العدد 898 صدر بتاريخ 11نوفمبر2024
في ديسمبر 1940 بدأ الريحاني موسمه الجديد، ونشرت الصحف والمجلات الفنية إعلان مسرحية الافتتاح، وهي «مدرسة الدجالين»، التي ستعرض في مسرح ريتس بشارع عماد الدين يوم 25، وهي كوميدية أخلاقية اجتماعية من ثلاثة فصول، تأليف الريحاني وبديع، وفيها اتهام صريح لرجال الإنتاج السينمائي بالغش والسرقة .. هذا ما جاء في تعليق أحد النقاد .. ولكن موضوع المسرحية، أو تفاصيل الأحداث، ومن مثلها، وتغطية الصحف للعرض .. إلخ ما اعتدنا عليه .. فللأسف لم أجده حتى الآن!! ولعل السبب في ذلك هو اهتمام الصحافة بأحداث الحرب العالمية الثانية التي كانت مندلعة في هذا الوقت!!
وكالعادة كان للعرض حفلات نهارية كل يوم خميس وجمعة وبأسعار مخفضة. وأشارت إلى العرض جريدة «أبو الهول» قائلة: بدأت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني من يوم الأربعاء الماضي في تمثيل الرواية الجديدة «مدرسة الدجالين» وقد أقبل الجمهور على مشاهدتها إقبالاً عظيماً، خصوصاً وهي أول رواية جديدة يقدمها الريحاني في الموسم الجديد. وأصبح الجمهور يتحدث عنها في كل مكان لما فيها من انتقادات اجتماعية وفنية فضلاً عن قوة إخراجها.
شاهد العرض «محمد علي سعد» - المدرس بمدرسة الدواوين – وكتب عنه كلمة، نشرتها له جريدة «أبو الهول» في يناير 1941، قال فيها: شاقني اسم رواية الريحاني الجديدة «مدرسة الدجالين» وللمدرسين بحكم عملهم حنين شديد إلى كل ما اسمه مدرسة حتى مدرسة الدجالين! فما كدت أسمع باسم هذه الرواية حتى هرعت لمشاهدتها وكلي إيمان بأنها لا تزيد عن أنها روضة أطفال أو مدرسة أولية. ولكني وقد أخذت بروعتها ودهشت لحوادثها وحبكتها المسرحية لم يداخلني أقل شك في أنها «كلية» ولي أن أدعوها باسم «كلية الدجالين». وإنه لا يضيرني كمدرس أن أسارع إلى صفوف الطلبة وأن أتلقى فنون الدجل والاحتيال على يد الريحاني وأفراد (عصابته) ولو من باب العلم بالشيء، حتى أكون بمنجاة من قبائل المحتالين خصوصاً في العصر الحاضر. وإذا كان الريحاني لم يتعلم الدجل (بالكلية) إلا أنه كان بحكم فنه وسمو عبقريته يشعرك بأنه من الأبطال العالميين في الدجل والشعوذة والاحتيال. وعلى ذكر الريحاني فإني أستطيع أن أقول ولست أغالي أن هذا الرجل يمنح الشعب المصري الكريم أكثر مما يصيبه من ثقتهم به وحسن تقديرهم له بل هو منهم دائماً فوق هذه الثقة وهذا التقدير. وكلما زادوه إقبالاً زادهم إمعاناً في الإجادة حتى ليبلغ أقصى حد من الكمال. ولا غرو بعد ذلك إذا أصبح الريحاني وحده مطمع الأقطار ومسرحه قبلة النظار. أما رواية الريحاني الجديدة (مدرسة الدجالين) فهي تعد بحق معرضاً لشتى فنون الدجل والاحتيال. كما أن حوادثها تدور حول فن الإخراج السينمائي وتريك منه ما خفي عليك وما لم تكن تعلمه من دخائل هذا الفن بما يجري في (الأستديو) من أخذ المناظر وكيفية الإخراج. وبالجملة فهي نوع مبتكر لم يطرقه مؤلف روائي من قبل، كما أنها نسيج وحدها في الفن المسرحي مصبوغة بلون خاص وطابع خاص. ومما أثار إعجابي بنوع خاص مشهد رائع ينددون فيه باستعمال اللغة العربية الفصحى في الأفلام السينمائية وأما بطل الرواية أو زعيم الدجالين فهو رجل ريفي اسمه «حيدر بك أبو سيفين» وحسبك أن تعلم أنه الفتى المرح الخفيف الروح الأستاذ الريحاني وكفى بهذا تزكية لموقفه في الرواية. وليس في استطاعتنا أن نلم بأطراف هذه الرواية بل نتركها في حسن تقديرها إلى حكم المشاهدين. کما لا نريد أن نشيد بذكر مؤلفيها البطلين بديع والريحاني فها هما دائماً كما هو شأنهما في الإبداع والإجادة. وعلى ذكر الأستاذ بديع خيري أحد مؤلفي الرواية - وقد عرفته منذ يومين لأول مرة - فقد أدهشني من نفسيته ظاهرة غريبة فإنك إذا شاهدت هذا الرجل في مجلس خاص وهو الحييّ المحتشم إذن لرأيت من المستحيل أن يكون هذا العبقري الصامت وهو بديع خيري نفسه الذي يبعث المرح والسرور في قلوب الشعب المصري على بكرة أبيه، وذلك شأن الريحاني أيضاً في شخصيته ومظهره الذي لا ينم على فجره. أما ما يقال عن الرواية في تمثيلها ودقة حبكتها المسرحية وإخراجها الإخراج الفني المنقطع النظير فلأنها تستطيع أن تلم بوصفه إلماماً في هذه الكلمة، وكذلك الحال في الإشادة بإجادة الممثلين فكلهم مجيد وكلهم سواسية في التفوق والنبوغ وهم بجملتهم كأسنان المشط في الاستواء ولا نستطيع القول إن روايته «مدرسة الدجالين» قد طغت على كل ما سبقها من الروايات بحيث كانت محور حديث النظارة وإعجابهم بها سواء في الملهى أو في الطرقات وهم منصرفون إلى دورهم مأخوذين بروعتها والله أعلم بما يكون من حديثهم عنها في الدور والقصور. تلك كلمة إعجاب بالرواية أو تحية تمجيد وتقدير أسديها إلى الأستاذ نجيب الريحاني، وهذا أقل ما أستطيع أن أشيد به في تمجيد هذا النابغة القدير.
وظلت المسرحية تُعرض لمدة أسبوعين، حتى نشرت جريدة «أبو الهول» يوم 25/1/1941 خبراً بعنوان «حادث لزينات صدقي»، قالت فيه: بينما كانت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني تمثل على المسرح رواية «مدرسة الدجالين» وفي هذه الرواية يظهر منظر أستوديو من الداخل وبه آلات للإضاءة والتصوير فسقطت إحدى هذه الآلات على الممثلة زينات أثناء انهماكها في تمثيل دورها فسقطت مغشياً عليها وأسرع أحد الأطباء الذين تصادف وجودهم في الصالة أثناء التمثيل إلى المسرح حيث كشف عليها طبياً ولم يكن عندها من القوة ما يعاونها على مواصلة التمثيل فعهد إلى ممثلة أخرى من الممثلات الناشئات بتكملة الدور حتى لا تتعطل الحفلة ولا يتضايق الجمهور وحملت إلى منزلها ومازالت طريحة الفراش شفاها الله.
وفي مارس 1941 نال الريحاني تكريماً ملكياً، كتبت عنه مجلة «روز اليوسف» قائلة تحت عنوان «الإنعام الكريم على الأستاذ الريحاني»: تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فاروق الأول فأنعم على الممثل الكبير الأستاذ نجيب الريحاني بنيشان النيل من الطبقة الخامسة، تشجيعاً من صاحب العرش المفدى للفنان الممتاز وإعراباً عن ارتياح جلالته السامي للمجهود الرائع الذي بذله الأستاذ الريحاني في الحفلة التمثيلية التي أحياها في السهرة الأخيرة في السراي العامرة. ونريد أن نقول بادئ ذي بدء إن هذا الإنعام من المليك على الفنان إنما هو إعلان رسمي بأن للفن في مصر من صاحب عرشها راعياً، وللفنانين من رمز النهضة حامياً، فكل مشتغل بالمسرح في هذه البلاد قد اطمأن على مصير فنه في كنف «الدولة» بعد أن ظلت الفنون أمداً طويلاً، محرومة من هذه الطمأنينة فإذا وجب أن نهنئ الأستاذ الريحاني بهذا العطف، جاز أن نهنئ زملاءه جميعاً. ونريد بعدئذ أن نذكر أن هذا العطف الملكي أخذ بيد مصر الفتية إلى بداية الطريق المؤدية إلى مكانها المنشود بين أمم الحضارة، ففي إنجلترا، أعجب ملك الإنجليز بالممثل جورج آرلس فأنعم عليه بلقب «سير» .. وعلى سيبل ثورندايك بلقب «ليدي» وها نحن أولاً نرى مليكنا المحبوب يعجب بالأستاذ نجيب الريحاني فينعم عليه بنيشان النيل الخامس. ومعنى هذا التشريف أن الفن الجميل ليس أداة ترفيه عن الجماهير، بل هو مدرسة شعبية كبرى يستحق المبرزون من أساتذتها أسمى ألقاب الدولة ورتبها. أدام الله للفن جلالة حاميه حتى يأخذه بيده إلى حيث يسطع النور.
