قضية إلا خمسة !!

قضية إلا خمسة !!

العدد 902 صدر بتاريخ 9ديسمبر2024

في مارس 1944، نشرت جريدة «الأهرام» أول إعلان لقبول الطلاب في المعهد العالي لفن التمثيل العربي، ويتم قبول المتقدمين والمتقدمات للمعهد بعد نجاحهم في اختبار القبول الذي يعقد أمام لجنة مختارة بمسرح حديقة الأزبكية. ولهذه اللجنة أن توصي بإعفاء من يبدو منه استعداد ظاهر في اختبار القبول من شروط الالتحاق كلها أو بعضها. وبعد أيام - من نشر هذا الإعلان - تلقى «نجيب الريحاني» خطاباً من وكيل الوزارة، جاء فيه الآتي: “حضرة المحترم الأستاذ .... تحية طيبة وبعد، فقد وقع اختيار وزارة الشؤون الاجتماعية على حضرتكم، لتكونوا ضمن أعضاء لجنة امتحان الطلبة المتقدمين لمعهد فن التمثيل العربي، والذي سيعقد بمسرح حديقة الأزبكية في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الموافق 31 مارس سنة 1944 والأيام التالية. ولا شك في أن اهتمامكم بشئون المسرح المصري يدعوكم إلى تلبية هذه الدعوة. [توقيع] وكيل الوزارة”.
وتشكلت اللجنة من رئيسها «محمد صلاح الدين بك»، ومن الأعضاء: زكي طليمات، ونجيب الريحاني، وحسين رياض، وطلعت المقدم - مندوب وزارة الشئون - وتولى أعمال السكرتارية الأستاذ عبد القادر المسيري وأحمد البدوي. وبلغ عدد المتقدمين إلى معهد التمثيل نحو «1280» طالباً وطالبة، كان بينهم عدد كبير من موظفي الحكومة، وخريجي المدارس العالية، وحملة الدبلومات الفنية. ومن المعروف أن امتحان القبول تحدُث فيه بعض المواقف الطريفة، لا سيما وأن في اللجنة ممثل كوميدي – وهو نجيب الريحاني – فقد نشرت الصحف مواقفه الطريفة، ومنها هذا الموقف، الذي نشرته مجلة «روز اليوسف»، قائلة:
«.. وقبل أن يبدأ الامتحان قال الأستاذ نجيب: الطالبات في الأول .. ونزلت اللجنة على رأيه، وبدأت الفاتورة تعدّ على المسرح، والظاهرة الطيبة في هؤلاء أن 50 في المئة منهن من الأجسام الطيبة المليحات الوجوه. واختار معظم الطالبات بعض قطع من مسرحيتي «مجنون ليلى» و«مصرع كليوباترا»، والبعض الآخر محفوظات من كتب دراسية. وتقدمت واحدة اسمها «ملك محمد الجمل»، وألقت قطعة من «تاجر البندقية»، فقال الأستاذ نجيب: إلقاؤها زفت، لكن وشها زي سيمون .. سيمون مقبولة!! وأعقبها أخرى، فتضايق كشكش من صوتها وهمس في أذن فتوح نشاطي وقال: اكتب أمام اسمها نشاز كويس قوي!! وبعد امتحان عشر طالبات، دخلت طالبة إلى المسرح وتدعى ميرفت، وبحركة لولبية من جسمها قالت: والنبي يا لجنة أنا ماعنديش حاجة غير حتة من «كرسي الاعتراف»، فالتفت كشكش لها وقال: إيه ده .. دي درامه، اعتراف إيه وهباب إيه!! قولي لنا يا شيخة حتة تضحك بالبلدي، فما كان منها إلا أن قلدت أمينة شكيب في قطعة «يا كُبة يا وكسة يا تلاتين أردب نيلة!». وبعد الانتهاء من امتحان الطالبات، قال أبو الكشاكش: هاتوا لنا الجنس اللي يُغم. وبدأ امتحان الطلبة”.
أما عن عروض فرقة الريحاني، فللأسف لم يقدم الريحاني أية مسرحية جديدة بعد «حسن ومرقص وكوهين»، وافتتح الموسم الجديد بمسرحياته السابقة، وظل طوال الموسم على هذا المنوال حتى جاء موسم الصيف وبدأ الريحاني يبحث عن مسرح يعرض عليه!! وفي هذا التوقيت بدأت «دولت أبيض» - زوجة جورج أبيض – في تجهيز كازينو «هونولولو» بحدائق القبة، ليكون مسرحاً دائماً لفرقتها المسرحية الجديدة!! وبدأت الإعلانات تُنشر وتُعلن أن المسرح يقع في شارع علي شعراوي باشا – أو شارع بارفس سابقاً – بحدائق القبة، وسيحمل اسم «مسرح دولت أبيض الصيفي»، وسيعرض فيه حفلات ساهرة غنائية وتمثيلية وراقصة، وبه مطعم بحديقة السطح وبوفيه!! ولكن المسرح افتتح في الأول من يونية 1944 بمشاهد مسرحية من أعمال جورج أبيض بالعربية والفرنسية، مع مونولوجات من «سعاد أبيض»!!
بعد شهرين من افتتاح هذا المسرح، نشرت جريدة «البلاغ» إعلاناً بعنوان «نجيب الريحاني وفرقته»، قالت فيه: تعلن إدارة فرقة الريحاني ومسرح دولت أبيض بأنها قد وضعت تحت أمر الجمهور ابتداء من اليوم الخميس سيارتين خاصتين الأولى تقوم الساعة 8 و45 دقيقة، والثانية الساعة 9 مساء من ميدان الإسماعيلية [ميدان التحرير حالياً]. وتقفان بميدان التوفيقية وميدان باب الحديد وأول شارع الملك لنقل المتفرجين. وهذه الأتوبيسات في خدمة الجمهور أمام المسرح بعد انتهاء التمثيل مباشرة. هذا علاوة على التسهيلات التي اتخذت لراحة الجمهور بخط رقم 14. وترفع الستار الساعة 9,30 مساء.
