يا ما كان في نفسي!!

يا ما كان في نفسي!!

العدد 899 صدر بتاريخ 18نوفمبر2024

كانت الحرب العالمية على أشدها، وجنود الاحتلال البريطاني يتجولون في شوارع مصر أثناء فترات الراحة والأجازات من الجبهة، لدرجة أن مشروعاً للترفيه عنهم تم تنفيذه في مصر، وشارك فيه الريحاني وفرقته بعرض مسرحي، أخبرتنا بذلك مجلة «روز اليوسف» في يوليو 1941، قائلة تحت عنوان «حفلة تكريم لكبير الممثلين الإنجليز في الشرق»: «رأى الاتحاد المصري الإنجليزي بمناسبة وجود السير سيمور هيكس الممثل الكوميدي النابغ والليدي زوجته في مصر للإشراف على مشروع الترفيه المسرحي عن الجنود البريطانيين في الشرق الأوسط، أن يقيم لهما حفلة تكريم في ناديه يدعو إليها أعضاء النادي وكبار المصريين والإنجليز، وبعض الممثلين المصريين لتمثيل مشهد مسرحي شرقي.
 ولما كان هذا الممثل العظيم والحائز على وسام الليجون دونير يعتبر «كشكش بريطانيا العظمى» فقد رأى الاتحاد أن تمثل أمامه فرقة الأستاذ نجيب الريحاني فصل من إحدى رواياتها! وأقيمت هذه الحفلة مساء الثلاثاء 15 الجاري ومثلت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني الفصل الأول من مسرحية «حكم قراقوش»».
رغم ذلك أثرت الحرب العالمية الثانية سلباً على الفن في مصر .. فدار الأوبرا الملكية كادت أن تُغلق بسبب عدم وجود فرق أجنبية تعرض فيها لتعذر السفر والانتقال بين البلدان والقارات أثناء الحرب!! وأغلب الفنانين الأجانب اضطروا إلى الرحيل عن مصر بأوامر عسكرية!! هنا استغلت الفرق المسرحية ظروف الحرب وطالبت بأيام ومواسم لعرض أعمالها داخل الأوبرا الملكية، التي كانت حكراً على الفرق الأجنبية!!
هذا الأمر نشرته مجلة «روز اليوسف» في أكتوبر 1941، تحت عنوان «الفرق التمثيلية والتمثيل على مسرح الأوبرا» قائلة: كثر الكلام في الأيام الأخيرة حول طلب الفرق التمثيلية المصرية، وهي فرق الأساتذة نجيب الريحاني، ويوسف وهبي، وعلي الكسار، ثم فرقة الآنسة ملك المطربة المعروفة من وزارة المعارف بالسماح لها بالعمل في هذا الموسم على مسرح دار الأوبرا الملكية. وسبق أن ذكرنا عدد الحفلات والإعانة التي طلبتها كل فرقة، وقلنا في ذلك الوقت أيضاً إن هذه الطلبات لا تزال محل نظر ولاة الفن في الوزارة .. غير أنها – أي الوزارة – لا ترغب في إجابة طلب الأستاذ علي الكسار والآنسة ملك محمد. وأعلن رسمياً في الأسبوع الماضي أن وزارة المعارف وافقت على منح فرقة الأستاذ يوسف وهبي مدة شهر للعمل على مسرح الأوبرا يبدأ من 15 نوفمبر المقبل مع رفض الإعانة التي طلبتها الفرقة. على أن تقدم فرقة الأستاذ يوسف وهبي لإدارة الأوبرا قبل موعد كل حفلة جميع التذاكر المراد بيعها لتتولى هي إرسالها لمصلحة الضرائب وبيعها بشباك التذاكر بواسطة أحد موظفيها وذلك منعاً لدخول المتعهدين في هذه العملية. أما فرقة الأستاذ نجيب الريحاني فلا يزال طلبها موقوفاً لأن نجيب يحتم طلب الإعانة قبل السماح بالتمثيل، لأنه سيدفع منها 1200 جنيه كمصاريف إنارة وخدم لدار الأوبرا مدة 12 حفلة في مدى ثلاثة أشهر ابتداء من أول يناير سنة 1942، و800 جنيه تدفع كمرتبات للممثلين والممثلات ورجال الإدارة مدة شهري البروفات الذين ستغلق الفرقة فيها أبوابها لتستعد لإخراج الروايات التي ستمثلها على مسرح الأوبرا. هذا هو السبب الذي من أجله يحتم نجيب طلب الإعانة قبل التمثيل. أما ما أشيع خلاف ذلك فهو لا يطابق الواقع.
