مساحات من الوحدة والقلق .. في ورشة دي كاف

مساحات من الوحدة والقلق .. في ورشة دي كاف

العدد 900 صدر بتاريخ 25نوفمبر2024

ضمن فعاليات مهرجان دى كاف فى دورته الثانية عشر والمقام فى الفترة من 17 أكتوبر إلى 10 نوفمبر فى القاهرة بوسط البلد إستضاف المهرجان المخرج الفرنسى فيليب بولاى لإقامة ورشة إخراج وتمثيل بعنوان «مساحات من الوحدة والقلق « والتى امتدت لمدة ثلاث أسابيع تقريبا وانتهت بعرض نتيجة هذه الورشة يوم 4 نوفمبر على مسرح روابط بوسط البلد .
ومن الجدير بالذكر أن  مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة (دي-كاف) الحدث الفني الوحيد في مصر الذي يجمع بين أنواع متعددة من الفنون المعاصرة، ويُقام سنويًا حيث يضم المهرجان عروضًا متنوعة في مجالات الأداء، الموسيقى، السينما، المسرح، والفنون البصرية، بمشاركة فنانين محترفين من مصر والعالم.
يمتاز (دي-كاف) باستخدام أماكن غير تقليدية لتقديم عروضه، مثل المباني التاريخية، الطرقات، المحلات، وأسطح المباني، ما يخلق حالة فريدة من التفاعل بين الجمهور والفنانين، ويبرز الطابع الاجتماعي والثقافي والعمراني المميز لمنطقة وسط البلد
يهدف المهرجان إلى ترسيخ مكانته كأبرز حدث فني سنوي في العالم العربي من خلال تقديم برامج فنية مبتكرة وعالية الجودة، تشجع على التفاعل بين الفنانين المحليين والدوليين، وتوسع آفاق الجمهور لتقبّل الفنون المعاصرة. كما يسعى ليصبح نقطة التقاء للمحترفين لمتابعة أحدث العروض العالمية والعربية، مما يعزز دوره في دفع الحركة الفنية وتعزيز التبادل الثقافي.
قد ضمت الورشة عدد كبير من الممثلين والممثلات الذين تميزوا بإختلاف أعمارهم وخلفيتهم الثقافية والتعليمية ومهاراتهم الفنية مما أضفى على الورشة ثراء التنوع والاختلاف وتبادل الخبرات .
ويتميز المخرج الفرنسى فيليب بولاى بطريقته المميزة والمختلفة فى إدارة وتوجيه الممثلين فقد جمع أسلوبه بين الدقة والانضباط فى العمل ولكن مع الانفتاح والكرم والثقة فى قدرات الممثلين الشخصية والفنية والتى أتاحت مساحة كبيرة لإظهار المواهب الفنية المنفردة لكل ممثل رغم كثرة عددهم فى الورشة .
ومن المعروف عن بولاى اهتمامه العميق بالتفاصيل الدقيقة فى استخدام اللغة ، مثل نبرة الصوت، الإيقاع، والاختيارات اللفظية، وكيف يمكن لهذه العناصر أن تؤثر على أداء الممثل وتوصيل الرسالة.
ومن المشاع عنه أنه  شخص يولي اهتمامًا كبيرًا لكل من التفاصيل التقنية والإنسانية أثناء العمل مع الممثلين وهذا ما قد أشاد به الممثليين فى نهاية التجربة بالفعل .
وقد أختار المخرج فيليب بولاى نصوص للكاتب برنار مارى كولتيس وهو كاتب فرنسى يعد من أهم كتاب الجيل الجديد من المسرحيين الفرنسيين والأوربيين بعد جيل الخمسينات وكان إختيار يبدو غير مألوفا فرغم أن كولتيس من الكتاب المهميين بين أبناء جيله إلا أنه ليس من الأسماء المعروفة فى المجتمع الفنى المصرى او المتداول وهذا ما أضاف بريقا وتميزا للتجربة وخاصة أن كولتيس ككاتب إشتهرت أعماله بعمقها الفلسفي واستكشافها للقضايا الوجودية والإنسانية ، و يتميز أسلوبه المسرحي بأنه فريد من نوعه، حيث مزج بين الشعرية، والدرامية، والتجريب في الكتابة.
