العدد 901 صدر بتاريخ 2ديسمبر2024
رماد ـ من زمن الفتونة ـ عنوان لافت لعرض درامي راقص لفرقة فرسان الشرق التابعة لدار الأوبرا المصرية. صاغته حركيا وبرؤية فنية المبدعة كريمة بدير بمعاونة الدراماتورج الواعي محمد فؤاد.
في البدء وإجمالا وقبل الدخول في قراءة دلالات العرض، يمكن القول أن « رماد» هو أفضل عروض كريمة بدير التي تابعت كافة أعمالها على مدار سنوات طويلة. هو عرض ينتمي إلى ذلك النهج الذي اختارته كريمة لنفسها منذ الخطوة الأولى و يمكن اختصاره في « البحث داخل التراث المصري لصياغة ما يمكن الإشارة به على حاضر يموج بالكثير». عرض منسوج من غزل خيوطها السابقات « بهية ، ريا وسكينة ، زنوبيا ، و.... و.. « لكنها في «رماد» تكشف عن خبرة أعمق تمثلت في خطوات راقصة غير مكررة ووعي بخصوصية كل شخصية . وهو ما جعلنا نصفه في البداية بـ « أفضل عروضها» وتلك وحدها سمة تستحق عليها التحية والإشادة. فأن يأتي عرضك الأخير أفضل عروضك فذلك يعني أنك تسير على الدرب الصحيح وأنك تصعد بخطوات واثقة درجات سلم هدفك الفني والأهم هدف الفرقة التي تنتمي إليها.
أجمل ما في رماد كريمة أنه يمكن استقباله كمجرد عرض راقص مبهج ، يشيع فيك طاقة تنعكس من توافق الخطوات مع الموسيقى مع السينوغرافيا لتخرج منه مشحونا بأمل يعينك على استمرار الحياة. لكنه أيضا يزخر بدلالات ورموز تستفز عقلك وروحك فتتورط بحب ورضا في فكها لتحصل في الأخير على معنى بل معان عدة تبدأ من سؤال وجودي عن معنى الحياة ولا تنتهي بالربط بين الرموز والشخصيات وبينهما وبين ( الإنسان والقدر، الطموح والإمكانية ، الشر والخير، الرغبة في الصعود وقلة الإمكانية، الزمن وأفعاله و.. و..). معان كثيرة ستكتشفها بمحاولاتك الدائبة في استكمال لوحة الـ ( بازل ) بوضع الكتلة في الفراع ، اللون وصراعه مع الحركة ، الملبس والضوء. وهكذا حتى يباغتك مشهد النهاية فلا تجد ما تعبر به عن ما تركه فيك إلا التصفيق كطفل يعلن عن فرحه باكتشاف حل اللغز.
في البدء كان الرمز
كعادتها ستعود كريمة بدير إلى زمن ماض. وتحديدا زمن (الفتونة) ومكانه الحارة المصرية القديمة بعبقها الخاص ورموزها التي قد تبدو متناقضة وهي في حقيقتها وبتداخلاتها تعبير عن خصوصية شعب لا يرى أي تناقض في تجاور الضريح و الخمارة، ولا في أن تكون عصا القتل رمزاً للعدل، ولا في تداخل الدنس مع الطهر . هو عالم خاص يموج بصراعات الوجود رافعا شعار الأبقى للأقوى ولو كانت القوة مجرد جسد أنثى تحمل عقلا في مقابل عضلات رجال يتلبسهم وهم السيطرة.
في البدء كان الرمز، كان المكعب والكرة والمخروط وممثلون يجثمون على الخشبة معبرين عما تموج به الحياة ،وتعبر عنه الكتل، عن الاستقرار والفوضى، وعن التحليق نحو سعادة مفتقدة واحباط من عدم الوصول، بل وعن الرغبة في السعي إلى خلود هو المستحيل.
