«شروخ» .. نوستالجيا

«شروخ» ..  نوستالجيا

العدد 901 صدر بتاريخ 2ديسمبر2024

مهرجان مسرح الرواد في دورته السادسة عشرة بدأ بعرض «شروخ» لفرقة سيوف الضوء الكاشف، تأليف وإخراج أيمن عبد الله. ولم تكن كلمة شروخ مجرد اسم العرض وفكرته، بل كانت ظاهرة في مكياج الشخصيات الذين يعانون من شروخ الماضي. تيمة العرض كانت تدور حول آلام وشروخ الماضي، وظهرت هذه التيمة من خلال القصة، والأداء، وشكل الشروخ على وجوه الشخصيات الذين يعانون من تلك الأزمة.
في البداية، مع الستار المغلق، ظهر ممثل عثر على كتاب يحتوي على ذكريات مؤلمة لأشخاص، ومن كثرة الألم الناتج عن تلك الذكريات عاشها وكأنها ذكرياته هو لدرجة أنه أصيب بالجنون. العرض كان عبارة عن تجسيد لعقل ذلك الرجل، وكأن فتح الستار للمسرح هو فتح آفاق تفكيره. وتم التأكيد على ذلك من خلال ظهور الممثل بين كل مشهد أو ذكرى، مؤديًا لقطات تعبر عن ألمه من التفكير في تلك الذكريات وكأنها ملك له، مما يجعله يعاني من صراع داخلي بسببها.
بدأ العرض بدخول ذلك الممثل بينما كان الستار مغلقًا، وأبدع في توصيل الإحساس بأن هناك خللًا ما في عقله، وذلك من خلال أدائه الجسدي غير المتزن. ظهر بشكل أقرب إلى الجنون، حيث كان يعرج، وأصلع الرأس، وينظر بطريقة توحي وكأنه مصدوم من شيء ما، مع وجود شروخ مرسومة على نصف وجهه. ظل يتحدث بكلام غير متناسق وغير مفهوم، ثم تحدث عن معنى نوستالجيا من وجهة نظره، قائلًا: “عيل أهبل مفيش أي حاجة في دماغي، ومصروفي يكفيني، وأسهر لحد اتناشر بالليل براحتـي، وألعب مع صحابي.”
ورغم أن مفهوم النوستالجيا أعمق من هذا المعنى، إلا أنه اختار هذا التفسير المبسط ليعبر عن ألمه من الحاضر، وهو ما تماشى مع ذكريات الكتاب الذي عثر عليه. بعد ذلك، جلس في أحد أركان خشبة المسرح، وفتح الستار ليظهر الديكور على هيئة صندوق ضخم في منتصف المسرح. كان هذا الصندوق يخرج منه شخصيات كل قصة أو ذكرى، وكأن الصندوق يمثل عقل الرجل، وينبعث منه ما يفكر فيه و الدليل على ذلك كان شعوره بالألم عند استرجاع الذكريات، مما أفقده توازنه بسبب كثرة آلام الماضي.
بعد فتح الستار، ظهرت فتاة وشاب يمثلان حاضر وماضي ذلك الرجل. وكما اتفقنا، فإن فتح الستار يُعتبر فتحًا لعقل أو تفكير ذلك الرجل. كانت الفتاة تمثل الحاضر، بينما كان الشاب يمثل الماضي، وكان نصف وجهه يحمل شروخًا تشير إلى الماضي المؤلم للرجل. بدأت شخصيات الحكايات تتصارع داخل الصندوق، ثم خرجت منه طفلة.
كانت أول حكاية تتناول طفلة تعرضت لمحاولة أغتصاب من شخص استدرجها، ثم انطفأ النور وبدأت حكاية أخرى. الحكاية الثانية تناولت أسرة مكونة من أب وأم وفتاة تدرس في كلية الطب. أجبر الأب ابنته على الزواج من رجل أكبر منها سنًا، متزوج ولديه طفلة. أوضح حوار الأب أنه يشعر بالحزن والهم لأنه رزق بفتاة، حتى وإن كانت طبيبة، بينما كان يتمنى إنجاب ولد، يشير ذلك إلى جهل بعض الأشخاص الذين يفضلون الذكور على الإناث.
