«إليستيس».. هل الجحيم هو الآخرون أم العائلة أم الإثنين معا؟

«إليستيس»..   هل الجحيم هو الآخرون أم العائلة أم الإثنين معا؟

العدد 896 صدر بتاريخ 28أكتوبر2024

يخبرنا جان بول سارتر(1905-1980) -وهو أحد أعلام فلاسفة الوجودية في فرنسا والعالم- من خلال نصه «جلسة سرية» ومقولته الشهيرة «الجحيم هو الآخرون» عن طريق تجمع ثلاث شخصيات غرباء بعد موتهم في غرفة مغلقة ، وتصبح كل شخصية جحيما للآخر فكيف يتحول الآخر إلي معذب لمن معه؟.، لكن الأمر الذي لم يخبرنا به سارتر، هل الجحيم يتمثل في العائلة؟ التي تمثل مصدر الأمن وسبب وجودك في الحياة ، فماذا يحدث عندما تكون سبب الجحيم الذي بداخلك.؟
      على المسرح الفلكي ضمن فعاليات مهرجان نقابة المهن التمثيلية في دورته السابعة، قدم عرض «إليستيس» عن رواية «المريضة الصامتة» للكاتب الإنجليزي القبرصي (أليكس ميكايليدس)، إعداد (أبانوب بحر) و(ماركو نبيل)، إخراج (ماركو نبيل)، حيث يطرح العرض قضية إنسانية وهي الحرمان من الحب أثناء الطفولة، والتأثير العميق لطبيعة الحياة التي عاشها الإنسان وهو طفل وكيف يعبر عن نفسه لاحقاً وهو بالغ.
     تدور أحداث العرض في لندن حول فنانة تشكيلية شهيرة تدعى إليسيا ، قتلت زوجها التي تحبه ولا تتصور العيش بدونه بعد قتله دخلت في صدمة نفسية جعلتها صامتة لمدة خمس سنوات ، وعلى أثر ذلك تم إدخالها مستشفى الأمراض النفسية.، ومن هنا يأتي دور المعالج النفسي جاك لغوض التحدي ويجعلها تتحدث حتى تحكي قصة القتل..فما الذي يجعل امرأة تحب زوجها بجنون تقوم بقتله؟.
    في إطار الدراما النفسية البوليسية وعنصر التشويق والأحداث المفاجئة ، فلا يعطي العرض المتلقي المعلومات الأساسية للأحداث والشخصيات مرة واحدة ، إنما قسمها الي أجزاء صغيرة ، كل جزء يحتوي على معلومة لجعل المتلقي ينتظر جزء والذي يليه ويحاول أن يجمعهم مثل أجزاء البازل، ليغوص في عالم من التشويق وكأنه محقق يحاول فك تلك الالغاز.
     يدور العرض في ثلاث خطوط متوازية؛ الخط الأول الخاص بحياة إليسيا وعلاقتها بزوجها ، الخط الثاني خاص بحياة دكتور جاك ، اما الثالث فهو الخط الفعلي (الواقعي) المستشفى  التي تدور فيه الأحداث.، ويعتمد في سرد الأحداث على تقنية الفلاش باك (الرجوع إلى الماضي) .، فيبدأ العرض بقدوم دكتور جاك المعالج النفسي الجديد إلي المستشفى ليطلب من المدير ديو أن يبدء بحالة إليسيا تلك المريضة الصامتة منذ خمس سنوات ، جاك على خلاف مع كريس طبيب إليسيا الحالي ، فيسأله ديو عن سبب الخلاف مع كريس.، فيبدء اول فلاش باك من خلال ذكريات جاك الذي يلتقي بكريس في أحد الحفلات وأنهما كانا صديقين ، وسبب الخلاف بينهم هو تقرب جاك من صديقة كريس (كاتي) التي تعمل ممثلة ، إلي أن تزوجها جاك وهو ما جعلهم أعداء.
