث، التي أصبحت سجينة لعذاب الضمير والخوف، أو الشارع الذي نفذت فيه الجريمة فقد عزز من تنوع البيئات وتجسيد الأبعاد المختلفة للعرض. كذلك بعض الحلول المبتكرة في الديكور، مثل استخدام هيكل سيارة كعنصر درامي، أضافت واقعية وأثراً إضافياً للأحداث.
على الرغم من أن فكرة تنفيذ الجريمة على خشبة المسرح بدت ضعيفة بعض الشيء، إلا أن المؤثرات الصوتية والبصرية ساهمت في تعزيز الحالة الدرامية. كما كان أداء الفريق متقن في تجهيز ماكبث ليظهر كمقعد فاقد لعين وقدم ويد بعد تنفيذ الجريمة، حيث لم يستغرق وقتا بين المشهدين. كذلك استخدم ديكور حقيقي للحمام مما أضفى واقعية على مشهد تخيل الزوجة للدم على يديها ومحاولة غسلها.
الأداء التمثيلي
تميز العرض بفريق من الممثلين الهواة طلاب طب الأسنان بجامعة القاهرة، الذين تمكنوا من تقديم أداء ينقصه بعض التدريب والتوجيه. شخصية ماكبث «زياد محمد» تجلت عدوانيته النفسية من خلال أفكاره، رغم أن الممثل لم يكن ذا بنية جسدية ضخمة على العكس بدى ضعيف البنية مما يعكس ضعفه الإنساني وصغر حجمه أما مغريات أطماعه وطموحه. بالمقابل، ظهر العم بشخصية طويلة القامة مما عكس مكانته الأخلاقية التي لم تستسلم لطموح ماكبث. فظهر هادئا يتعامل مع جنون ماكبث وطموحه بحكمة كبيرة تركت تساؤلا لدى الجمهور هل العم كان طامعا في توريث ابنه مكانه أم كان يريد أن يمنح ماكبث فرصة للتعلم منعه منها خيانة ماكبث فلم يرى سوى أن عمه يهمشه ولا يريد أن يمنحه مكانة أكبر، وقد قتلت تلك الحيرة «مدركة « في ذروة الأحداث حين أخبرته بعد ذلك أنه لو لم يقتل عمه لكانت نفس النتيجة وعاش محتفظا بأطرافه التي فقدها وأنجب طفلا.
وظهرت الزوجة «يمنى فتحي» في الجزء الثاني من الدور جالسة على السرير وكأنها تخشى أن تطأ قدمها الأرض، فقد استنزفت الكوابيس روحها وخلّفتها في حالة من الجنون التدريجي الذي قاد إلى تآكل روحها ببطء. المخرج قدم لنا شخصية الزوجة في مرحلتها النهائية من الندم، الذي كان واضحًا أنه استهلكها على مدار خمس سنوات رفضت خلالها إنجاب طفل. ربما كان هذا الرفض بسبب النبوءة التي تلقتها من «مدركة»، حين أخبرت ماكبث: «ستفقد عينًا، ويدًا، وقدمًا، وسيموت أحد أحبائك أمام آلاف الأشخاص». ربما اعتقدت أن الطفل المنتظر هو من سيموت، ولذلك رفضت إنجابه. وفي رأيي أن هذا إشارة على أن ماكبث لم يكن لديه «أحباء» فعليًا، حيث أنها لم تكن متأكدة من حبّه لها. فهو، في النهاية، لم يتردد في قتل أقرب الناس إليه وهو عمه.
لم يقدم العرض جديد في شخصية الزوجة عن الليدي ماكبث الشكسبيرية ، لكنها جاءت بشكل معاصر يتناسب مع زمننا الحالي. شخصية «زوجة ماكبث» في هذا العرض لا تزال تحمل نفس الأطماع وكذلك نفس النتيجة الندم والانهيار، ولكن هنا انعزلت في غرفتها أمام الكاميرا وكأنها سجنت نفسها خلف تلك الشاشة الصغيرة.
ماكبث بدا كرجل محطم يعيش في مجتمع صناعي بلا روح، حيث لا يفعل شيئاً سوى العمل والنوم، كما هو حال الكثير ممن دهستهم عجلة الحياة. لكنه كان مدفوعاً برغبة مفرطة في السلطة التي دفعته للقتل فطاردته أيضاً صورة عمه الملطخة بالدماء، بينما جاءت زوجته كرمز للجنون الذي يدفع الإنسان لتجاوز الحدود الأخلاقية. في حين أن المرأة غالباً ما يُنظر إليها ككائن رقيق، ذهب المخرج هنا - لا أدري بقصد أو بدونه- إلى نفس الفرضية التي تشير إلى أن حواء هي من أخرجت آدم من الجنة ودفعته لارتكاب الخطأ وكذلك في الأساطير القديمة التي جعلت من المرأة دائما سببا في المصائب. في هذا السياق، دفعت وحفزت الزوجة زوجها ماكبث لاتخاذ قرار تنفيذ إثم القتل. حتى أنه في اختياره للتطبيق اختار نموذج مدركة الفتاة.