تزوجت الفتاة بالفعل من الرجل الذي كشف حواره عن أنه يعاني من نفس العقدة والجهل بتفضيله للذكور عن الإناث. رغم ذلك، أنجبت الفتاة له طفلة، ونتيجة لذلك طلقها وألقاها هي وابنتها في الشارع. انطفأ النور مع إسقاط الضوء على الرجل المجنون وهو يؤدي حركات تعكس الهذيان، مشيرًا إلى آلام في رأسه، بينما كان بكاءه مسموعًا للجمهور.
ثم ظهرت القصة التالية، حيث ظهرت امرأة مع ابنتها، واتضح أنها المرأة المطلقة مع طفلتها التي كبرت، وكان على وجه الطفلة رسومات شروخ في نصفه. عبر المشهد عن الآلام التي تعيشها الطفلة بسبب فقدان والدها، الذي تخلّى عنها وألقاها في الشارع منذ ولادتها لأنه لم يكن يريدها. بعد ذلك، اختفت الأم وتركت الطفلة وحيدة. تم التعبير عن مشاعر الطفلة والتأكيد عليها من خلال أغنية مسجلة بصوت إحدى عضوات الفريق الذي قدم العرض.
ثم بدأت قصة أخرى عن تعرّف فتاة على شاب لأول مرة. ظهرت الفتاة في جانب، والشاب في جانب آخر، يفصل بينهما خط وهمي. تم تمثيل معاناتهما مع الأهل بوضوح. ظهرت شخصية الفتاة وهي تحاول أن تتكلم بخشونة كالرجال، مع أداء حركي ذكوري وعنيف، على عكس طبيعة الأنثى ونعومتها. كما رفضت ارتداء الفستان، في إشارة إلى محاولتها أن تكون مسترجلة، وأن تطمس أنوثتها لتصبح ذكرًا. هذا السلوك نابع من تعامل والدها معها؛ حيث ألغى شخصيتها كأنثى لأنه يفضل الذكور، وكان يكرر لها عبارة: “أنتِ ولد مش بنت.” وكانت الفتاة تردد العبارة خلفه، بينما يأخذ منها ألعابها وعرائسها في محاولة لطمس غريزتها الأنثوية الناعمة.
أما الشاب، فقد عانى من معاملة قاسية وجامدة من قبل والده، مما انعكس على شخصيته، فأصبح انطوائيًا، بأسلوب حديث وتعامل أنثوي، مخالف لطبيعته كذكر. الإضاءة المسلطة عليه كانت صفراء، تعكس الوحدة والانطوائية التي يعيشها.
ورغم أن الشاب الانطوائي والفتاة المسترجلة كلاهما يعانيان من مشكلات نفسية بسبب تعامل والديهما، إلا أن شروخ الوجه كانت على نصف وجه الفتاة فقط. وهذا أثار تساؤلًا: لماذا لم تظهر الشروخ على وجه الشاب رغم معاناته من المشكلة ذاتها؟ السبب هو أن الشاب انتقم من أفعال والده في الفتاة، فجرحها بكلامه، وأوهمها بالحب ثم تخلى عنها. تحول الشاب إلى شخص مؤذٍ نتيجة الأذى الذي تعرض له، بينما شروخ الوجه كانت على الأشخاص الذين تعرضوا للأذى فقط دون أن يصبحوا مؤذيين.
بعد ذلك، حدثت مواجهة بين الفتاة المسترجلة ووالدها، وبين الشاب الانطوائي ووالده. عبروا عن آلامهم الناتجة عن إلغاء شخصياتهم، وأشاروا إلى أن الأب أخطأ في ذلك. ومع ذلك، لم يعترف الأب بخطئه.