أمام هذا التعنت – بالإضافة إلى ظروف الحرب – أعلن الريحاني افتتاح موسمه ابتداء من الخميس 25 سبتمبر 1941 بتقديم مسرحياته السابقة طوال شهر رمضان – وتحديداً أيام الخميس والجمعة والأحد - ومنها: استنى بختك، الدلوعة، حكاية كل يوم، حكم قراقوش، جناين، الدنيا على كف عفريت، مندوب فوق العادة، لو كنت حليوة، الستات ما يعرفوش يكدبوا، ما حدش واخد منها حاجة.
وعن افتتاح الموسم قالت جريدة «أبو الهول»: افتتحت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني موسمها الشتوي على مسرح ريتس من يوم الخميس الماضي برواية «استنى بختك» وكان الإقبال عليها عظيماً جداً، حتى أن الأستاذ نجيب الريحاني نفسه كان لا يتوقع هذا الإقبال على رواية مُثلت قبل الآن عدة شهور، وكانت تُعاد بين كل وقت وآخر. وعلى ذكر موسم فرقة الريحاني نقول: إن الممثلة زينات صدقي كانت قد اعتذرت عن العمل مع الفرقة مفضلة عملها في الصالات والكباريهات وكانت الفرقة قد عهدت بأدوارها إلى الممثلة «آمال زايد». ولكن زينات صدقي قد عادت إلى العمل في يوم الافتتاح. ولعودة زينات صدقي قصة عجيبة فقد قالت لمندوب فرقة الريحاني الذي ذهب إليها «أنا مش ممكن أمثل في الفرقة اللي بتشتغل فيها ميمي شكيب! .. ليه يا ست؟ لأن أختها زوزو كان عندها رواية في الإذاعة وسلمتني دور أمثله فيها وعندما ذهبت إلى المحطة في موعد الإذاعة قيل لي إن ميمي هي التي ستمثل الدور فكان يجب عليها أن تخبرني بهذا التغيير قبل ذهابي إلى المحطة وأفاجأ بهذه الصدمة.
وهذا معناه أن الريحاني لم يبدأ موسمه بعرض جديد كما هي العادة، والسر في ذلك أنه كان مشغولاً بالتحضير لسفر الفرقة في رحلة فنية إلى فلسطين .. وللأسف تمّ إلغاؤها!! فقد نشرت جريدة «أبو الهول» - في منتصف أكتوبر 1941 – كلمة عنوانها «إلغاء رحلة الريحاني إلى فلسطين»، جاء فيها: كان الأستاذ نجيب الريحاني قد تعاقد على السفر في رحلة إلى فلسطين مع فرقته أول نوفمبر وقد وقع العقد فعلاً في الأسبوع الماضي. وفي مساء الخميس الماضي بينما كان الأستاذ نجيب جالساً في غرفته استعداداً للتمثيل فوجئ بمتعهد هذه الحفلات يقول: «أنا عايز تعمل معروف يا أستاذ تأجل الرحلة كام يوم عن الموعد اللي اتفقنا عليه»! ولم يتركه الأستاذ الريحاني يتمم حديثه وقال له: «جيت للحق كمان أنا الفار بيلعب في عبي من ساعة ما كتبت الكونتراتو ده .. لا تأجيل ولا مش تأجيل .. أحنا نقطع الكونتراتو ستين حتة»! وقد نُفذ اقتراح «التقطيع» والغيت الرحلة.
