الكاتب المسرحي.. مؤلف / معالج بيانات في المسرح بعد الدرامي(1)

الكاتب المسرحي.. مؤلف / معالج بيانات في المسرح بعد الدرامي(1)

العدد 899 صدر بتاريخ 18نوفمبر2024

المقدمة : عبقري غير أصيل
 بالنسبة للكثيرين، لا يزال شكسبير يحمل صفة “المعاصر” الدائم لنا، كما عبر عن ذلك جان كوت وبولسلاف تابورسكي في ستينيات القرن العشرين. ومن هذا المنظور، نميل إلى معاملة أعمالها باعتباره كتبا مقدسًة - ومن هنا جاءت مكانته كشاعر، وهو مصطلح قريب من صفة النبي . وبالنسبة للكاتب المسرحي البلجيكي بول بورفيور، فإن “شكسبير مات، وانتهى الأمر!”  ولم يعد لديه ما يقوله لنا في عالمنا في القرن الحادي والعشرين. بهذا العنوان لمسرحيته، يعلن بورفيور أن شكسبير كاتب مسرحي قد مات ، ولكنه يعلن أيضًا أن المسرح الدرامي مات باعتباره “نموذجًا ولم يعد يعبر عن نظرة العالم لما بعد الحداثة. وبمزيد من الدقة، يقترح جون دراكاكيس أن ما يمكن أن يشير إلى ما بعد الحداثة ليس أعمال شكسبير نفسه، بل استخدامها : “مع التداول اللامتناهي لاقتباسات شكسبير التي تتقاسم الآن نفس المكانة مع أشكال أخرى من التمثيل، دخلنا عالم ما بعد الحداثة”. ومع ذلك، فإن بيان بورفور الاستفزازي المناهض للتقاليد “كل ما سبق هاينر مولر ينتمي إلى المتحف” يؤكد فكرة راسخة مفادها أن مبادئ ما بعد الدراما بدأت مع هاينر موللر، مؤلف النص المسرحي الذي غير النموذج “ آلة هاملت «Die    Hamletmaschine  قال المؤلف المسرحي إروين جانز: “من أو ماذا مات بالفعل إذا مات شكسبير [...]؟”.
وبعد فترة طويلة من إعلان بيتر سوندي عن “أزمة الدراما” في كتابه “نظرية الدراما الحديثة” (1956)، وفي أعقاب إعلان بارت عن “موت المؤلف” (1967)، تبع ذلك في المسرح عدة مقالات : موت الكاتب المسرحي؟ (صفحة 1992)، وموت الشخصية (فوكس 1996)، وحتى، ضمناً، “موت النص” - على الأقل وفقًا لتفسير غير شائع لمفهوم هانز ثيس ليمان عن “المسرح ما بعد الدرامي” (2006) باعتباره مسرحًا بصريًا ما بعد نصي . هذا الاختزال يجعل من النموذج الدرامي مجردًا من خصوصيته : هيمنة منطقه على”لغات” الأداء المسرحية الأخرى (الصوت، الحركة، التجسيد...)، ويفرض سردًا غائيًا لصراع أخلاقي يجب التغلب عليه. وتحطم مسرحية آلة هاملت هذا المنطق المنسوب إلى العقل البشري، جنبًا إلى جنب مع لغته. وفي النموذج ما بعد الدرامي، يبدو الموت “الصريح” لشكسبير أقل إثارة للاهتمام على خشبة المسرح من موته المجازي. ومن خلال الأخير، يضع المخرجون المؤلفون الطليعيون أنفسهم في مواجهة تقاليد المسرح، وقواعده  ونموذج المؤلف العبقري. وقد اعترفت المخرجة آني دوسن   هاملت”، التي تلقت تعليمها في الإخراج كما عاشته  في مدرسة ييل التقليدية للدراما  ومعالجة للبيانات اقتبست مسرحية هاملت في معالجة بعنوان “ عمل فني a piece of work “ عام 2013 , والتي سوف أناقشها .
 ولكنني أميل مع مارك فورتير إلى القول بأن قتل شكسبير على خشبة المسرح يعني أيضاً وضعه في دائرة الضوء وخلق ما يسميه دانييل فيشلين “تأثير شكسبير”، وهو “وظيفة للانتشار الثقافي لشكسبير، حيث تتجلى الأصداء والرنين والتكامل المباشر لهذا التأثير في مسرحية معينة”. لذا، إذا كان لشكسبير أن يعود إلى الحياة من خلال قتله، فبأي شكل إذن يمكن للمؤلف المقتول أن ينهض من بين الأموات؟ .
 ومع نموذج “ المؤلف كمعالج بيانات “ , فانني أعني نموذج كتابي معين من خلال الاشارة الى تكنولوجيا معالجة المعلومات الرقمية في القرن العشرين , ولا أقول ان النهج الوسيط للكتابة باعتباره تعديلا واعدادا للنص هو نهج جديد , بل لاضفاء طابع تاريخي عليه . ويبدو أننا نشهد – منذ حوالي نصف قرن – عودة لميل تجاه مفاهيم كتابة أقل تركيزا على المؤلف – تذكرنا بمفاهيم الماضي مع أنها ليست مطابقة لها بالطبع . فقد أوشك مفهوم التأليف الفردي أن يترسخ في عهد شكسبير : فقد كان شاعرنا في الممارسة العملية ممثلاً يزود المسرح بالنص، بالتعاون مع ممثلين آخرين، ويستولي على النصوص المتداولة والحبكات والموضوعات. حتى ما يُعتبر مسرحية كل المسرحيات فانها “ليست بالتأكيد” أصلية. مثلما استعان شكسبير بمسرحية هاملت الأصلية. ومع ذلك، فإن اقتباس شكسبير لمسرحية هاملت الأصلية يعتبر نصًا “أصليًا”. ويوضح هذا الرأي “مغالطتين من الاثنتي عشرة مغالطة في نظرية الاقتباس المعاصرة” التي أشار إليها توماس ليتش: “النصوص المصدرية أكثر أصالة من الاقتباسات” . “فالاقتباسات عبارة عن نصوص متداخلة، والنصوص السابقة لها مجرد نصوص”. ومن عجيب المفارقات أنه بفضل القوة التوزيع لثقافة الطباعة ومن خلال عدسة التأليف الرومانسي والفردي، أصبح شكسبير المقتبس ومعالج البيانات المتقدم , والنموذج الحقيقي للعبقرية العامة بعد وفاته .   

