«حبل فى أوضة ضلمة».. انتحار على معزوفة الأمل

«حبل فى أوضة ضلمة»..  انتحار على معزوفة الأمل

العدد 902 صدر بتاريخ 9ديسمبر2024

حين يضيق الأفق ويخيم الظلام على العقل البشرى، يصبح كائن لا إنسانى يتحول إلى شر محض لا يرى أى بارقة أمل فى الحياة، فيذهب إلى تهشيم الذوات حوله وتحطيم كل من ينادى بالرجاء فى مستقبل غير معلن، ولأنه يخاف الجلوس بمفرده فى جحر دامس من صنيعه، لذلك يستقطب ضعاف الإرادة ليبث فيهم أقصي درجات اليأس كى يدخلوا طواعية من باب خوفه فيشعر حينها بالإنتصار.
فى العرض المسرحى “حبل فى أوضة ضلمة “ للمخرج “مايكل نصحى” والذى حصل مؤخرا على جائزة أفضل عرض فى مهرجان آفاق”كنت قد شاهدته قبل المهرجان فى مسرح جزويت القاهرة”.. تتكشف دوافع وأسباب جديدة للإنتحار لكنها تصب جميعاً فى دائرة لا مخرج منها تطلق سهامها فى قلب المجتمع الذى دفع هذا المنتحر من أعلى التل دون رحمة .. وتتوالى أسئلة لا تنتهى بلا إجابات .. هل المنتحر كافر ؟.. هل يعرف من دفع المنتحر لهذا الفعل حجم الجرم الذى إقترفه؟..هل الكلمات تكفى لإثناء هذا المنتحر عن قراره؟ .. وتستمر الأسئلة حتى نرى هذا المنتحر تحيطه نغمات معزوفة الأمل محاولاً الوصول لهذا الحبل “فى أوضة ضلمة”
يبدأ العرض برؤية بصرية عشوائية لا تعطى إنطباع محدد للمتلقى، ديكور بسيط من خلفية خشبية يتخللها باب دخول على اليسار  وبعض النوافذ التى تظهر كشاشات عرض ولكنها فى واقع الأمر “سلويت “ يستخدمه المخرج لعرض “الفلاش باك” حين يتطلب الأمر ذلك، مع إختيار الإضاءة باللون البرتقالى الذى يوحى بإشتعال النيران من خلال كل جريمة مثلا يتم طرحها فى “فلاش باك»، نرى الممثلين يرقدون واحداً تلو أخرى على أرضية المسرح مرتدين جميعاً اللون الأبيض، لندرك لاحقاً أنه الزى الرسمى لهذه المصحة العقلية والجميع هنا يخضع للعلاج، بعد إستعراض البداية الذى يشعرك بالتركيز التام فيما هو آت نجد شخص ملتحى ينفرد بالجانب الأيمن من المسرح متهماً الباقين بالكفر لأنهم يغنون ويرقصون، وفى الجانب الأيسر عازف على ألة الكمان يجلس منطوياً يعزف لحن مكرر ويتحدث مع آلته كأنها حبيبته، وبين الملتحى والعازف نرى فى المنتصف أنثى كفيفة تحب هذا الشاب الأبكم، وعاهرة وملحد ونزلاء أخرين.
المؤلف “أحمد سمير” والذى حصل أيضاً على جاهزة أحسن نص مسرحي فى نفس المهرجان عن هذا النص “حبل فى أوضة ضلمة” إرتكز فى خطه الدرامى الرئيسي على عنصر التشويق فلا ندرك حقيقة هذه الشخصيات أو واقعيتها إلا مع نهاية العرض حتى أن دخول “بابا نويل” للأحداث تم بطريقة تبدو منطقية بعض الشيء رغم عدم واقعية الحالة وربما كانت الشخصية المحورية التى بدت واقعية من بداية العرض هى شخصية الطبيب المعالج فإختياره للكلمات والجمل لم يكن مجرد سرد لتكوين شخصية ما لكنه وعى جيداً بعلم رسم وبناء الشخصية على الورق وهذه الطريقة التى تتيح للممثل مساحة كافية للإندماج المحسوب داخل الشخصية، لذلك كانت كتابة “أحمد سمير” تستحق الظهور بشكل مفهوم ودقيق وهو ما فعله المخرج “مايكل نصحى “ بإقتدار يأخذه من مرحلة الهواة إلى المحترفين.