وظل الريحاني يعرض مسرحياته القديمة لمدة شهرين حتى يناير 1942، عندما أعلن عن عرضه الجديد وهو مسرحية «يا ما كان في نفسي» التي عرضها في الأوبرا الملكية، مما يعني أنه نجح في مسعاه كي يعرض داخل الأوبرا أسوة بالفرق الأجنبية التي كانت محتكرة الأوبرا قبل الحرب، وبالفرق المصرية التي تقدمت بطلبات للتمثيل في الأوبرا أمثال يوسف وهبي. وقد شاهد العرض المندوب الفني لمجلة «الصباح» فكتب عنه قائلاً:
في دار الأوبرا شاهدنا مساء الخميس كوميديا «يا ما كان في نفسي» لفرقة الريحاني بدار الأوبرا. وقد كانت الحفلة حاشدة بالمتفرجين زاخرة بالسيدات والآنسات وتحركت الرواية فإذا بعروسين يضطر كل منهما إلى انتحال شخصية خادم الآخر، فإذا ارتفعت الضرورة وبدت حقيقتها تزوجا. فكاد المتفرجون يجمعون على أن هذا الموضوع سبق لفرقة أخرى أن عرضته على المسرح ثم أظهرته في السينما. وكانت أغلب فكاهات الرواية ترسل في صفة أحد أشخاصها أو اسمه، لا في المفارقات والمواقف التي يستدعيها الموضوع، الأمر الذي دار على كثير من الألسنة وكان الحوار يطول بالممثلين في بعض المشاهدين فينقد النظارة ذلك ويتساءلون عن المناظر والمفاجآت. وسمعنا البعض يعيبون على السيدة أمينة شكيب في تمثيلها لدور «فاطمة هانم» ما كانت تخرج به على دورها من حركات، وعلى السيدة زوزو شكيب في تمثيلها لدور «غزالة هانم» عدم اتقانها الإلقاء وعلى الأستاذ كمال المصري في تمثيله لدور «خورشيد باشا» وضوح اعتماده على الملقن. وحينما شارفت الحفلة على الانتهاء وجدنا فتاة تقول لصديقاتها: «أما لو كانوا عرضوا في الرواية رقص وإلا غناء، كانت بقت حاجة شكسبير صحيح!”.
وبعد أيام نقلت الإذاعة إحدى حفلات المسرحية، فنشرت مجلة «الصباح» أيضاً كلمة بعنوان «رواية ياما كان في نفسي على مسرح دار الأوبرا»، قالت فيها: أذيعت مساء الاثنين الماضي رواية «ياما كان في نفسي» التي يمثلها الأستاذ نجيب الريحاني مع فرقته وقد رأينا بهذه المناسبة أن نسجل بعض ملاحظات لا بد من تسجيلها: يتضمن موضوع الرواية نواحي أخلاقية جديرة بالبحث والعلاج .. منها هذا الرجل الأمين الذي يلاقي في طريقه المطاردة والإرهاق والإهانات، ولا ذنب له في حياته إلا أنه أمين، وكانت أمانته جرماً في نظر هذا الجيل، فيلاقي جميع أصناف التعذيب والتشريد .. ومن النواحي الأخلاقية أيضاً هذين الشقيقين اللذين يتفنن كل منهما في الكيد لأخيه ليتنحى عن تركته، وهذا ما يثبت أن المال يغير الأخلاق، حتى بين من تربطهم علاقة الدم. وبقدر ما أعجبنا بقيمة الفكرة والأفكار الأخلاقية المتعددة في الموضوع بقدر ما أستأنا من بعض الألفاظ مثل: “يضربوك في الحيطة ترد”، و”يفسحوك في المجاري”، و”يشدو عليك السيفون”، وغير ذلك من الألفاظ البذيئة التي إن جاز أن تقال في أي فرقة، فليس من اللائق أن تقال من فرقة كفرقة الريحاني.
لم يستمر الريحاني طويلاً في الأوبرا الملكية، وأعلنت ذلك مجلة «المصري أفندي» قائلة: “انتهت حفلات الأستاذ نجيب الريحاني على مسرح دار الأوبرا الملكية وانتقل أبو الكشاكش بكامل هيئته إلى مسرح «ريتس» استعداداً لتقديم مسرحية جديدة، ويرفض الأستاذ نجيب التحدث بشيء عنها أو عن اسمها إلا بعد استكمال فصولها”. وظل الريحاني يرفض الحديث عن عرضه الجديد الذي لم يظهر حتى انتهى الموسم الشتوي، مكتفياً بعرض مسرحياته القديمة مثل «الدنيا لما تضحك». وعندما بدأ موسم الصيف قرر الريحاني أن يعمل فيه من خلال رحلة فنية إلى «رأس البر»، ولكن الأمر لم يتم كما رسمه الريحاني، وأوضحت ذلك مجلة «الصباح»، قائلة تحت عنوان «ممثلو وممثلات فرقة الريحاني»: انتهى موسم فرقة الريحاني بعد أن كان في نيته أن يعمل في فصل الصيف لكنه صارح الممثلين والممثلات بأنه يأسف كل الأسف لأنه لم يرتبط بعقود الآن. وقد شكا إلينا عدد كبير من أفراد الفرقة أنهم ذهبوا عدة مرات إلى مسرح ريتس ليقبضوا ما تبقى من مرتباتهم ولكنهم كلما ذهبوا وجدوا الأستاذ يوسف الريحاني مدير إدارة الفرقة (نايم) في غرفته بالمسرح و(البواب) يأبى إيقاظه من (النوم)! ولهذا السبب لم تصرف لهم استحقاقاتهم حتى كتابة هذه السطور، فهل يعلم الأستاذ نجيب الريحاني بذلك!! فقام الريحاني بالرد على ذلك، ونشرت المجلة الرد في مايو 1942، قائلة: «اتهم الريحاني «زوزو شكيب» بأنها من أبلغت المجلة لأنها الوحيدة التي تأخر صرف مرتبها، لأنه تعمد ذلك نظراً لمرضها وتمارضها مما عطل عمل الفرقة وعهد بأدوارها إلى الممثلة «آمال زايد»».
