العدد 898 صدر بتاريخ 11نوفمبر2024
من المتعارف عليه أن “الكُحل” يُستخدم من أجل تجميل وتحديد وإبراز العين بجانب فوائده الصحية العديدة في حماية العين من الشمس وتطهيرها..، في المقابل أنه شديد السواد، وهو ما لعبت عليه مؤلفة العمل بذكاء، فالعائلة تعد مصدر الاستقرار و الأمان، فماذا يحدث عندما تصبح مثل سواد الكحل؟.، وهو ما صوره العرض في تقديم دراما اجتماعية قاتمة اللون بسبب ما يعيش فيه أفراد الأسرة مثل «الكُحل» تماما.، الذي قُدم على مسرح الهناجر ضمن فعاليات مهرجان آفاق في دورته العاشرة، تأليف (إسراء محبوب)، إخراج (أحمد السيد).
تدور أحداث العرض حول أسرة مكونة من أم وخمسة أبناء وجدة، الأب هاجرهم منذ عشرة سنوات، فتتصارع فيه المسؤوليات فتحاول الأم تعويض غياب الأب، فيحدث أخطاء في تعامل الأم مع الأبناء وحالة من الفجوة والتفكك الأسري، وبسبب الضغوطات لأنها لم تعتاد على دور الأب، يؤثر ذلك بالسلب على الأبناء.
تُعاني معظم الشخصيات من تسلط الأهل وتدخلاتهم المستمرة بصفتهم الجيل الأكبر الذي يعرف مصالح الأبناء أكثر منهم، مما يسبب ذلك شقاء وتعاسة الأبناء في المستقبل، فالعرض يطرح دور الماضي وتأثيره على المستقبل، فالأم عبير (مارينا حنا) - في الماضي - تم إجبارها على الزواج من شخص لا تحبه بسبب ضغط الأهل عليها وهي في سن التاسعة عشرة، وأنجبت منه خمسة أبناء، وتركها وغاب ولا أحد يعلم عنه شيء، مما يسبب جحيم لها ولمستقبل أبناءها.، لتحاول الأم أن تلعب الدورين لكن ليس كل شيء يعوض.، ونلمس ذلك التأثير على الأبناء.
فالأبنة الكبرى مروة (ندى قطب) في الثلاثينات من عمرها، فاتها قطار الزواج، لأنها فقدت الثقة في الرجال بسبب ما فعله الأب بالأم، والحقيقة هناك سبب أخر هو أن الأم أيضا ترفض زواج بناتها خوفا من أن يحدث لهم مثلما حدث معها، فأثناء قدوم الخال صلاح (محمد سعيد) ليخبر الأم أن هناك عريس يريد أن يتقدم لسلمى – الأخت الأصغر – ترفض عبير، فيقول لها صلاح: “مش كل الرجالة زيه “، وهذا يفسر عدم زواج مروة حتى الآن.، ونجحت ندى في التعبير عن الشخصية بشكل مناسب.، والخال صلاح (محمد سعيد) الذي لفت الأنظار بسبب أداءه لهذه الشخصية ، التي حملت على عاتقها كوميديا العرض النابعة من الشخصية والموقف بعيدا عن الإفيهات المبتذلة، فعمل على توازن العرض والتخفيف على المتلقي، كما كان (لناردين نوار) في دور الجدة سميرة في إضفاء بعض الكوميدية بجانب أداءها الجيد في المشاهد الآخرى والتفاصيل التي وضعتها للشخصية.
سلمى الأخت الأصغر، تحب علي ابن خالها صلاح، ولأن الأم عبير على خلاف مع صلاح بسبب الميراث والمنزل مما يجعل موضوع زواجهم صعب، والسبب الأخر الذي يجعلها تعيش في صراع نفسي، خوفها من أن يتركها علي مثل ما فعل الأب.، (نور البيلي) التي لعبت دور سلمي ممثلة تمتلك الموهبة لكن كانت تحتاج للتدريب والتجهيز للدور بشكل أكبر، كما أن مشاهدها مع علي (عمر النحراوي) تفتقد للكيمياء والتفاعل فكان يحتاج (علي) أيضا للتدريب وان ينوع من أداءه.، أما الأخت الصغرى سارة (سهر محمد)، في المرحلة الإعدادية، تفتقد وجود الأب وتحاول أن تكتب له من خلال يومياتها.، ونجحت سحر في توصيل مشاعر الشخصية وحالة الفقدان والاشتياق بشكل جيد للمتلقي.
أما عبدالله (حسين الزربه) الابن الأكبر الذي يجد نفسه مسؤولاً عن الأسرة وهو غير مؤهل لذلك بعد، بسبب غياب دور الأب في حياته، مما يجعله يتجه لطريق الإدمان حتى ينفصل عن الواقع وما يعانيه مع الأم، التي ترى أنه فاشل وغير قادر على تحمل المسؤولية، وخلافاته الدائمة معها بسبب المال، وحبها الزائد لزياد وتفضيله عليه، وأدى حسين الشخصية بشكل جيد ولكنه ركز على الشكل الخارجي للشخصية من قصة الشعر و الملابس والإكسسوارات، فكان يحتاج التركيز أكثر على الشكل الداخلي وهذا لا يقلل من أنه ممثل جيد.
زياد (محمد سامح) خريج هندسة، والابن المدلل من قبل الأم ، بصفته راجل البيت ويحاول أن يقوم بأعمال الأب والأخ الأكبر، ليجد نفسه لا يستطيع الاستقرار والزواج بسبب مسؤولياته تجاه الأسرة، فحينما يخبر والدتها برغبته في الزواج، ترفض الأم بشكل قاطع، ظاهرها كيف يتزوج وإخوته الفتيات لم تتزوج بعد، وباطنها خوفا من أن يتركها وحيدة مثلما فعل الأب، فزياد بالنسبة للأم هو العكاز الذي تستند عليه ومصدر امان الأسرة.، ونجح سامح في التعبير عن الشخصية.