ومن أهم العناصر التى تتميز بها كتابات كولتيس هما المكان والخطاب أما المكان كان يعتبره هو كناية عن الحياة لهذا فأحيانا لا يبدو المكان محدد المعالم فى مسرحه وإنما هو مكان لقاء أو مكان خطاب كما هو فى حالة نص “فى عزلة حقول القطن “ وهى أحد النصوص المختارة لدراستها وقراءتها بالورشة وفيها يلتقى شخصان فى مكان ما قد يكون طريقا وتدور بين شخصين فقط أحدهما يريد أن يبيع شيئا والآخر لا يريد ما يعرض عليه ولا نعرف ماذا يريد وقد يكون مستوحاة من موقف بسيط تعرض له كولتيس عند وصوله لنيويورك وحوله الى لقاء وكيف يمكن أن يأثر هذا اللقاء على الفرد ومن ثم على الجمهور ، أما العنصر الأخر وهو عنصر الخطاب الذى يأتى أساسا على شكل مونولوجات كناية عن العزلة والغربة وغياب التواصل وقد قبل بولاى التحدى  فى كيف يمكن أن تحول هذه الحوارات والمشاهد المعقدة للحياة على خشبة المسرح كما يسعى إخراج بولاي لتسهيل إيصال أعقد النصوص للجمهور، والتركيز على جعل اللغة مُنصَت إليها .
أما النص الآخر الذى تم اختياره فى الورشة وتم العمل عليه قراءة وأداءا وإخراجا وكان نتاجه هو اقامة العرض للجمهور هو نص “روبرتو زوكو” وهو آخر نص كتبه كولتيس فقد انتهى من كتابته عام 1988 قبل أن يشتد عليه المرض فقد كان مصاب بمرض الإيدز وتوفى فى باريس عام 1989 والمسرحية مستوحاة أيضا من قصة حقيقية عن مجرم أسمه روبروتو سوكو فى إيطاليا قتل مفتش شرطة وبعد القبض عليه يكتشف أنه مختل عقليا وقد قتل والديه ثم ووضع فى مصحة وهرب منها وتم نشر صورته كشخص مطلوب للعدالة ورآها كولتيس فى محطة للمترو فشدت انتباه كولتيس وتابع مسار القصة والقضية واستغرب سلوك المجرم الشاب الذى تم القبض عليه بسبب شهادة مراهقة كانت صديقته وقد انتحر الشاب بعد القبض عليه واستخدم نفس الأسلوب الذى قتل به والده ولذلك استهوته الشخصية وحولها إلى شخصية شبه أسطورية بعيدا عن مفهوم الخير والشر ولذلك نجد الكتابة هنا تشكل أسلوبا جديدا أقرب للتراجيديا الإغريقية .
تقع المسرحية فى 15 مشهد معظمها طويلة ويتخللها الكثير من المونولوجات الطويلة التى تميز بها كولتيس كما سبق وأن أشرنا ورغم أنه فرنسى والقصة مستوحاة من بطل إيطالى إلا أنه كما أشرنا معظم المشاهد لا تذكر ماهية المكان التى يحدث فيه الأحداث وهذا تأكيدا على أن القضية هى قضية عامة للحياة لا تخص مكان محدد وهذا ما استشعره الجمهور المصرى بعد العرض على الرغم من عدم تمصير الأحداث ولا الأسماء فتساءل الجمهور هل هذه الاحداث لا تحدث هنا فى مصر ؟ هل هذه الأسرة أسرة أوروبية أم مصرية ؟ ، لذلك فقد نجح كولتيس فى كتاباته أن يكون عالميا حتى بعد موته وقد نجح بولاى فى نقل هذه النصوص الصعبة واللغة المختلفة الى الممثلين والى الجمهور وإعادة إحياء كولتيس على خشبة المسرح .
ركزت الورشة على استكشاف العلاقات بين الوحدة كحالة نفسية والقلق كحركة داخلية تنعكس في الأداء التمثيلي. قاد الورشة فريق من الخبراء الذين نجحوا في خلق بيئة إبداعية مفعمة بالانفتاح والتجريب. تم العمل بشكل مكثف على نصوص كولتس، حيث قام المشاركون بتحليلها بعمق واكتشاف طبقاتها المتعددة من المعاني، ومن ثم تجسيدها في أداء تمثيلي نابض بالحياة .
قد إجتمعت عناصر عدة لنجاح هذه الورشة بداية من إختيار نصوص كولتس الذى كان موفقًا للغاية، حيث تميزت بالتحدي والثراء الذي دفع المشاركين إلى أقصى حدودهم الإبداعية ، بالاضافة الى إنها أوجدت الورشة مساحة للتواصل الإنساني العميق بين المشاركين، مما ساعدهم على كسر حواجز الوحدة والقلق من خلال التعاون الفني .
