العدد 897 صدر بتاريخ 4نوفمبر2024
أعلن الريحاني عن مسرحيته الجديدة «حكاية كل يوم» في أواخر أبريل 1940، وعرضها على مسرحه «ريتس» بعماد الدين، وهي من ثلاثة فصول ومن تأليفه بالاشتراك مع بديع خيري. ومن خلال موضوعها يشعر القارئ بأنه يرى أجزاء من فيلم «لعبة الست» بطولة الريحاني وتحية كاريوكا، وأيضاً أجزاء من فيلم «الراجل ده هيجنني» بطولة فؤاد المهندس وشويكار!! عموماً نعود إلى المسرحية، ونقول إن الناقد «صادق» كتب كلمة عنها في مجلة «الصباح» تحت عنوان «الرواية الجديدة للأستاذ الريحاني»، قال فيها:
عرض الأستاذ نجيب الريحاني على مسرحه في العهد الأخير طائفة من الروايات القيمة التي كانت تأخذ بلب المشاهدين فيقبلون عليها وكلهم على يقين ثابت بأن هذه الرواية هي المثل الأعلى للكمال الفني وأنها ستكون جوهرة تاجه ودرة موسمه، وإذا به يفاجئهم برواية أبدع وأروع حتى يقتنعون بأنه لا يستطيع أن يأتي بخير منها، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان. ومازال هذا شأنه في مفاجأة الشعب حتى طلع علينا أخيراً بمعجزة فنه وتحفة موسمه رواية «حكاية كل يوم» فما كادت تظهر هذه الرواية على مسرحه حتى وقف الشعب حيالها ذاهلاً مبهوتاً يردد عبارات الدهش والإعجاب، فقد أثبت المؤلفان الفاضلان بديع خيري والريحاني بإظهار هذه الرواية أن كليهما لا ينفك ينقب ويبحث في زوايا الحياة عن بواطن الأخلاق وعلل المجتمع الإنساني ويتناولانها مجتمعين مندمجين في تحليل أخلاقي دقيق وتصوير بديع لكل ما شذ وخالف العرف من أخلاق بعض أفراد الأمة فلهما منا خالص الشكر، ومن جمهور رواد مسرح الريحاني جزيل الثناء وحسن التقدير. ومن الغريب أن هذه الرواية وحدها قد امتازت بظاهرة غريبة من جانب الجمهور إذ نراه وقد انشق حزبين متنافسين: حزب الجنس الخشن وحزب الجنس اللطيف فتري کل فريق يباهي ويتنافس في الانتصار لأبناء جنسه وبنات جنسه حتى ليخيل إلى المرء أن الملهى قد استحال إلى مسرحين مسرح التمثيل ومسرح الجمهور. ولئن كان الريحاني قد حرم من تشجيع الحكومة وعطفها فحسبه أنه نال جزاءه من الشعب الكريم.
وكتب ناقد مجلة «المصور» كلمة عامة عن العرض – في الثالث من مايو 1940 – قال فيها تحت عنوان «حكاية كل يوم»: هذه هي المسرحية الثانية التي أخرجها الأستاذ نجيب الريحاني هذا الموسم ليختتم بها عمله في القاهرة، وليفتتح بها بعد ذلك موسمه الصيفي بالإسكندرية. والرواية ككل روايات نجيب من تأليفه بالاشتراك مع صديقه وزميله بديع خيري. وهي تعالج ناحية اجتماعية جديدة. إذ تدور حوادثها ووقائعها حول الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الرابطة الزوجية بين الزوجين، ووجوب إبعاد المادة عن هذه الرابطة المقدسة. ونجيب يخرج رواياته بنفسه، وهو في طليعة مخرجينا الموفقين دائماً فهو يضع يده في كل صغيرة وكبيرة، فتراه يعطي لمساعديه فكرة إعداد المناظر وتنظيم الإنارة على المسرح، واختيار الستائر والأثاث والملابس وهو الذي ينظم لممثليه طريقة إلقاء الحوار ويوحي إليهم باستغلال المواقف الطريفة التي تبرز الممثل أو الممثلة في دورها، فلا يترك منهم أحد حتى يكون قد اندمج في دوره اندماجاً كاملاً. وبالنسبة للتمثيل، فقد كان نجيب موفقاً في تمثيل دوره إلى أبعد حد كما عودنا في رواياته السابقة فأجاد بطرافته وخفة روحه تمثيل دور الزوج الذي نكب في حياته الزوجية، ولكنه يحرص على زوجته وعلى كرامته. وقامت الشكيبتان الشقيقتان «ميمي وزوزو» بتمثيل دوريهما بنجاح يدعو إلى الإعجاب وخصوصاً ميمي بطلة الرواية إذ أجادت تمثيل دور الزوجة المستهترة التي سرعان ما عادت إلى صوابها. وأبدعت السيدة ماري منيب خليفة «ماري درسلر» الممثلة السينمائية الأميركية المعروفة في تمثيل دورة الحماة وكانت مواقفها المتناقضة موضع إعجاب. وكذلك لازم التوفيق بقية أفراد الفرقة وخاصة «شرفنطح» وحسن فايق، ومحمد مصطفى.