في البدء كان المنظر المسرحي الذي صاغه أنيس بوعي من يفهم لماذا هذا الإستدعاء لزمن قديم مفسرا للمستويات الثلاثة التي يقدمها العرض .فمن الكتل الثلاث ( مكعب ومخروط وكرة ) وبملابس تغيب في الرمادي وتقترب بحذر من الأسود والأبيض ، إلى تلك الغلالة ذات الثقوب التي تكسي جزءا كبيرا من مقدمة المسرح وكانها نبش في زمن ماض مهترئ دعينا إلى مشاهدته لنستقي منه العبرة والحكمة. من كل هذا وغيره يضعنا انيس اسماعيل منذ اللحظة الأولى في أجواء فانتازية تستلهم اشارات الواقع ولا تقع فريسة لمباشرته. ( وهنا لابد من وقفة قصيرة لنقول أن أنيس اسماعيل هو أحد أفضل مصممي السينوغرافيا في مصر. وإن كان لا يعمل – حتى الأن – إلا مع رفيقة دربه وزوجته كريمة بدير. وهو ما يجعلنا ندعوه للتجريب مع مبدعين أخرين - مع إبقائه على تلك الثنائية - فلربما اكتشف عبرهم منطلقات أخرى للتحليق) .
في « رماد» استلهم أنيس اشارات الأصل ولم يقع في فخ تقليده، ليصنع تشكيلا بصريا يحقق للعرض ما أرادته كريمة تماما وهو أن يكون محلقا في معان فلسفية أكبر لا تقف عند حدود المعنى المباشر للصراع الأولي في الحكاية ، حكاية تلك المرأة الغجرية التي ترفض الاستسلام لمكانتها المتدنية في واقع لا يعترف إلا بالقوة، وتسعى للسيطرة على حارة مسيطر عليها من قبل فتوة ودراويش وصاحبة حانة. لترتفع قامة الحكاية إلى صراع أكبر عن وضع المرأة وعن امكانياتها، بل وعن تفاحتها الأولى التي قررت أن تحتفظ بها لنفسها وسط تكالب الرجال عليها في مشهد أخير هو الأجمل تشكيليا بما يليق به كذروة حيث تتقدم المرأة نحو المتفرجين شاهرة تفاحتها، بينما الجموع من خلفها تصنع غابة هرمية من الأيادي المتكالبة على ما تحمله من سر الحياة. وكأن تلك المرأة تساءلنا ( ماذا لو أكلت أنا التفاحة وحدي ؟ ) وتتركنا قبل أن نجيبها. وهل نملك الإجابة حقا؟
قلنا أن الحكاية بسيطة ، وهي كذلك بالفعل لكنها بساطة الماء الذي يتسلل بين يديك ولا تشعر به إلا حين يمتنع عنك. هكذا أراد الصائغ محمد فؤاد أن يأتي استلهامه لهذه الحكاية المكررة في حواديت الحارات القاهرية القديمة مغموسا في معنى فلسفي أكبر، فيضيف إلى حكايته ثلاثة من الرواة مقنعين بأقنعة بيضاء يديرون الحكاية، التي ستنقلب عليه في الختام، كلٍ حسب رمزه ( قوة ، جمال ، زمن ). وهو ما حققته كريمة بدير بتشكيلات تمنح الشخصيات معان أكبر من صفاتها البسيطة، وتؤكدها ملابس أنيس اسماعيل المقتصدة المشيرة من بعيد.
وقبل أن نختم علينا أن نكرر السؤال( إلى متى ستصر إدارة الأوبرا على هدر عروضها الجميلة بوئدها قبل أن تحقق مشاهدة تستحقها؟) إلى متى ستصر إدارة الأوبرا على عدم فهم أن العروض تصنع جمهورها بالتدريج ، وأن االأيام الثلاثة المتاحة للعروض هي مذبحة لأي عرض بل وتصم إدارته بجريمة ( هدر المال العام ) ... فهل سيسمع أحد ؟