أما من الجانب الفنى والتقنى  فلم تكن الورشة مجرد تجربة أداء تمثيلي، بل شملت أيضًا تدريبات على تقنيات الإخراج وكيفية توظيف العناصر البصرية والحركية لإبراز المعاني .
وكما كانت الورشة ذات طابع خاص عند المشاركين وأضافت لهم الكثير على المستوى الفنى والانسانى فقد كان لها نفس الأثر على المخرج الفرنسى فيليب وقد عبر فيليب عن تجربته فى هذه الورشة كالأتى :
« إن العمل المسرحي يتطلب التزامًا عميقًا تجاه النصوص، حيث يسعى المخرج إلى كشف معانيها وجعلها واضحة وسلسة، حتى في تعقيدها. المسرح هو لحظة فريدة وفورية تتعامل مع جوهر الإنسان في إنسانيته. يترك الممثل مساحة للمتفرج كي يشارك بروحه ونظراته، مما يمنحه فرصة للتفاعل مع النص من خلال تجربته الحياتية والفكرية.
في هذا السياق، يمثل “الإقليم”، سواء كان المدينة التي يقع فيها المسرح أو إقليم الروح، مساحة للتفاعل والفهم المتبادل. على المخرج أن يعيش هذا الفهم المزدوج: أن يفقد نفسه في البداية ليتسنى له إعادة اكتشافها عبر التفكير وفهم العالم من حوله. الهدف هو خلق حالة وعي نقدي لدى المتفرجين، ليس لإرشادهم نحو فعل معين، بل لدعوتهم للنظر والفهم والتفاعل مع المجتمع من خلال تجربة المسرح.
خلال ورشة العمل، تم التركيز على نصوص من الأدب المسرحي الحديث، مثل روبرتو زوكو لبيرنارد-ماري كولتيس. تميزت الورشة بالعمل على اللغة بمختلف أبعادها: تراكيبها، نحويتها، مرجعياتها، وأصواتها الجماعية. في هذه النصوص، يتم بناء الحوار في كتل متماسكة تمتد طويلاً أو تقدم لحظات كورالية تتطلب حضورًا جماعيًا.
رغم تعقيد النصوص، فإن الهدف الأساسي كان دائمًا ضمان وضوح المعنى وإبراز الشفافية في الكتابة. يتطلب ذلك أداءً جسديًا عميقًا، حيث يصبح الجسد أداة للتعبير الكامل، ليخلق لحظة “فكر في حركة”، تثير في المتفرج متعة الفهم المباشر.
العمل مع النصوص الكلاسيكية لا يقتصر على الأداء فحسب، بل هو تجربة تترك أثرًا دائمًا. يصبح النص جزءًا من الممثل والمخرج، ويترك بصماته على الجميع. المسرح، في جوهره، هو وسيلة للتفاعل مع الوجود، ولحظة من الإبداع المشترك بين الفنان والمتفرج.
تُظهر هذه الورشة أهمية الاستماع والتفاعل مع النصوص، وتحفز على خلق مساحة من الضيافة والاندماج بين الفنان والجمهور، حيث يتحول المسرح إلى تجربة مجتمعية وروحية فريدة».
ولذلك نستطيع أن نقول عن هذه التجربة أنها بمثابة رحلة استكشاف فنية وإنسانية، تركت أثرًا دائمًا في نفوس المشاركين. لم تكن مجرد تجربة تعليمية، بل أصبحت مساحة للتعبير عن الذات ومواجهة التحديات النفسية والفنية، مما يعكس قوة الفن في خلق مساحات للتواصل والتعافي. فقد اتسمت الورشة بتأثير فني وإنساني عميق على جميع المشاركين. من خلال التفاعل مع النصوص الصعبة والغوص في معانيها، تمكنوا من اكتشاف جوانب جديدة في قدراتهم الإبداعية. كما ساهمت الورشة في تعزيز فهمهم لطبيعة المشاعر الإنسانية المعقدة، وخاصة تلك المتعلقة بالوحدة والقلق، وكيف يمكن أن تُنقل هذه المشاعر بصدق وشفافية إلى الجمهور.
مهرجان دي كاف، من خلال هذه الورشة، نجح في تقديم تجربة تثبت أن الفن ليس فقط وسيلة للتعبير، بل أيضًا وسيلة للتواصل مع الآخرين ومع أنفسنا في أعمق لحظات الوحدة والقلق .
 


منال مهنا