أما ناقد جريدة «أبو الهول» والذي يوقع باسم «مسرحي»، فقد كتب مقالة تفصيلية في أواخر مايو 1940، بعنوان «حول رواية نجيب الريحاني»، بدأها بملخص للمسرحية قال فيه: صلاح أفندي من الشبان المتعلمين الذين لم يجدوا في الاشتغال بالأعمال الحرة أية معرة أو عيب على غير عقيدة الغالبية من شبابنا الذين يدأبون في البحث عن الوظائف الحكومية بمجرد حصولهم على الشهادات العالية. اشتغل «متردوتيل» في أحد الفنادق الكبرى، وكان يطمع في الزواج بفتاة يشعر معها بالسعادة دون أن يبحث عن أصلها وفصلها وعما إذا كانت من بنات الذوات وصاحبات الأملاك أم لا فوقع نظره على الفتاة «ست أبوها» وهي من أسرة فقيرة جداً، لكنه استطاع أن يغير من أخلاقها ليرفع مستواها ولتعيش إلى جانبه. فظل يرافقها إلى دور السينما تارة وإلى المسارح أخرى حتى شعرت بأنها تحيا حياة جديدة، حياة كلها أضواء ومظاهر، وإلى جانبها زوج يحبها ويقدس فيها الإخلاص والطهر ويعمل على إسعادها بكل جهد مستطاع. وهنا ينشب الصراع الخلقي العجيب: هل تتغير أخلاق الزوجة إذا عمل الزوج على النهوض بحياتها حباً في إسعادها ورفاهيتها؟ هذا هو البحث النفساني الذي وجه المؤلفان إليه كل عنايتهما. فاستطاعا أن يضعا هذا التحليل في شخصية ست أبوها، تلك الزوجة الفقيرة التي أخرجها الزوج من الظلمات إلى النور، ومن الفقر إلى الحياة الغنية، ومن قبر البيت إلى حرية الشارع والسينما. هل تحفظ الجميل لزوجها فتضاعفه له أم تنكره فتنقلب السعادة رأساً على عقب، وينهار صرح الزوجية ويكون الشقاء! خرجت الزوجة لقضاء بعض حاجاتها وسمح لها الزوج بالخروج وهو مرتاح البال آمن جانبها، فإذا بها لا تعود! وإذا بها تغيب ثلاث سنوات ويبقى الزوج في حيرة من أمره دون أن يصله منها مجرد خطاب يفهم منه أين سارت بها الأقدار! وأخيراً تلقى منها خطاباً تنبئه بأنها عائدة إليه! وعادت فعلاً، ولكن بعد أن تغيرت تغيراً هائلاً، فقد قضت على «ست أبوها» تلك الشخصية البريئة الطاهرة، وجعلت من نفسها نجمة سينمائية لامعة هي «جوفيناس» التي يعجب بها الجميع، ويتمناها الجميع عادت وخلفها جيش المعجبين، ومنهم حلمي بك الشاب المخنث الذي يغريها بماله لتتزوج منه، وبصحبتها «كلب» أطلقت عليه اسم زوجها!! إنها لم تحضر التعود