تسكين الأدوار الذى لعبه المخرج كمدرب كرة قدم يعرف جيداً إمكانيات وأدوات كل لاعب لديه جعله يضع كل “دور فى الممثل” المناسب له تماماً، فلن تجد من الممثلين من تستطيع القول عنه أن هذا الدور لا يناسبه وهو شيء يفتقده الكثير من المخرجين هذه الأيام، ولأن الكتابة جيدة والتسكين مناسب أجاد الممثلين جميعاً كلاً فى دوره كأنها حياته المسرحية أو العكس مسرحية حياته.
أن تستطيع الصمود أمام كم الكوميديا التى تخرج من عمق المأساة مع ممثلين يصعب وضع لجام لهم فى ذلك هو شيء فى غاية الأهمية فعله “مايكل نصحى “ بدقة متناهية حتى يحافظ على الشكل الذى صنعه المؤلف للنص، فكانت كل الإفيهات مرسومة بدقة مع وضع حدود زمنية لها كى لا تؤثر على تأثر الجمهور بحالة التراجيديا التى ناصفت الكوميديا فى مساحتها تقريباً، وساعد المخرج فى ذلك موسيقى صنعت بحب “نعم بحب»،ولم تكن مجرد موسيقى لخلفية مشهد تناسب مشاهد أخرى أو عرض أخر لكنها صنعت لهذه الحالة تحديداً فكانت جزء أصيل من العرض وتركت تأثير لا ينتهى بنهاية العرض.
فريق «ميزانسين» المسرحى الذى أسسه ويقوده المخرج «مايكل نصحى» من الفرق التى بدأت بما يخالف البدايات كمحاولة عرض مسرحى تقليدى أو صغير كبداية، لأنهم من البداية كانوا كبار فى عالم المسرح، وتجاربهم السابقة لمن يتابعها توحى بأن هؤلاء اللاعبين لا غرض لهم سوا المتعة وحب المسرح حب حقيقي لا جدال فيه، وكما جميع الفرق المسرحية المستقلة مرت الفرقة بعثرات كثيرة وبعض النجاحات والقليل من الإحباطات والتى كانت فى بعض الأحيان قاب قوسين أو أدنى من إنهاء هذا المشروع بلا رجعة، لكن الإصرار الذى يستحق كل تقدير من مخرج الفريق ومعاونة فريقه كان ينهض بالفريق مرة أخرى، حتى وصل الفريق الآن لمحطة جديدة هامة تحتم عليهم إستكمال الحلم بلا توقف فهم يستحقون ذلك، والجمهور يستحق أن يشاهد مسرح حقيقي ملىء بالمتعة أثناء المشاهدة وبعدها.
العرض المسرحى «حبل فى أوضة ضلمة» بطولة سمعان كمال، مينا بديع، أحمد نعيم، جورجيت عزت، مريم عادل، بافلي أشرف، عادل عماد، يوسف علي، بيتر أيمن، مارينا رؤوف، مورا عهدي، رفقه موسي، جون سمير، كاتي عياد، مينا عماد، مينا فايز..بالإضافة لممثلين أخرين للعرض فى أيام أخرى لم أشاهدهم ويستحقون التقدير أيضاً.
ديكور «جوزيف بهاء»، موسيقي «سامح الكسان»، ملابس «مريم عادل»، إكسسورات «كاتي عياد»، ساوند تراك «أحمد سيد»، مكياج «رفقه موسي»، تصميم إستعراضات «فادي سمير»، تصميم إضاءة «مايكل نصحي»، تأليف «أحمد سمير»، إخراج «مايكل نصحي».


نبيل سمير