العدد 902 صدر بتاريخ 9ديسمبر2024
«المفحمة» هو عرض مسرحى من اخراج شادى نادر، ضمن فاعليات مهرجان آفاق مسرحية العربى، فى دورته العاشرة على مسرح الهناجر «مرحلة النهائيات»، و العرض مأخوذ عن مسرحية «القرد كثيف الشعر» ليوجين اونيل «ابو المسرح الأمريكى»، و لكن اختلفت الرؤية عند كلا من اونيل و شادى، بعدما قام الأخير بعمل دراماتورج للنص المسرحى من اعداد كلا من بيشوى نادر و مينا سامح بأسم المفحمة، دلالة على ما ينتاب «يانك» الذى يرمز لطبقة الوقادين من حقد طبقى و كراهية و انتقام نحو الطبقة الارستقراطية، و حقيقة هو اختيار جديد و موفق لأسم العرض المسرحى، ليتناسب مع ما تم فيه من اعداد و تغيير جذرى فى الفينالة الخاصة به، حيث اختلفت الفينالة عند كلا منهما، ان «يانك» عند اونيل احد اهم الوقادين بالسفينة يرفض الجنس البشرى فى النهاية و يفقد الإنتماء نحوه، بعد التنمر عليه و يتجه الى حديقة الحيوان ليعيش مع الغوريلا، حيث عالم الحيوان الذى تم تشبيهه به و لكن الغوريلا هنا تقوم بقتله، لتنتهى المسرحية بهزيمة مهينة لتلك الطبقة التى يمثلها «يانك»، امام الطبقة الأرستقراطية التى استطاعت قهره و القضاء عليه .
بينما « يانك « عند شادى نور ينتصر فى النهاية على الطبقة الأرستقراطية، بعدما ينهوا حياة السيد ماركوس الذى يمارس التنمر و الشر على طبقة الوقادين بالسم، نفس الآداة التى كان يستخدمها مع كل من يعارضه .
مما نخلص هنا ان النهاية عند «اونيل» هى نهاية محبطة تفتقد الأمل فى الحياة و المستقبل الأفضل، بينما النهاية عند «نور» هى نهاية متفائلة يغمرها النور .
وعلى الرغم من اختلاف الفينالة عند كل من يوجين اونيل و شادى نور، الا ان الاخير التزم فى رؤيته الإخراجية بالمدرسة التعبيرية عند «يوجين اونيل» فى كتابته للنص المسرحى « القرد كثيف الشعر « .
و المدرسة التعبيرية هى تلك المدرسة التى تصور اعماق النفس الانسانية، و تجسيد مكنونات العقل الباطن و التعبير عن المشاعر الذهنية التى تثيرها الأشياء او الأحداث فى النفس، و ذلك عن طريق تكثيف الألوان، تشويه الأشكال، المغالطات و التناقضات، و هذا بالفعل ما رأيناه عند شادى نور فى « المفحمة « و سيأتى الحديث عنها لا حقا، اما عن خصائص المدرسة التعبيرية هى وجود شخصية رئيسية واحدة تعانى من أزمة نفسية، و بقية الشخصيات نمطية و قد توجد شخصية محورية واحدة مثلما رأينا “ ملدرد “ فى المفحمة كشخصية محورية امام « يانك « الشخصية الرئيسية، و وظيفتهم جميعا الكشف عن الصراعات النفسية للشخصية الرئيسية و كشف دواخلها، و هذا كله رأيناه بالفعل فى العرض المسرحى “ المفحمة “ .
و يتطور العرض المسرحى و تصل احداثه الى الذروة عند مقابلة « ملدرد « تلك الشخصية المحورية مع « يانك « الشخصية الرئيسة بأسفل السفينة، و باقى شخصيات العرض هى شخصيات نمطية طوال احداثه، كل شخصية منهم اسهمت بشكل فعال فى الكشف عن الصراعات النفسية داخل « يانك « من خلال حواره معهم .