إلى زوجها، أو بيتها، بل حضرت لتطلب من صلاح أن يطلقها كي تطلق لنفسها العنان في حياتها الجديدة التي انغمست فيها. عرف صلاح هذه الرغبة فأبى أن يطلقها، فهو لم يرتكب جرماً حينما غير من حياتها، حتى تأتي له الآن لتساومه بآلاف الجنيهات في سبيل الوصول إلى الطلاق، وهو أرفع وأشرف من أن يقبل هذا الثمن مهما يكن في مسيس الحاجة إليه! أرادت - ست أبوها بالأمس أو جوفيناس اليوم - أن تثأر من زوجها نزلت في الفندق الذي يعمل به مع عشاقها والمعجبين بفنها وجمالها كي يقوم الزوج بالخدمة عليها فكان هذا العمل في نظر صلاح أخف من أن يكون في يدها سلعة تباع وتشترى! وكان الموقف الأخير أن وقعت مليونيرة أمريكية في حب صلاح وعرضت عليه أن يسافر معها إلى أمريكا فكان هذا العرض من جانبها مهوناً لإقدامه على الطلاق، لأن تغيير أخلاق زوجته إلى الحد الذي وصلت إليه قد جعله لا يطمع في سعادة منها بعد. ولكن هل يكون هذا هو الحل الأخير؟ لا بل هناك حرب أخرى تشتعل نارها في قلب امرأة إذا هي تعرضت لمثل هذه الظروف هي حرب «الغيرة»!! كيف يفلت زوجها صلاح من يدها ليتزوج بأخرى؟ وكيف يعرض عليه الطلاق بثمن فيطلقها بدون ثمن؟ هناك تعود الغريزة الحقيقية إلى المرأة فتعود وتخضع لأوامره، وتعيش في ظله وتحت سلطانه، لأنه هو الزوج الوحيد الذي خلقها من العدم، وهو الزوج الوحيد الذي في يده سعادتها، وهو الوحيد الذي يحميها في الحياة! هذه هي «حكاية كل يوم».
وذكر الناقد بعض الملاحظات على الموضوع، قال فيها: هي قصة تحليلية فنية تحوي أقصى ما يمكن أن تحويه القصة المحلية من عناصر القوة والإبداع. شخصيات تكونت من الحياة الاجتماعية التي نعيش فيها، وشخصيات صورها بديع ونجيب في صورة كاملة توضع في إطار من ذهب! في كل مفاجأة وقائع تنطق منها عبرة وعظة للمجتمع، وفي كل لفظ مرمى سام نبيل! لقد رسمت هذه الرواية مثلاً عالياً للحياة الزوجية كما يجب أن تكون وللشرف كما يجب أن يصان، وللحياة كما يجب أن ينظر إليها الرجل والمرأة معاً. فنحن الذين صورنا رواية الريحاني الماضية بأنها بعيدة عند الفن، نسجل على هذه الرواية بأنها أعظم ما نبغيه من فرقة الريحاني وكل ما ننشده من المسرح الكوميدي الراقي .. فليهنأ بديع وليهنأ نجيب بهذا المجهود الجبار.
