صمت البسام.. البليغ

صمت البسام..  البليغ

العدد 900 صدر بتاريخ 25نوفمبر2024

تقول العرب. الصمت هو الغياب الكلي او النسبي عن الصوت. والصمت النسبي يبلغ 10 ديسيبل وهو صوت التنفس.. و20 ديسيبل هو صوت حفيف الأشجار.. الصوت البشري يبلغ من 20—60 ديسبل
وعتبة العرض النصية الاولي، عند بسام المراوغ هي مفردة صمت، وبين مقولة، العاقل من عقل لسانه، والساكت عن الحق شيطان اخرس، لعب معنا المخرج مفارقة، القول والافصاح في مقام الصمت.
عنون المخرج، عرضه، بصمت، وافاض في الكلام، وكأنه يقول وبضدها تعرف الأشياء.
عنى المخرج ما يقول، فالصمت عنده، ليس غياب الكلام، فالعمل كما وصفه ثرثار مشاكس، هذا التناقض بين العنوان والمحتوى، يقول عنه المخرج، مما يعزز من جدية العمل ويجعله، أداة قوية للتعبير.
العرض كان، صرخة، ضد الصامت انا وانت، كلنا ولا واحد منا.
تساءلنا من تخاطب حلا، انا ام انت انثى ام رجل، ممثل مسرحي، ام ممثلة مسرحية، تخاطب وطن ام امة، مستمع ام ذاهل، مناضل ام سمسار، عندما تقول انت عربي من دون فلسطين، دين بلا من دون مؤمنين.. يا حلا لمن تشير اصابعك بالاتهام، هل انا متهم؟ ، ام هي؟ ام هو؟، شعب؟ ام فرد؟ ام حكومة؟
لم يكن صمتا، كان هدير من الكلمات والجمل والمفردات، والمواقف المعلنة، عن السياسة والفكر الفلسفة والفن..
انفجار مرفأ بيروت، كان عند خط انطلاق، السباق، لم يكن الانفجار بؤرة العرض، كانت الشظايا والانشطارات خطوط تماس ولمحاورة الذات والاخر والوطن والحال العام.
مع براعة الاستهلال، وقفت حلا شامخة، واسقطت كل الميكروفونات، وابقت على ميكرفونها فقط، وكأنها تقول لن تفيدكم، ستبقون في حالة من الصمت الابكم، وسف اتحدث انا، انا صوت من لا صوت له.
ضد الصمت الذي اصابنا جميعا، صرخ العرض وتجاوز الانفجار لمقاربة كوارث أخرى، ممتدة من الخاص الى العام، وفي جغرافيا، شاسعة امتدت من أمريكا اللاتينية، الى صحراء ظفار، مرورا بغزة والشرق الأوسط.
جمل تطرح أسئلة عميقة، عن الفن والمسرح، من هو جمهورك، نقاد محترمون نصوص شكسبير سيئة الترجمة؟ واسئلة أخرى، عن امراء حراس لثقافة الاستهلاك، مدن وكلاب مسعورة؟ مدن بلا انسان.. مدن الملح، مدن اللجوء في اوربا وسويسرا، مدن وازقة الفقراء في أمريكا اللاتينية
مفردات ديكوريه مبسطة واستاتيكية، تشكلت من منصة سوداء على اليمين، جلس عليها عازف الطبلة والدرامز، ومنصة على اليسار جلس عليها عازف الكنتر باص والبزق، وفي الوسط منصة أداء الممثلة حلا عمران، امامها عدد من الميكروفونات، وعلى اليسار علامة مهمة من علامات العرض وهي ساعة حائط.. مقاعد على اليمين واليسار جلس عليها جمهور.
 كفارس من فرسان العصور الوسطى، قذف البسام، بعيدا، كل اسلحته المسرحية، لا حبكة، ولا احداث ولا شخصيات.. وصرح هانذا من يريد المسرح، فليشاهد عرضي على الركح، لتلتقط القفز حلا عمران، وتنزع الإكسسوار والسينوغرافيا والاضاءة والمكياج، ولا مساحات حركة، فقط صوتي وجسدي، ينتور ويحاور الموسيقى، ويشد ابصاركم، ويستحوذ على اذانكم.
نحو مسرح صافي يعود لمنابيع أولية، يقدم العرض، ليس ثمة احداث، بل متتابعات فرجويه وحركية وبصرية وصوتية وموسيقيا حبكة، او زخرفات الإضاءة والإكسسوار والازياء والمكياج. تحدي صناعة الجمال، بأدوات بسيطة، تحدي تقديم المتعة، اعتمادا علء أداء الممثلة ورافعة الموسيقى وجمال بلاغة اللغة الاستعارية الباذخة.
حلا عمران، طاقة ادائية هائلة، امسكت بزمام المشهد، وحبست انفاس المتفرج، وهى تتحرك في مساحة صغيرة، منصة لا يتجاوز طولها ثلاثة امتار وعرضها ثلاثة امتار، صوتها بحرير نغمات فيروز، غنت فأطربت، وتحدثت بتلوين ايقاعية ذات طبقات متعددة، غنت باللغة الإنجليزية شيكا شيكا بيبي،، وغنت بالحان من أمريكا اللاتينية، وانشدت اهازيج ثوار ظفار..يا جبل صوفيت يا الخط الأحمر...مقابر الجيوش العميلة...هكذا نمحو عدو المسيرة..، والحان من بربر شمال افريقيا، وفي كريش ندو العلو ، صدحت واشركت الجمهور، بغناء مارسيل خليفة، منتصب القامة، امشي مرفوع الهامة امشي.. في كفي قطفة زيتون وعلى كتفي نعشي، وانا امشي وانا امشي، صفقت الايادي، وارتفعت الأصوات من الحناجر، فهنا جرح فلسطين، النازف في غزة، في لوحة مشتركة، صوت مارسيل اللبناني وحلا السورية، وبسام الكويتي