تم استكمال قصة الطفلة الوحيدة التي تركتها أمها، حيث ظهرت في منزل والدها. تم التوضيح أن والدها أخذها لتعيش معه ومع ابنته من زوجته الأولى. كما تم الكشف عن أن أمهما توفيتا. ظهرت أختها وهي فتاة مدللة وأكبر منها سنًا، واتضح وجود شروخ في نصف وجهها. عبّرت الأخت عن بحثها عن مفهوم الرضا وفقدانها للحنان الأبوي بسبب انشغال والدها عنها واهتمامه بعمله والمال فقط، معتقدًا أن مهمته كأب تقتصر على إعطاء ابنته المال، دون الاكتراث بواجباته العاطفية تجاهها.
دخل الأب على الأخت في أحد المشاهد، وحاولت أن ترجوه ليبقى معها ويتحدثا أو يلعبا معًا، لكنه بدا غير مكترث ومنشغل تمامًا. كان كلامه لها مليئًا بالتحذيرات من الذكور ومن التعامل معهم، ومنعها من الخروج من المنزل. في نهاية المشهد، برز مشهد الترجي والتوسل والسلطة الأبوية، حيث جلس الأب على كرسي بينما جلست هي على الأرض، ممسكة بقدمه في محاولة يائسة لطلب اهتمامه.
في المشهد التالي، ظهرت الفتاة المدللة مع شخص في جانب خشبة المسرح، وفي الجانب الآخر ظهرت الفتاة المسترجلة والشاب الانطوائي، وبينهما فاصل وهمي. ثم بدأ استعراض؛ وأثناء رقص المدللة مع حبيبها، تحول هذا الحبيب فجأة إلى صورة والدها، في إشارة إلى أنها تحب لتعوض فقدانها لحب والدها.
أما في الجانب الآخر من الاستعراض، فقد تم التأكيد على طمس غريزة الفتاة والشاب، من خلال مشهد انحنائها له لتقديم خاتم، وهي حركة تقليدية يقوم بها الرجال للنساء لتقديم خاتم الزواج، وليس العكس.
في المشهد الأخير، ظهرت الفتاة المدللة في غرفتها، ودخل والدها عليها وبدأ يتغزل بها وكأنها امرأة أخرى وليست ابنته. من خلال الأداء الجسدي العنيف، المتمثل في شد وجذب الفتاة من قبل الأب، تم الرمز إلى محاولته التهجم عليها. عندها ضربته بالقلم، وقالت له في حوارها إنه حذرها من جميع الذكور لكنه نسي أن يحذرها منه، وأنه بذلك أضاع شعورها بالأمان.
في وسط المشادة بينهما، دخلت الطفلة وسقطت على الأرض وماتت (وهي نفس الطفلة التي اُغتصبت التي ظهرت في أول قصة بالعرض). بذلك، أوضح العرض أن البداية والنهاية متطابقتان، في إشارة إلى أن آلام الماضي ليس لها نهاية، بل هي حلقة مغلقة.
في النهاية، دخلت جميع شخصيات الذكريات إلى الصندوق من جديد، وعاد كل شيء كما كان في بداية العرض، ثم ردد الرجل مجددًا معنى كلمة نوستالجيا.
عرض “شروخ” تدور حول تأثيرات آلام الماضي على الحاضر، وكيف أن الأزمات النفسية والذكريات المؤلمة يمكن أن تترك آثارًا عميقة في حياة الأفراد. يركز العرض على فكرة الشروخ، سواء كانت في الشخصيات أو في وجوههم، كتعبير عن الجروح النفسية التي تلاحقهم نتيجة أخطاء الماضي، خاصة تلك التي تحدث بسبب علاقات أسرية قاسية أو معتقدات اجتماعية مدمرة. كما يطرح العرض تساؤلات حول الهوية الفردية، والتمييز بين الجنسين، وفقدان الأمان العاطفي.
وهذا العرض لا يحمل ثقافة معينة فالازمات النفسية والذكريات المؤلمة موجودة في كل عصر وكل ثقافة ومجتمع.


نورهان ياسر