الأم (مارينا حنا) كانت متماهية مع الدور على المستوى النفسي، لكن على المستوى المادي والشكل الخارجي فقد مصداقيته، حيث الأم تزوجت في سن التاسعة عشرة والأبنة الكبرى (مروة) في الثلاثينات، فمعني ذلك أن الأم في الخمسينات من عمرها، والشخصية التي شاهدناها تبدو أصغر، حتى لم يتم استخدام المكياج لمحاولة تجنب هذا الخطأ.، وبالحديث عن الأم، فالأم لا تدرك أن ما تفعله سيأثر على الأبناء فلا توجد أم تكره أبناءها، فهي ضحية أخطاء الأهل، بداية من جوازها المبكر بالإكراه، الأخ حرمها من الميراث، الزوج تركها وحدها تتحمل مسؤولية خمسة أبناء، وهو ما أدى إلى التفكك الأسري وتصارع المسؤوليات.
وهو ما لعبت عليه مؤلفة العمل (إسراء محبوب) في كتابة دراما اجتماعية عائلية، ففي نظري أن نص إسراء هو العمود والأساس في نجاح العرض، في تصوير حال كل أسرة مصرية، بسبب ما قدمته من خطوط درامية موجودة داخل كل أسرة ، فجعلت المتلقي يجد نفسه امام مرآة تعكس واقعه فيتوحد معها، فالعرض في الأساس دراما واقعية.
فديكور (هشام عبدالمنعم) جاء بسيطا معبرا عن واقعية المنزل المصري البسيط، فعلى يمين المسرح تلفاز أمامه كرسي، وفي اليسار أريكة (أنتريه) أمامها طاولة، بجوار الأريكة كرسي في المنتصف، ورغم واقعيته كان يحمل بعض الرموز، فجدران المنزل يتخللها قضبان حديدية لتمثل جحيم وسجن الماضي بالنسبة للأبناء حيث كان يعرض خلف القضبان الذكريات المؤلمة لهم، وباب المنزل الذي يأخذ الشكل الأيقوني لباب السجن فهم سجناء في هذا المنزل.
الإضاءة كانت نقطة ضعف كبيرة في العرض، حيث أغلب المشاهد مجرد إنارة، على الرغم من أن العرض كان يحتاج لفصل الخشبة وبؤر لفصل الأماكن والتركيز على اللحظات الدرامية ليتوحد الممثل معها، وكذلك حالات الرجوع للماضي التي أساس معاناة الشخصيات فكان يحتاج التركيز على هذه الحالات ليتماهى المتلقي معها، وكذلك مشاهد الأحلام التي لم يتم فصلها أيضا بواسطة الإضاءة مما أصاب المتلقي بالتشتت.، وبالحديث عن مشاهد الأحلام التي كان وجودها اعتباطيا وزائد ومن الممكن الاستغناء عنها لأنه لم يضيف شيء فنحن نعلم بما يعانيه عبدالله وزياد وبقية الشخصيات فلماذا الأحلام وهم يعيشون في كابوس الواقع بالفعل، فوجودها غير مبرر دراميا فعلى سبيل المثال؛ حلم زياد الذي عبارة عن طقس لطرد فكرة الزواج وعدم ترك الأسرة، فهل طرد زياد الفكرة؟! هل المتلقي لا يعلم بما يعانيه زياد؟، وكذلك بقيت أحلام الشخصيات، عكس مشهد حلم الأم في النهاية الذي يعتبر نقطة التحول في العرض فكان وجوده مؤثر، وهو ما كان من المفترض أن ينظر المخرج له هل بقية الأحلام مؤثرة مثل حلم الأم؟.
كذلك الموسيقى التي لم تعبر عن الحالات الدرامية في العرض، وكانت أعلى من صوت الممثلين مما أحدث حالة من التشوش.، فكانت الموسيقى تحتاج أن يتم توظيفها بشكل أفضل من ذلك، باستثناء أغنية الأوفرتير (صفر) لسمر طارق، التي تعبر عن الصدمات والصراعات النفسية فجاءت ملائمة.، ملابس (مريم مجدي) جاءت واقعية معبرة عن الشخصيات، وبما أن العرض والملابس واقعية فما دلالة ارتداء الملابس السوداء لجميع الشخصيات في مناسبة مثل الزفاف؟، وجودها كان مفهوما أثناء تقدم العريس الذي أتى به صلاح لسلمى ، فملابس سلمى السوداء تعلن حالة الحداد على نفسها لقبولها بهذه الزيجة، فما دلالة ارتداء جميع الشخصيات للملابس السوداء في نفس المشهد، حتى مع تتطور الأحداث وقبول الأم بزواج سلمى من علي ابن خالها صلاح الذي تعيش معه حالة حب، نجد أيضا نفس الملابس السوداء لكل الشخصيات، فلم يكن وجودها مبررا خصوصا أن العرض يقدم دراما واقعية.
وعلى الرغم من الملاحظات التي تؤخذ على العرض، إلى أنه أستطاع أن يوصل فكرته ويحمل الآباء بالتفكير في طبيعة التعامل مع الأبناء، واحتوائهم والتقرب منهم لمنع مثل هذه الأمور أن تحدث ، وأن لا يتركوا جحيم ماضيهم يأثر على مستقبل أبنائهم فيصبحوا هم ضحايا هذا الماضي، ويؤثر ذلك عليهم وعلى أبنائهم فيما بعد في حلقة مفرغة لا نهاية لها.