همست حلا، ثم صرخت أصدرت ما يشبه العواء وما يشبه الزغاريد، اعادت بعض الجمل صعدت وهبطت بالإيقاع، في بلوفونية صوتية مدهشة، بمصاحبة الموسيقى، والتي لعبت أدوارا متعددة، كراوي او معلق، اوم صاحب، ارتفعت ايقاعات الطبل، وهمست نغمات الزق، في هارموني، بين الصوت البشري لحلا، والصوت الموسيقى للآلات.
في بقعة مكانية صغيرة تحركت حلا.. في لحظة صمت نادرة في الدقيقة 36، حركت يدها بقوس من اسفل الى اعلي حتى الفم بأداء بطيء، وفي مشهد اخر قدمت رقصة هستيرية عنيفة ، تشبه رقصات طقوس الزار، لتبزر جماليات الحركة، بين البطء والسرعة، بين الهدوء والتوتر المشدود.
بنية العرض قامت على ثنائية تبادلية، بين الأداء الصوتي، المون ودرامي، للممثلة، مع الأداء الموسيقى المتنوع، مع وسيلة شاشة خلفية عرضت الترجمة، ومقاطع من شهادات الخبراء.
على شفا حافة انتظار قلق ترقب المشاهد وانصات، لدقات عقارب الساعة، حيث دارت شوكة الثواني، ولم تتحرك شوكة الدقائق، بعد ان وضعنا المخرج، على أهبة الاستعداد، عندما أشار، الى ان الساعة تشير، على الخامسة وسبعة وخمسون دقيقة، والانفجار في الساعة السادسة وسبعة دقائق، أي بعد عشرة دقائق، وبين زمن عشرة دقائق انتظار الانفجار، وزمن العرض ستون دقيقة، كان المشاهد على قلق كان الريح تحته.
كسر المخرج كل افق التوقعات، في مشهد الختام، عندما قاربت الساعة، السادسة وسبعة دقائق، انتظرنا، أصوات انفجارات، واضواء ملونة حمراء وزرقاء صاخبة
كان المشهد غياب الممثلة وسط غمامة شفافة، من الضباب الشفاف، وهي تغني للحب وللحبيب.. بمصاحبة نغمات، أوتار الكونترباص الغليظة الشجية.. أحب انا أحب ولا أخفى...ولا أنكر حتى لو قطعو بسكين شاماتي...حبيبي اعطيني يديك لنرحل الي الحقول.. نرحل لنتبادل الحب او الموت
نهوض للعنقاء، من الانفجار الي الحب والحياة.
 مشهد يفتح باب التأويل، على مصارعيه، هل هو الموت والتلاشي والغياب المر، هل هو انبعاث جديد كالعنقاء، من وسط الرمال، هل ثمة امل، هل ثمة ضوء في اخر النفق..
روت حلا، الحكايات، بضمير المخاطب، انت، انا، نحن أنتم خاطبت الأنثى وخاطبت الذكر، خاطبت المواطن البسيط، والمثقف، والسياسي، سالت عن، الفن والثورة، والنضال ن والحقيقة.
بدات الممثلة، وكأنها تخاطب ذاتها، وفي مرة أخرى تخاطب شخصيات، او الاخر الغائب، او الفرد، او النظام السياسي، او المفاهيم المسرحية
سردت الممثلة حكاية العرض، مع بعض التعليقات، من خبير المتفجرات الأمريكي، المهندس راسيل اوغل، شرح بعض الجوانب الفنية عن الانفجار، والخبير العسكري اللبناني الياس فرحات، تناول معلومات عن الانفجار.
هل اكتفى المخرج، بحكاية انفجار مرفأ بيروت، ام اتخذها ذريعة، لمتوالية انفجارات في شكل أسئلة، عن دور الفن الملتزم (، عن المسرح السياسي، عن دور النخبة.

جمال ومتعة العرض، ازاحت كل الأسئلة، عن نوع العرض، هل هو مون دراما، هل هو عرض موسيقي، هل هو مسرح سردي، هل هو عرض ادائي، لا معنى لكل هذه الأسئلة، فالعرض حرك الساكن، واثار الأسئلة، وحفز على التفكير.
وان بحثنا على أجوبة بديلا عن الأسئلة، نعود لما قاله البسام (مهمة المسرح هي، طرح الأسئلة، لا تقديم أجوبة جاهزة معلبة للجمهور فالمتلقي على، اختلاف وعيه ليس بسيطا، ولا ساذجا، ليس من المطلوب ان يخرج، الجمهور بالانطباع نفسه بل الاجمل، ان نرى الجمهور، يخرج وكل منه، لديه فهم للعرض، مختلف عن الاخر)
وان كنا قد قضينا الكثير من الوقت، للبحث في مؤتمراتنا المسرحية، عن التأصيل، والمسرح الذي نريد، والاصالة ام المعاصرة، والعامية او الفصحى، وما قبل الدراما ام ما بعدها.
فان العرض، اجاب ببساطة واحترافية، حتى قال لسان حالنا، هذا هو المسرح الذي نريد.


محمد سيد احمد