تحريك المعلومات
 في كتابها « عبقري غير أصيل Unoriginal Genius” تقول مارجوري بيرلوف إن الكتابة في القرن الحادي والعشرين أصبحت أقل من مسألة الابتكار وأكثر من مسألة إعادة استخدام النص . ويذهب البعض إلى حد الادعاء بأن “قواعدالمزج” في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين “ أصبحت مجازا للوسائط المتعددة في العصر الرقمي”. أو على حد تعبير كينيث جولدسميث، وهو أحد أتباع بيرلوف، والذي يمكن الاستشهاد به كثيرًا: “كنت فنانًا، ثم أصبحت شاعرًا؛ ثم كاتبًا. والآن عندما يسألني أحد، أشير ببساطة إلى نفسي باعتباري معالجًا للكلمات Word Processor”. والنموذج التالي الذي قد نتوقعه منه هو نموذج المبرمج (من الفنان إلى المهووس...). ولكن هذا لا يمنع جولدسميث من التنبؤ، باعتباره شاعرا، بأن التأليف اليوم يميل إلى التحول نحو ما أسميه بشكل عام “معالج البياناتData Processor» باستمرارية تتراوح من نماذج الكتابة “القوية” مثل المفهوم الرومانسي للعبقري إلى النماذج “الضعيفة” مثل أصحاب التقاليد الشفهية والكتابة التعاونية (الرقمية) والاستيلاء وما يسمى بالكتابة غير الإبداعية .
      المؤلف باعتباره معالجًا للبيانات يبرز فعل الكتابة ومادتها باعتبارها معالجة لبيانات نصية، وهو الأمر الذي تسهله “الثقافة الغربية المرتبطة الكمبيوتر “  من خلال الاتاحة التشعبية للبيانات، وإمكانية قصها ولصقها، و”دمجها” في وقت قصير. ويطلق بيرلوف على هذه الممارسة الأدبية “تحريك المعلومات”، وهو ما أعاد جولدسميث صياغته على أنه “فعل دفع اللغة إلى الأمام فضلاً عن فعل التأثر عاطفياً بهذه العملية”.
      المصطلح مناسب ولاسيما للمسرح، حيث يضيف إليه فضاء الأداء معنى ثالثًا: لا يحرك البيانات النصية من خلال المؤلفين فحسب (متحرك)، ولا يحرك الجماهير فحسب (عاطفيًا)، بل إنه يتحرك فعليا على خشبة المسرح. فيما يلي، سأناقش أولاً ثلاثة جوانب من “تحريك المعلومات” التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنموذج المؤلف كمعالج للبيانات وبيانات النص المستخدمة:
أولاً، جانب تكنولوجي : قابلية ترميز البيانات النصية و”تقسيمها”.
ثانيًا، جانب تكويني : “ قابلية الاستشهاد بها” .
ثالثًا، جانب أدائي، حركيتها.
بعد ذلك، سأناقش التعديل الخوارزمي لـمعالجة مسرحية “هاملت” لآني دورسن بعنوان “قطعة عمل” من هذا المنظور الثلاثي الطبقات.

قابلية الترميز
 من الناحية التقنية، فإن «نقل المعلومات» هو ما يجعل الوسائط الجديدة (= الرقمية) «جديدة». لقد زادت الحوسبة الرقمية من إمكانية نقل المعلومات بطرق معينة؛ حيث يمكن «تحويلها» من تنسيق رقمي أو «منصة» أو وسيط إلى آخر والعكس صحيح، ويبدو الأمر سهلاً مثل خدعة سحرية:
يمكن تحليل النص المكتوب في مستند ميكروسوفت Microsoft Word وتحويله إلى قاعدة بيانات، وتحويله بصريًا في برنامج فوتوشوب Photoshop، وتحريكه في برنامج فلاش Flash، وضخه في محركات معالجة النصوص عبر الإنترنت، وإرساله إلى آلاف عناوين البريد الإلكتروني، ونقله إلى برنامج تحرير الصوت وإخراجه على شكل موسيقى .
....................................................................................
• كلير سويزن
• قبل إجراء بحث الدكتوراه الخاص بها حول «النص كبيانات في الوسائط ما بعد الدرامية» في جامعة بروكسل الحرة، عملت كلير سويزن كمؤلفة مسرحية لفرقة المسرح البلجيكي . وفي مجال البحث القائم على الممارسة. هي عضو منتسب في مجموعات البحث CLIC (VUB) وFigura (UQA). ومن بين منشوراتها نصوص مسرحية ومجلد عن وضع النص في مسرح ما بعد الدراما ومقال في JADT. قامت بتدريس علم الدراما والسرد للكتاب الطموحين في أقسام الدراما الناطقة بالهولندية والفرنسية في بلجيكا.
 • نشرت هذه المقالة في  Hybrid, Revue de Arts et Meditations Humane  في مايو 2018 .


ترجمة أحمد عبد الفتاح