     ومن خلال هذا الحفل نتعرف على إليسيا وزوجها جابرييل -مصور مشهور- ليبرز لنا حالة الحب والاستقرار التي يعيشها الزوجان سواء في الحفل أو في المنزل بعد مشهد الحفل مباشرة، وهذا ما جعلني اتسائل كيف يتم سرد مشهد لأليسيا وجابرييل؛ فجابرييل قد مات واليسيا لا تتحدث فمن يسرد هذا المشهد؟ ونحن في الأساس مع ماضي جاك وعلاقته بكريس مرورا بزواجه بكاتي وحالة الحب والسعادة التي يعيشونها.، فأصبح هناك خلل في عملية السرد فمن هنا الذي يسرد حياة إليسيا؟! ، فمع تقدم الأحداث سنتعرف على إليسيا وحياتها من خلال ماكس شقيق جابرييل و جين صديقة إليسيا ، ومن  مذكرات إليسيا نفسها التي ستعطيها لجاك فيما بعد.
    ومن خلال تشابك الخطوط الثلاث نكتشف الأثار النفسية للطفولة على بعض الشخصيات وتأثيرها وهم بالغين؛ ماكس الشقيق الأكبر لجابرييل وهو طفل متبنى يعاني منذ الطفولة بأن جابرييل يتم تفضيله عليه ويحصل على ما يريد فيرى انا ما يمتلكه جابرييل هو الأحق به حتى إليسيا.، إليسيا عندما توفت والدتها وهي طفلة صرخ الأب في وجهها لماذا لم تموتين انت بدلا منها ، تخيل معي عزيزي القاريء أن تسمع والدك الشخص الذي تعتمد عليه في بقائك على قيد الحياة يتمنى لك الموت ، كم الأمر مرعب بالنسبة لطفل أن يصبح الأب جحيما لطفله يزرع بداخه قنبلة موقوتة تتنظر لحظة إنفجارها.، وعلى الرغم من ذلك يخبرنا كريس أن إليسيا كانت تحب والدها بجنون وحاولت الانتحار بعد وفاته لكن جابرييل أنقذها  ، ليكون جابرييل بالنسبة لها مرآة لوالدها فتحبها بجنون هو أيضا وتخشي خسارته وهذا يفسر...
     لماذا إليستيس... بطلة إسطورة إغريقية التي تعد مثال للتضحية؛ ضحت بحياتها من أجل زوجها أدميتوس ، الذي يجب أن يقدم من يضحي بحياته بدلا منه من أجل جعل الآلهة تتركه يعيش ، فذهب إلى أهله وذويه سائلا عمن يقبل منهم أن يموت بدلا منه فلا يجد سوى زوجته إليستيس .
     لم تتجسد الأسطورة في العرض بشكل فعلي بل جاءت بشكل رمزي بالإضافة إلي التشابه بين الإسمين (إليستيس-إليسيا)، فإذا كان أدميتوس حكم على إليستيس بالموت جسدياً ، قام الأب بقتل ابنته إليسيا نفسياً وكذلك جابرييل الذي اختار أن يعيش عندما خيارهُ جاك بين أن يختار من يموت هو ام إليسيا فيضحى بإليسيا مثلما فعل أدميتوس ، فمن المؤكد من خلال الأسطورة أن أدميتوس أحب إليستيس فى أكثر من موضع ، لكن لم يكن هناك حب لدى الأب وجابرييل من بعده -فهو إمتداد للأب- فما فعلوه بمثابة فعل قتل نفسي ، وما فعله جاك في جعلها ترى الأمور بوضوح  ، كان بمثابة الشرارة التى انفجر منها الجحيم الذي بداخلها الذي هم السبب فيه ، فأصحبت جسد بلا روح.
    جاك (المعالج النفسي) هو إنعكاس لشخصية إليسيا وأنه هو أيضا عانى من طفولته بسوء معاملة والده له ، ويذهب هو الآخر الى معالجة نفسية يستفيد من نصائحها.، كما كانت له مشكلة شخصية مع زوجته كاتي التي أحبها أيضاً إلي حد الجنون وهنا تتشابك الأحداث وتتضح كل الحقائق ، أن كاتي كانت تخونه مع جابرييل زوج إليسيا ، وتوظيف شخصية ديدمونة في مسرحية عطيل التي تمثل الشرف جاء توظيفها بشكل ذكي ليخدع المتلقي وان كاتي بريئة من تهمة الخيانة ليصتدم بالحقيقة في النهاية؛ أن جاك الطبيب المعالج لإليسيا هو الشخص المقنع الذي كان يراقبها وهو الذي قيدها هي وجابرييل في منزلهما وكشف لها حقيقة خيانة زوجها جابرييل مع زوجته كاتي ، فتقوم إليسيا بقتل جابرييل.