أداء الممثل الذي جسّد دور ابن العم كان من أبرز محطات العرض. تمكن من تجسيد حالة الصدمة الناتجة عن وفاة والده وكذلك طرده من المصنع بشكل مؤثر للغاية، مما عمق الإحساس بالظلم الذي يعانيه، وزاد من توتر العلاقة بينه وبين ماكبث.
التوظيف البصري للعناصر المسرحية
التوظيف البصري للعناصر المسرحية في العرض كان متقناً. إذ استخدم الإضاءة بذكاء لإبراز تباين المشاعر والأحداث. الألوان الزرقاء والحمراء لم تكن مجرد خلفية، بل كانت تعبيراً عن الصراع الداخلي للشخصيات والتوتر والقتامة التي طغت على الإضاءة عبرت عن قسوة وقتامة النفوس والظلام الداخلي. مما ساهم في بناء الجو المشحون بالقلق والتوتر وساهمت الموسيقى أيضا في ذلك.
الأزياء كانت مصممة بذكاء لتدعم السرد البصري. الألوان الرمادية للملابس كانت تعكس الحيادية والرتابة التي تعيشها الشخصيات في هذه البيئة، بينما أضفت الأزياء التفصيلية، مثل الخوذات، ملمحاً واقعياً لتلك البيئة أيضا. الملابس الشفافة التي ارتدتها الزوجة كانت تجسد حالتها النفسية الهشة وتوضح انزعاجها الداخلي وكأن كل شيء أصبح واضحا ، مما أضاف عمقاً لشخصيتها. بالإضافة إلى استخدام القفاز المضيء الذي استخدمه بدلا من يده التي فقدها.
كذلك تم الاعتماد بشكل كبير على التقنيات الحديثة والبروجيكتور، والشاشات واستخدامه الذكاء الاصطناعي من خلال تطبيق «مدركة»، وللأسف مع اهتمام المخرج بالحالة البصرية والتركيز على موضوع الذكاء الاصطناعي لم يركز على أداء الممثلين والتحولات النفسية للشخصيات بشكل كبير، مثل تفسير التحولات المفاجئة في سلوك زوجة ماكبث التي فجأة تحولت لحالة من اليأس والانعزال للشعور بالندم ثم الشعور بالسعادة والأمل دون تمهيد للتحول النفسي، قدم العرض ماكبث بشكل عصري وركز على الذكاء الاصطناعي مع الاحتفاظ بالرسالة والموضوع الرئيسي للمسرحية مما جعل العرض يبرز كمثال على كيف يمكن استخدام التوظيف البصري لتعزيز التجربة الدرامية وإثراء القصة. كما عزز من الإحساس بالتوتر وأعطانا دلالات على وجود الصراعات الداخلية والخارجية التي تمر بها الشخصيات على خشبة المسرح.
عكست العناصر الفنية العالم الذي يسيطر على البشرية اليوم، حيث نسوا القيم الإنسانية وتحولوا إلى آلات يمكن التحكم فيها بسهولة من خلال غرائزهم وتطبيقات تفتقر إلى الذكاء البشري الحقيقي. مما تعكس آثار التحولات الاقتصادية والاجتماعية على الفرد والمجتمع، وتسلط الضوء على كيف يمكن أن تؤدي هذه التحولات إلى تفكك القيم الإنسانية وتغيير أسس العلاقات بين الناس. حتى أن ماكبث في لحظات يأسه من عودة زوجته لحالتها الطبيعية لجأ لاستخدام»مدركة» وطلب منها ان يتحدث مع زوجته وتحدث معها ولكنها كانت أكثر حيوية وتفهما من زوجته الحقيقية.
وعلى الرغم من كل ذلك، فأرى أن ماكبث مسؤل تمام وزوجته عن جرائمهم، والذكاء الاصطناعي برئ من التهم المنسوبة إليه؛ فهو لم يمنحهم سوى نتيجة للمعطيات التي خزنها عن ماكبث وأفكاره، فترجم فقط تلك الأفكار. حتى أن التطبيق حلل تلك المعطيات وعرف انه سيخطئ، وكما أخبرته سيكون هناك عام عجاف نتيجة لطريقة تفكيره وسياسة إدارته للأمور. في النهاية نحن أخطر علينا من الذكاء الاصطناعي.