وفي نهاية مايو 1942 نال الريحاني تقديراً ملكياً معنوياً، عندما شاهد رئيس الوزراء النحاس باشا، وملكة مصر ووالدة الملك وأميرات القصر الملكي عرضاً للريحاني في الأوبرا الملكية، أخبرتنا به جريدة «البلاغ» قائلة: في الأوبرا قدمت فرقة الريحاني مسرحية الموسم «ياما كان في نفسي» وقد شرفتها صاحبتا الجلالة الملكة والملكة نازلي، كما حضرها رفعة رئيس الوزراء والسيدة المحترمة قرينته. وفي فترة الاستراحة بين الفصول دعي الأستاذ الريحاني لمقابلتهما فأبديا إعجابهما بالرواية وبتمثيلها وممثلاتها، ثم تلطف رفعة النحاس باشا فسأل الأستاذ الريحاني عما إذا كان له مطلب يختص بعمله فأجاب بأن لديه مطالب عديدة تعود على الفن بأحسن النتائج فأبدى رئيس الحكومة استعداده للاستماع إلى تلك المطالب في وقت قريب، وقد تحدث إلينا الريحاني بعد ذلك بأن أهم ما يهتم به هو إنشاء مدرسة نموذجية لفن التمثيل يشرف على تعليم النشء فيها ليجعل منهم ممثلين من الطراز الأول.
هذا المقترح أثارته مجلة «آخر ساعة» بعد ستة أشهر قائلة تحت عنوان «معهد للتمثيل»: منذ شهور – وعندما ألف معالي وزير الشئون الاجتماعية – اللجنة التي عهد إليها لبحث الوسائل المؤدية للنهوض بالتمثيل .. في ذلك الوقت قدم الأستاذ نجيب الريحاني اقتراحاً بإنشاء معهد للتمثيل الكوميدي وصفته السيدة زينب صدقي يومها بأنه «مدرسة لتخريج كشاكش صغيرة» .. ووضع الاقتراح على أحد الرفوف ولما لم يقترب منه أحد راح في نوم عميق. وفي الأسبوع الماضي أرسل نجيب مذكرة تفسيرية للاقتراح المذكور. ولا زال نجيب ينتظر أن يتحرك اقتراحه ويستيقظ من نومه الذي طال!!
انتهى الموسم الصيفي لنجد بعض أعضاء فرقة الريحاني موزعين على ملاهي روض الفرج وكازينوهاته ومسارحه، والبعض الآخر انضم مؤقتاً إلى فرقة «ببا عز الدين»، وقلة من أعضاء الفرقة عملت في أستوديوهات السينما .. إلخ، لذلك قام الريحاني بتجميعهم مرة أخرى ليبدأ موسمه الجديد في رمضان بمسرحية جديدة من تأليفه مع بديع خيري، وهي مسرحية من نوع جديد لم يقدمه أحد حتى الآن .. هكذا قالت الصحافة!! ولكن الموسم بدأ في منتصف سبتمبر 1942 بإعادة لمسرحيات سابقة مثل «الدلوعة» و«ياما كان في نفسي» و«حكاية كل يوم»! وفي أكتوبر نشرت مجلة «الصباح» خبراً قالت فيه: شاهد حضرتي صاحبي المعالي عبد الفتاح الطويل باشا وزير المواصلات والأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الشؤون الاجتماعية رواية «الدلوعة» من فرقة الأستاذ نجيب الريحاني على مسرح ريتس.


سيد علي إسماعيل