زينات «الأرتيست».. التي عاشت بعد رحليها

زينات «الأرتيست»..  التي عاشت بعد رحليها

العدد 901 صدر بتاريخ 2ديسمبر2024

منذ بداية عملي بالنقد المسرحي وأنا تشغلني قضية اعتبرها مهمة إلى حد ما، هي إحياء الموتى حين نتغنى بهم طوال الوقت بينما نتجاهل الأحياء الذين ربما تفوقوا علي هولاء الموتى، لنظل طوال الوقت مشغولون بالتغني بزمن الفن الجميل كما نتغنى بحضارة سبعة آلاف سنة، موضوع اليوم لم يخرج إطلاقًا عن القضية التي تشغلني، فهذه الفنانة موضوع العرض المسرحي ومن ثم موضوع المقال، عانت كما يعاني الفنانين اليوم بل ربما أكثر منهم بمراحل، فقد ماتت بالفعل فنيًا وتم نسيانها تمامًا وهي على قيد الحياة، ليس هذا فحسب بل أنها عانت من الفقر والعوز، ولم تطلب مساعدة من أحد، بل أنها رفضت بإباء أن تذهب لمخرج تطلب منه العمل، على الرغم من كونها مدت يد العون لكثيرين حتى أنها حين اشترت مقبرة من مالها الخاص لتدفن فيها بعد وفاتها، كتبت عليها وقف لله تعالى، وطالبت أن يدفن بها أي شخص فقير ليس له مقبرة مهما كانت جنسيته أو ديانته، حتى أن البعض اعتقد بعد وفاتها أن دفنت في مقابر الصدقة.
وحين انتقل معظم زملائها إلى حي الزمالك، ظلت هي في عماد الدين منسية حتى رحلت، إنها الفنانة العظيمة «زينات صدقي» التي أراد الله أن يسعدها قبيل وفاتها بتكريمها من قبل الرئيس الراحل أنور السادات، ربما هي لحظة السعادة والانتصار الوحيدة التي عاشتها، فنجوميتها وحدها لم ترضها ولم تحقق لها السعادة التي شعرت بها في هذه اللحظة، هي لحظة رد الاعتبار أمام أهلها الذين قاطعوها وتبرؤوا منها لاحترافها الفن، حين يكرمها الوطن كله متمثلا في أكبر شخصية به هي شخصية رئيس الدولة بنفسه، لكن سرعان ما تلاشت هذه السعادة حين اكتشفت أنها لا تملك فستانًا يليق بهذه المناسبة، ومن هنا يبدأ الحدث الذي بنيت عليه المسرحية التي كتبها محمد زكي بمشاركة أسماء السيد، وقام بإخراجها، وقام بالتمثيل فيها مجموعة من الفنانين الرائعين على رأسهم البطلة هايدي عبد الخالق التي جسدت شخصية زينات صدقي.
هذه اللحظة هي الأكثر أهمية وإثاره في حياة الفنانة الكبيرة زينات صدقي وكان من الذكاء أن بدأ بها الفنان محمد زكي مسرحيته وأنهاها بها أيضًا، وقد اعتمد في تنفيذها على تقنيات سينمائية على خشبة المسرح لعل أبرزها الفلاش باك، والتي اعتمد فيها على فكرة التعدد، فمن خلال تذكر موقف معين يجعلنا نرى ماذا كانت تتذكر في ذلك الوقت، وقد لعبها بذكاء فبها اختصر زمن العرض على الرغم من كونه استعرض كثيرًا من الأحداث والتفاصيل التي مرت بها منذ طفولتها حتى هذه اللحظة، كذلك تكرار مشهد ضرب الأب للأخ مع ضرب الأخ لأبنه بعد تكرار الحوار نفسه وكأن الزمن يعيد نفسه، فالخلاف معها والاختلاف عليها متكررًا على الرغم من تغير الزمان والمكان والأحداث.