ونشرت جريدة «أبو الهول» تفاصيل هذا التكريم الملكي، قائلة تحت عنوان «الإنعام الملكي بنيشان النيل الخامس على الأستاذ نجيب الريحاني»: أقيمت في سراي عابدين العامرة مساء الجمعة الماضي حفلة ساهرة كبرى اشترك الأستاذ نجيب الريحاني فيها بالتمثيل 45 دقيقة قدم فيها رواية «الستات ما يعرفوش يكدبوا» مختصرة من فصل واحد. وبعد انتهاء التمثيل دعي الأستاذ الريحاني للمثول بين يدي حضرة صاحب الجلالة الملك فتفضل جلالته وأنعم عليه بنيشان النيل من الدرجة الخامسة. وهذا النيشان هو الذي أنعم بمثله قبل الآن على الأستاذ محمد عبد الوهاب وعلى الرياضي المعروف محمد عاكف فنهنئ الأستاذ نجيب الريحاني بهذا التقدير الملكي السامي الكريم.
وتكمل الجريدة الموضوع قائلة: قابلنا الأستاذ نجيب الريحاني وهنأناه بهذا الإنعام الملكي السامي فتحدث إلينا عن شعوره بعد هذا العطف الملكي فقال: “بعد أن انتهيت من التمثيل في حفلة سراي عابدين دعانا حضرة صاحب المعالي أحمد حسنين باشا للمثول بين يدي مولاي مليكنا العظيم ففوجئت بعطفه السامي وبكيت لشدة فرحي وغبطتي وسروري ولا أخفي عليك أنني كنت قد يئست من العمل للفن، ولكن هذا العطف الملكي ضاعف قوتي، وشد من عزيمتي، فبدأت أعمل للفن من جديد. بدأت أخدمه حيث شعرت أنني حييت حياة جديدة. وأصبحت حياتي الماضية في حكم النسيان، والكلمة الصريحة التي يجب أن أقولها: إن المسرح المصري كتب له أمل جديد في عهد الفاروق .. وهذا الإنعام السامي وإن كنت أنا الذي حملته بيدي .. لكنه تشريف لجميع الممثلين .. وتشريف للمسرح .. وتشريف لكل من ينتسب إليه .. فأملي ورجائي أن يشعر جميع زملائي بما أشعر به أنا الآن وأن يشاركونني غبطتي اليوم .. كما أرجو أن أشاركهم غبطتهم غداً .. فنحن جميعاً رائدنا واحد .. هو رفعة شأن المسرح المصري .. وأملنا أن يكون جنوده جميعاً موضع العطف والتقدير”.
استغلت جريدة «أبو الهول» هذا التكريم، ونشرت كلمة – لا تخلو من خبث – قالت فيها تحت عنوان «بين يوسف وهبي ونجيب الريحاني»: كان للإنعام الملكي السامي على الأستاذ نجيب الريحاني رنة فرح وسرور في الوسط الفني وغير الوسط الفني. وقد انهالت عليه البرقيات من الأصدقاء والمعجبين حتى ومن كثيرين لم تكن بينهم وبينه إلا صلة المتفرج بالممثل. ولكن بعض أهل الوسط الفني لاحظوا أن بعض كبار الممثلين أغفلوا تهنئتهم لزميلهم الأستاذ نجيب الريحاني وكان الواجب يقضي أن يكونوا هم أول من يقدم التهنئة إليه .. فالأستاذ يوسف وهبي رغم أن مسرحه إلى جانب المسرح الذي يعمل به الريحاني ويذهب إلى المسرح كل يوم في «البروفة» وفي «الماتنيه» وفي «السواريه» لم يفكر في أن يهنئ الأستاذ الريحاني بهذا الإنعام، ولم يرسل إليه برقية ولا خطاباً. ولكن لعل الأستاذ يوسف وهبي له حكمة في هذا لا نعلمها نحن!!