تعتمد ايضا المدرسة التعبيرية على الرموز، و يتضح ذلك جليا فى عرض « المفحمة «، من خلال ديكور السفينة الذى قام بتصميمه « مارو ابراهيم « ببراعة دقيقة، حيث قام بتقسيم السفينة الى جزئين « جزء علوى « يرمز للطبقة الارستقراطية الثرية من الملاك، و « جزء سفلى « يرمز للطبقة الفقيرة من الوقادين الذين يعملون بالسفينة، و ايضا ساعة الحائط التى وجدت بالطابق العلوى للسفينة كانت ترمز الى رفاهية الوقت عند طبقة الارستقراطيين، و عدم وجودها بالأسفل ترمز الى انعدام الوقت و رفاهيته لديهم نتيجة عملهم المتواصل بالسفينة بلا راحة، و لكن كان لابد على المخرج هنا ان يفطن انه كان يجب ان تكون الساعة حقيقية و تتحرك بشكل طبيعى طوال وقت العرض، و غير متوقفة كما رأيناها و لا يوجد بالمسرح اشياء مجانية او لا دلالات لها، حيث ان توقف الساعة على لحظة معينة قد يعطى دلالة منافية لفكرة و رسالة العرض بالمرة .
كذلك جاءت ملابس الوقادين لفريق مسرح كريستيان ايجى عبارة عن قطع من الخيش القوى لترمز الى طبيعة عملهم القاسية التى تعتمد على بذل الجهد الضخم فيه، بينما جاءت ملابس الطبقة الارستقراطية بالجزء العلوى راقية و مهندمة و على احدث صيحات الموضة، دلالالة على رفاهيتهم و حياتهم القائمة على البذخ و عدم العمل فى مهن شاقة و مضنية، كما وجدنا كلا من عمة ملدرد ترتدى ملابس ذات اللون الأسود القاتم، بينما ملدرد ترتدى ملابس بيضاء بالكامل، ليتضح لنا هنا ان المخرج شادى نور اعتمد فى رمزيته على لونى الأبيض و الأسود كتعبير عن الخير و الشر فى العموم .
كذلك جاء المكياج لميرفت سمير مختلفا فى الجزء السفلى عنه فى الجزء العلوى كما الملابس تماما، فوجدنا وجوه الوقادين تتشح بالسواد الناتج عن الفحم الذى يضعونه فى الأفران، من أجل سير السفينة، كما وجدنا بعض الاصابات و الحروق لديهم نتيجة تعاملهم مع أفران النيران، كان ابرزها مكياج بارع و محترف لإصابة احدى الفتيات بحرق فى عينها اليمنى، دلالالة على قسوة مهنتهم و تعرضهم للمخاطر فيها .
و يبدو من احداث العرض المسرحى « المفحمة « ان الهدف الذى ابتغى اليه نور لكى يصل الى المتلقى، و تحديدا فى تلك الأيام هو التفاوت الطبقى الشاسع الذى اختفت معه الطبقة المتوسطة، مما ولد حقد طبقى لدى الطبقات الفقيرة امام الطبقات الغنية، التى تملك النفوذ و السلطة العليا، و تحديدا تلك الفئة منهم التى تتنمر عليهم و لا تعترف بهم و لا بحقهم فى الحياة الكريمة، و تنظر اليهم نظرة دونية و حيوانية، كما يوضح العرض ايضا لفقدان الانسان المعاصر فى عالم الآلة و التطور التكنولوجى للإنتماء لمجتمعه الذى يعيش فيه، مثلما وجدنا “ يانك “ قد فقد الإنتماء للسفينة بعد حدوث مشهد الذروة و المواجهة بينه و بين ملدرد عند زيارتها للوقادين بالأسفل، و من ثم فزعت من شكله و وصفته بالحيوانية، هنا تغيرت مجرى الأحداث تماما، و كان هذا اللقاء بمثابة اللحظة الفارقة التى بناءا عليها تغيرت احوال « يانك « من النقيض الى النقيض، من الإنتماء الكامل للسفينة و الدفاع عن كل ما عليها، الى عدم الإنتماء المفاجئ لها و كراهيته للطبقة الثرية و شعوره بالإغتراب فيها، خاصة انه كان يكره النساء الارستقراطيين، و لقاءه بملدرد و ما صدر منها من تنمر فى حقه، عزز من من تلك الكراهية ليعيش بعدها فى عزلة عن مجتمع الوقادين .