وعن التمثيل، قال الناقد: الأستاذ نجيب الريحاني قام بتمثل دور صلاح الزوج الذي رفع من شأن زوجته ونهض بها لتتم له السعادة، فكان في شخصيته فذاً وممثلاً للحياة بأتم معانيها. ولقد وصل نجيب في هذه الشخصية إلى حد كبير من الكمال، وإن كان نجيب شخصياً لا يعتقد في نفسه الكمال، لأن رأيه في الفنان أنه محتاج إلى الكمال دائماً! والسيدة ميمي شكيب مدهشة في دور «ست أبوها» أو «جوفيناس» فهذا الدور لم يخلق إلا لها وقد جعل منها الممثلة المجيدة البارعة التي لعبت بقلوب النظارة بالبراعة نفسها التي لعبت دورها. ومحمد حسن الديب ممثل دور حلمي بك أو الشاب المخنث، الذي كان يغري جوفيناس بما له، وكشفت عنه الحقائق أنه لا يبغي إلا الخداع والتغرير كانت هذه الشخصية جديدة على محمد حسن الديب، ولكنه مثلها بإجادة وإتقان يحسد عليهما. وماري منيب مثلت دور أم «ست أبوها» فكانت عظيمة جداً. وحسن فايق: قام بدور المحامي ولا أدري لماذا عمد في هذه المرة إلى الكلفة في بعض المشاهد، وقد كان أول من يترك نفسه للطبيعة. وزينات صدقي كان دورها صغيراً ولكن مواهبها فيه كانت ظاهرة. والفريد حداد مثل دور صاحب الخيل، وكانت تتغلب عليه أثناء الحوار روح الشخصيات التي اعتدنا أن نشاهده فيها من قبل. ومحمد مصطفى وفكتوريا حبيقة منسجمان في دوريهما كل الانسجام. وبالنسبة للأدوار الثانوية، قامت مرجريت صوفير بدور خادمة جوفيناس، وأحمد نجيب بدور مدير الأوتيل، وعبد اللطيف المصري بدور الأخرس، والسيد فخر الدين بدور خادم الأوتيل، وكانوا جميعاً موفقين في أدوارهم. وفي ختام هذه الكلمة لا يسعنا إلا أن نهنئ الأستاذ نجيب الريحاني تهنئة حارة.
ولعل أهم عرض لهذه المسرحية كان في مايو 1940، وأشارت إليه جريدة «أبو الهول» تحت عنوان «عطف ملكي على الأستاذ نجيب الريحاني»، قائلة: أقيمت الحفلة السنوية للنادي المختلط [أي نادي الزمالك الرياضي الآن] مساء الخميس الماضي على مسرح دار الأوبرا الملكية، وقد شرفها حضرة صاحب الجلالة الملك. واشتركت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني في الحفلة بتمثيل رواية «حكاية كل يوم» وعلى الرغم أن جلالة الملك كان يشعر بانحراف بسيط في صحته الغالية إلا أنه ظل يشاهد الرواية حتى نهايتها. وقد جرت العادة في الحفلات الفنية التي يشرفها حضرة صاحب الجلالة الملك أن يتنازل جلالته فيأمر بمقابلة بعض الممثلين في مقصورته ويكون ذلك بعد الفصل الأول أو الثاني. أما في هذه المرة فبعد أن انتهت الرواية وبدأ الممثلون يرتدون ملابسهم الحقيقية فوجئوا بسعادة أحمد حسنين باشا الأمين الأول يبلغهم رغبة المليك في مقابلة أفراد الفرقة فكانت مفاجأة سارة لهم. وقد لاقى الأستاذ نجيب الريحاني أثناء مثوله بين يدي جلالة الملك عطفاً ملكياً كبيراً إذ قال له جلالته: «في كل مرة نراك أحسن من المرات التي قبلها .. ما شاء الله .. ما شاء الله». وقد اشترك المطرب النابغ «محمد عبد المطلب» في هذه الحفلة بوصلة غنائية كانت موضع الإعجاب.
وسط هذا الإكرام الملكي والتألق الفني، حدث أمر غريب يُسيء إلى الريحاني، لا سيما وأنه لم يرد ولم يعلق على ما نشرته مجلة «روز اليوسف» يوم 6/7/1940 تحت عنوان «مأساة» قائلة: توفيت في الأسبوع الماضي السيدة «مرجريت نجار» الممثلة بفرقة الأستاذ نجيب الريحاني أثر عملية جراحية في مستشفى القصر العيني .. إلى هنا والخبر عادي، ولكن المؤلم أن هذه السيدة لم تجد من يدفع لها مصاريف الدفن سواء من زملائها أو من الذين عملت في الفرق التي يرأسونها!! غير أن شاباً ليس له صلة بها سوى معرفة سطحية تبرع بهذا المبلغ وأنقذ الموقف!!