         جاء ديكور (سعد الدين على) ثابت طوال العرض يدل على الأماكن المختلفة التى يدور فيها الأحداث فياخذنا على يسار المسرح مكتب جاك في المستشفى خلفه مكتبة كتب ، على اليمين منزل إليسيا ، وفى مركز عمق المسرح جدار نافذة يفتح لياخذنا لمنزل جاك وكاتي وكأننا نفتح عقل جاك لنرى ماضيه فجميع مشاهد جاك وكاتي كانت استرجاع للماضي بالنسبة لجاك ماعدا المشهد الأخير وتأكيدا على ذلك نجد الإضاءة طوال العرض في منزل جاك زرقاء دلالة على أن كل ما يحدث هو في عقل جاك وبمجرد وصولنا لمشهد النهاية نجد إضاءة طبيعية في منزله لتأكد على تلك الفكرة وأننا في الواقع وليس في عقل جاك وأن كل شيء قد كُشف، وبالحديث عن مشهد النهاية نجد كاتي جالسة على كرسي متحرك ، مما جعلني أتساءل ما السبب وراء ذلك ، هل بسبب موت جابرييل وكشف خيانتها لجاك معه؟ وأنها مقابل لإليسيا فأصبحت إليسيا أخرى؟ حيث اول مشهد دخول إليسيا في العرض كان على كرسي متحرك وبنفس الملابس  ، فكيف تكون إليسيا اخرى وهي خائنة عكس إليسيا.! ، ففي اعتقادي أنه ليس هو السبب لانه لم يتم التمهيد له خصوصا أن جاك بسبب حبه الشديد لكاتي قد سامحها على خيانتها، والذي كان يربط كاتي بجابرييل هي الخطابات ، فلم أجد مبررا دراميا للحالة التي وصلت لها كاتي.
        وبالعودة للحديث عن الإضاءة التي صممها (محمود الحسيني) فكان العنصر البارز في وضع حالة الغموض والجريمة لدى المتلقي فنجد طوال العرض إضاءة خافتة واستخدام البؤر الضوئية على الأماكن والأشخاص ، كما تنوعت بين الاحمر والازرق ، الاحمر في منزل إليسيا لإبراز حالة الخطر والقلق التي تعيشها إليسيا أحيانا ، واحيانا اخرى عن حالة الحب مع جابرييل ، اما الزرقاء كما ذكرنا تعبر عن ما يدور في حياة جاك في الماضي فساعدت فعملية السرد والتحول فى الدراما، وأحيانا أخرى يستخدم لتعبير عن حالة الجمود في علاقة جاك بكاتي.
     وموسيقى (محمد علام) التى تنوعت طوال العرض حسب اللحظة الدرامية وحالات التوتر التي جعلت المتلقي مترقب الأحداث ، فدعمت بشكل كبير حالة العرض.، وملابس (نادين مجدي) جاءت واقعية متزامنة مع زمن الأحداث بشكلها الغربي فكانت متناسبة مع تلك الفترة وطبيعة الشخصيات.، اما العملية التمثيلة فكل ممثل في مكانه الصحيح جميعهم أدوا أدوارهم بشكل جيد وكان عنصر القوى في العرض.
      عرض «إليستيس» (لماركو نبيل) يؤكد مقولة سارتر فجميع الشخصيات تمثل جحيما للآخر بما في ذلك العائلة ، فالجرح الذي يبدء من العائلة لا يُنسى أبدا ، ويظل معك بقيت حياتك الى أن يجد الشرارة التي تفجره.... فهل تصبح جاني أم مجني عليك؟.


محمد خالد