كذلك تعتمد المدرسة التعبيرية ايضا على المبالغات، و هذا ما حرص عليه مخرج العرض فى رؤيته الإخراجية، من خلال تعامل الوقادين مع بعضهم البعض بطريقة حيوانية غير آدمية، كما حرص نور ايضا على استخدام التناقضات فى رؤيته الاخراجية على غرار المدرسة التعبيرية، و وجدنا ذلك فى العرض فى فقد انتماء « يانك « للسفينة بعد لقاء « ملدرد « معه، بعدما كان منتمى لها من قبل و يدافع عنها امام الوقادين، و من ثم انكساره بعدها و عدم الدفاع عن انتمائه لها، كل هذه تناقضات ملحوظة بقوة فى العرض المسرحى .
تبرز تناقضات العرض ايضا من خلال ديكور السفينة، حيث الجزء العلوى يمثل “ الطبقة الارستقراطية “، فنجد ملدرد رشيقة و نحيفة تعبر عن طبقتها، بينما الجزء الأسفل الخاص بعالم الوقادين نجد فيه يانك يتميز بالبنيان القوى و عضلات الذراعين و ملامح الفقر، كما وجدنا ايضا تناقض فى الحركة بين الجزء الأعلى للطبقة الارستقراطية حيث الحركة الرشيقة و الهادئة التى تعبر عن ثقتهم بأنقسهم و احساسهم بالأمان و السيطرة و الحماية، بينما على الجانب الآخر بالأسفل كانت حركة الوقادين كلها انفعالات متوترة و غضب و رغبة فى الانتقام، من خلال الحركة فى كل الاتجاهات، و قد عمد شادى نادر ان يجعل « يانك « دائما يتجه الى مقدمة المسرح كلما بدأ حديثه لهم، دلالالة على انه اقواهم و قائدهم .
كما جاءت الدراما الحركية لمحمد بحيرى فى بداية العرض و فى ختامه بشكل متقن للغاية عن الحدث الدرامى الذى يدور امام المتلقى، ففى بداية العرض كانت الدراما الحركية عبارة عن تعريف بطبيعة عمل الوقادين بالسفينة و طريقة قيادتهم لها، و كيفية تعاملهم مع افران الفحم و النيران، بينما الدراما الحركية التى جاءت فى الفينالة كانت تعبر عن دراما الإنتصار على الطبقة الارستقراطية بموت السيد ماركوس من خلال تسميمهم له عندما قام بزيارتهم، و بنفس السلاح ( السم ) الذى كان يتعامل به معهم، مثلما فعل مع ابنة البهلوان فانى .
و فى مشهد بديع فى نهاية العرض المسرحى قام فيه الوقادين بإطلاق حمامة الحرية و الخلاص ، و قد لجأ شادى نور الى الإستعانة بحمامة حقيقة فى العرض المسرحى، و ان كنت اتمنى ان يكون من يطلقها هو « يانك « نفسه، حيث انه الشخصية الرئيسية التى قامت عليها كل احداث العرض، و لكن للأسف لم يحدث ذلك ؟!
الإضاءة من تصميم مخرج العرض ذاته اسهمت بشكل كبير فى نجاح العرض المسرحى، بما فيها من تناقضات معبرة و موفقة عن الطبقتين العليا و السفلى، ففى الجزء السفلى للسفينة وجدنا الإضاءة الحمراء و الألوان الساخنة دلالة على الحرارة و الغضب و القسوة، كما ان النور الأحمر المنبعث من الأفران دلالة على ان « يانك « بداخله نار الغضب و الحقد نحو الطبقة الارستقراطية، أما فى الجزء العلوى فجاءت الالوان الباردة « الأبيض / الأزرق « لتوحى بالرفاهية و اللامبالاة التى تحيا فيها الطبقة الارستقراطية .