 من أهم عناصر نجاح العرض والتي جعلته يحصد عدة جوائز بالمهرجان القومي للمسرح ومهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وهو أيضًا سبب استمرار العرض لمدة طويلة حتى الآن، هو حسن اختيار فريق العمل، هايدي عبد الخالق التي كتبت عنها أكثر من مرة من خلال عروض أخرى سابقة وعلى الرغم من أنني أعرفها كممثلة راسخة إلا أن أدائها في هذا العرض كان مفاجأة كبيرة ليست بالنسبة لي فحسب، بل لكل من شاهد العرض أضحكتنا بكل بساطة وتلقائية زينات من دون تقليد، فقد قدمت شخصية زينات ونحن نعلم جيدًا أنها تمثل الشخصية بحرفيتها ووعيها، إلا أن المفاجأة الكبيرة كانت في التشابه الكبير في الصوت، مع استعمال ملابس تشبه ملابس زينات إلى حد ما، ومن دون مكياج أو كوافير بشعر على طبيعته، تتحول إلى زينات التي طرحت قضية مازلنا نعاني منها حتى الآن على الرغم من اختلاف الزمان والتطور الهائل الذي وصلنا إليه، إلا أن بعض الفنانين من رجال وسيدات يعانوا من فجوة كبيرة في التعامل مع أسرهم، والفن هنا ليس التمثيل فحسب بل ينسحب على التأليف والإخراج وحتى الكتابة النقدية، فكما أضحكت الجمهور بخفة دمها وتلقائيتها النابعة من دراستها للشخصية جيدًا، أبكته أيضًا بصدق.
فاطمة عادل جسدت شخصية خيرية صدقي التي استعارت زينب محمد سعد- وهو الاسم الحقيقي لزينات صدقي- اسمها لممارسة الفن بعد أن هربت من منزل أسرتها، والتي وقفت معها في كل لحظات ضعفها، وقد أدته ببراعة كعادتها، الفنان ياسر أبو العنين جسد شخصية الأب، والأم (فيولا عادل)، (إبراهيم الألفي وإيهاب بكير) اللذين جسدا شخصية شقيقها في مراحل عمرية مختلفة، وأولاد شقيقها (مارتينا هاني، محمود الغندور)، ابنة صديقتها خديجة وحبيبة ابن أخيها(ياسمين عمر)، (أحمد الجوهري) الذي جسد شخصية الترزي، والسفرجي( محمود حلواني) والخادمة (ريم مدحت) والبواب (عبد العزيز العناني)، وكل منهم رائعًا في أداء الشخصية التي جسدها، وكانوا سببًا في أن يحظى العرض بروح الفكاهة وخفة الدم على الرغم من مأساوية الأحداث، وقد أضاف الراديو القديم الذي خرج منه صوت فيروز، أم كلثوم وليلى مراد بعدًا جماليًا من نوعٍ آخر جعلنا نحيا زمن الشخصية من خلال هذه الأصوات القادمة من الماضي.
أما الديكور الذي صممه الفنان فادي فوكيه، والذي جعل من الدولات صندوقًا للدنيا نطل منه على عالم زينات الذي لم نعشه، كذلك الحجرات فكل حجرة لها شخصيات تخرج منها وتدخل إليها، من خلال تقنية تعدد الفلاش باك التي أشرت إليها في البداية، مع وجود منضدة عليها التليفزيون والراديو في حجرة الاستقبال.
أما إضاءة أبو بكر الشريف فهي مشارك رئيسي في الحوار بلغتها التي تنطق بالألوان من حيث سخونة الأحداث وبرودتها، ولحظات السعادة ولحظات الحزن ....الخ المشاعر المتناقضة التي عايشناها مع أبطال العرض.
وعلى الرغم من إعجابي الشديد بالعرض إلا أنني لا أستطيع أن أتجاهل أن به كثير من التفاصيل غير حقيقية، وكنت أرى أن ترك بعض التفاصيل من دون ذكرها لعدم أهميتها أو للحفاظ على زمن العرض، أفضل بكثير من تغيير بعض الحقائق.
العرض إنتاج مسرح الهناجر بقيادة الفنان شادي سرور، ويعد من الأعمال الجيدة التي تحسب له كمنتج ولفريق العمل المتميز.


نور الهدى عبد المنعم