هذا الموقف كان مختلفاً مع زكي طليمات، الذي هنأ الريحاني، فرد عليه الريحاني بكلمة نشرتها مجلة «الصباح» - وأعادت جريدة «أبو الهول» نشرها – قال فيها الريحاني: صديقي الوفي وزميلي النابه الأستاذ زكي طليمات، لم يكن يخالجني أقل شك في أن مجاهداً مخلصاً مثلك قوي الإيمان بنهضة المسرح المصري ورقيه بارز الأثر في تكوينه وتدعيمه يتلقى في كثير من الغبطة والسرور نبأ التقدير الملكي السامي لجهود متواضعة من زميل لك طالما جمع بينه وبينك بالقلب والروح جلال فكرة واحدة يعمل كلانا للوصول إليها تحت راية الفن خالصاً لوجه الوطن وأنك إذ تهنئني يا صديقي بهذا العطف الملكي الكريم الجدير منه ومني بنصيب غير منازع فيه. فما كان إلا إنعاماً على الفن عامة قبل أن يكون خاصاً بشخصي، وما كان جهادك أنت ذلك الجهاد الشاق الطويل محل إنكار في يوم من الأيام حتى من منافسيك، وهو بالحري أثبت أساساً وأكثر جلاء عند من يقدرونه مثلي من أصدقائك القدماء الذين يعرفون أكثر من غيرهم كم ضحيت للمسرح الناهض من جهد جهيد وكم لاقيت في سبيل خدمته ونفعه من عقبات مضنية شائكة لم تزدد معها إلا وفاء بفنك وتمسكاً بمبدئك النزيه الجريء الذي جرى منك مجرى الدم في الإخلاص للمسرح المصري والمعاونة الصادقة المتوالية للعاملين معك جنباً إلى جنب للغاية المرجوة. يشهد الله أني لا أقصد إلى مدحك ولا أميل لممالأتك إذ أقرر في صراحة وإنصاف أن هذه الطريق المعبدة الممهدة التي نسلكها اليوم سهلة هينة لم تكن لولاك ولولا جهود أمثالك القليلين المنكرين لذاتهم والصابرين على تضحاياتهم إلا شقة عسيرة وعرة مليئة بالصخور والأشواك. ولعلي إذا رجعت بالقسط الأوفر من هذا الفضل إليك لا أكون متجنياً على الحقيقة أو مبالغاً في تقرير أثر مشكور لا ترقى إليه الريبة ولا ينال منه الجحود.
إذا كانت مسرحية «مدرسة الدجالين» لم نحصل على أية تفاصيل لها – حتى الآن – ولا نعرف تفاصيل موضوعها، فإن الأمر ينطبق أيضاً على العرض الجديد «جناين»، حيث وجدنا إعلاناً عنه يقول: إن عرض المسرحية سيتم يوم 24 مارس في مسرح ريتس، وهي مسرحية كوميدية أخلاقية اجتماعية ذات ثلاثة فصول، تأليف بديع خيري ونجيب الريحاني. وبعد العرض بأسبوع لم نجد عنه أية مقالات أو تفاصيل – ربما أيضاً بسبب الحرب العالمية الثانية – ولكننا وجدنا خبراً نشرته مجلة «الصباح» في أبريل 1941، قالت فيه تحت عنوان «فرقة الأستاذ الريحاني بالأوبرا»: أقيمت مساء الخميس الماضي حفلة الرواد بدار الأوبرا الملكية وتفضل بتشريفها حضرة صاحب الجلالة الملك وحضرة صاحب الجلالة الملكة وجلالة المملكة نازلي وصاحبات السمو الأميرات شقيقات جلالة الملك وكبار رجال الدولة. وكان من حسن حظ الأستاذ نجيب الريحاني أن قام مع فرقته بتمثيل رواية «جناين» في الحفلة وهي الرواية الجديدة التي أخرجها في الأسبوع الماضي فحظي بالرضا السامي.