بينما جاء الاعداد الموسيقى لستيفن عماد يشوبه التناقضات ايضا عن عمد، من اجل ابراز الفرق بين الطبقتين، فوجدنا موسيقى حالمة تتسم بالرفاهية و الرقى تم انتقائها لتكون طابع خاص للجزء الأعلى، بينما جاءت الموسيقى المعدة للجزء الأسفل معبرة عن الغضب و الانتقام، من خلال صوتها الضخم البعيد عن الرومانسية .
و اخيرا جاء اختيار المخرج للممثلين موفقا لأبعد الحدود سواء على المستوى الشكلى أو على مستوى الآداء التمثيلى، فوجدنا جبرا جرجس من قام بدور « يانك « فى اوج تألقه و توحده مع الشخصية تماما، حيث لم يسبق لى ان رأيت ممثلا توحد مع تلك الشخصية مثله او يشبه « يانك « كما وصفه « اونيل « بشعره الكثيف غير المهذب و ملابسه الرقيعة غير المهندمة، و هذا ان دل لا يدل الا عن حبه الجارف للشخصية و استمتاعه بتقمصها و تصديقها، كما انه على المستوى الشكلى و العضلى مناسب جدا للشخصية كما وصفها « اونيل «، و على النقيض جاءت دميانة مجدى من قامت بدور ملدر على عكسه من ناحية الشكل حيث بدت وسامتها و رقتها و اناقتها، و التى كانت متمكنة من ادواتها فى اعطاء المتلقى ذاك الاحساس، كما انها قريبة جدا من الشخصية و صفاتها و كانت مقنعة فيها على اروع صورة، كان هناك ايضا عبد الغنى السعيد من قام بآداء دور السيد ماركوس بملامحه الاجنبية التى خدمت الدور، اضافة الى تمكنه من الاقتراب كثيرا من صفات الشخصية و هدوئها و ذكائها، و على الجانب الآخر وجدنا عمة ملدرد من جسدت دورها مارينا ثروت التى ادت الشخصية باقتدار شديد جدا صدرت فيه كل الشر فى آدائها للمتلقى، حتى فى مشهد موتها بالسم كانت بارعة بشكل مبهر و كأنها حالة تسمم حقيقى، مما ينبأ بميلاد موهبة فذة و اضافة فنية قريبا، تألقت ايضا مارتينا عزت فى دور الصحفية الرقيقة و الجريئة و التى يقتلها السيد ماركوس بالسم فى النهاية بعدما خالفت الأوامر و نزلت للطابق السفلى حيث الوقادين و ارادت الدفاع و الكتابة عنهم، و اثبتت مارتينا بهذا الدور انها فنانة صاعدة بقوة فى القريب العاجل، و حقيقة جميع من بالعرض من ممثلين و ممثلات أجادوا فى ادوارهم بمنتهى الحرفية امثال جونير ملاك، كيرلس ماهر، ارسانيوس نشأت، جوزيف فرج الله، يوستينا مجدى، مادونا صدقى، كاترين خيرى، جومانة ملاك، ساندرا ماجد، مينا وديع، مارو جميل، مهاب شرقاوى، ديفرام شنودة، ابرام هانى، أحمد حمدى، فيرا نبيل، جميعهم كانوا على قدر المسئولية التى اولاها المخرج لهم بعبقريته فى التسكين .
و فى النهاية ؛ قدم المخرج شادى نادر فى هذا العرض المسرحى « المفحمة «، شهادة ميلاده كمخرج محترف على اعلى قدر من الموهبة و الفطرة و الرؤية الاخراجية، و التى تتلائم مع نص عالمى مثل نص « القرد كثيف الشعر “ للكاتب يوجين اونيل، و لأول مرة من خلال مقالة نقدية أدعو الجهات المسئولة فى الدولة الى تبنى هذا المخرج فنيا، حيث انه يعد بمثابة اضافة كبيرة للمسرح و لمستقبل الإخراج فى مصر، حيث انه تناول عرض مسرحى عالمى، و لكن برؤية اخراجية جديدة و خاصة به وحده، تناقش ازمة عدم الإنتماء و اللاوجودية فى اعماق النفس الإنسانية، لذا اطلقت عليه لقب يستحقه الا و هو “ يوسف شاهين المسرح “ .