وفي سبتمبر 1944 نشرت جريدة «المصري» إعلاناً قالت فيه: نجيب الريحاني وفرقته على مسرح دولت أبيض «هونولولو» بحدائق القبة يختتم موسمه التمثيلي الصيفي بحفلات عيد الفطر المبارك حيث يقدم مسرحيات: «الدنيا على كف عفريت»، «حسن ومرقص وكوهين»، «يا ما كان في نفسي»، «ما حدش واخد منها حاجة»، «30 يوم في السجن». أما حفلات عيد الأضحى في نوفمبر 1944 فقد أعلنت عنها جريدة «المقطم» قائلة: تياترو ريتس احتفالاً بعيد الأضحى المبارك كل يوم حفلتان، يقدم نجيب الريحاني وفرقته أول يوم العيد روايته «30 يوم في السجن»، وثاني يوم العيد «لو كنت حليوة»، والثالث «الدنيا لما تضحك»، والرابع «حسن ومرقص وكوهين».
في فبراير 1945 بدأ الريحاني بالإعلان عن مسرحيته الجديدة من خلال تهنئة الملك فاروق بعيد ميلاده، حيث قالت جريدة «البلاغ»: «الأستاذ نجيب الريحاني وفرقته يتقدم بخالص التهنئة لعاهل الفن الأول جلالة «الفاروق» بأصدق الولاء وأسمى عبارات التهاني بعيد مولده السعيد أعاده الله على جلالته بالعز والإسعاد .. وقريباً تقدم المسرحية الجديدة «إلا خمسة»». وبالفعل عرضتها يوم السبت 3 مارس 1945 على مسرح «ريتس»، وهي من تأليف الريحاني وبديع.
تدور أحداث المسرحية حول المحامي سليمان، وهو فقير الحال ضيق الرزق، له مكتب محاماة ولكن بدون زبائن. ومن ضيق حاله وكثرة ديونه بدأ في بيع بذلته الأسموكن لبائع روبابكيا، الذي بادله بكتاب قديم – مقابل البذلة الأسموكن - ومبلغ من المال لتسوية الديون، ووجد سليمان في هذا الكتاب الأمل المنشود من نصائح وعبر إلا أنه وجد ضالته المنشودة في جلدة الكتاب، حيث وجد بها خريطة لكنز مدفون في حائط بقصر المكدوني في سوق السلاح تسكن فيه شمردل هانم، وهي سيدة ثرية عجوز، وجاويد باشا وهو رجل أضاع كل ما ورثه على لعب القمار وله بنت اسمها باكيزة مخطوبة من رجل يدعى كاظم محباً لما سوف ترثه باكيزة من عمتها بعد وفاتها. وعمد سليمان إلى حيلة لدخول القصر ليجد ضالته المفقودة بأنه أدعى أنه سائق حيث إن أصحاب القصر أعلنوا بالجريدة عن حاجتهم لسائق. وأخذ سليمان يداعب ويتقرب من شمردل هانم ويغازلها حتى يوطد نفسه في البيت. كما أفسد سليمان فكرة هدم البرج الأخضر الذي كان أصحاب القصر عزموا على هدمه نظراً لقدمه والذي يوجد به الكنز الذي يبحث سليمان عنه موهماً شمردل هانم – وهي مولعة بقراءة كفها – يوجد به خطان خط العمر الذي يسنده خط البرج فإذا انهدم البرج انتهى عمرها بدوره. وكان يقرأ لشمردل الكف آدم خادم القصر. ووقع سليمان في حب باكيزة وهي الأخرى مالت إليه فأفصح لها عن حقيقة أمره وشخصيته وأنه حضر للقصر للبحث عن كنز جدها فأخذا يبحثا سوياً عن هذا الكنز ولكن لم يجداه نظراً لخطأ وقع فيه سليمان في حساب القياسات والخطوات، ومع قراءة الخريطة وحساب الطريق مرة أخرى تم اكتشاف الخطأ ومن ثم إصلاحه، ووصلا إلى الكنز ففرحا وتزوجا.
لم تهتم الصحافة بنقد العرض ولا بالكتابة عنه، بقدر اهتمامها بقضية أثارها العرض، والتي بدأت ببيان نشره الريحاني في جريدة «الأهرام» قال فيه: “نمى إلى علمي مع الأسف الشديد أن بعضاً من حضرات الأساتذة المحامين قد أساء فهم ما قصدت إليه في روايتي الأخيرة «إلا خمسة» من تصوير بطلها في صورة المحامي الرقيق الحال الذي هو على الرغم من نشاطه وذكائه ونبل أخلاقه قد عاكسه الحظ العاثر إلى الحد الذي لم يجد فيه من العمل ما يبرز به موهبته، ولما كنت مطمئناً إلى أن مثل هذا التصوير البريء ليس فيه ما يخدش كرامة المحاماة، من قريب أو بعيد تلك الكرامة التي أعرف قبل غيري بل وأكثر من غيري مبلغ إجلالها وقدسيتها، فإني قد بادرت بنشر هذا البيان الصريح دفعاً لكل لبس أو افتراء [توقيع] نجيب الريحاني». وعضد الريحاني هذا البيان بخبر نشرته مجلة «الصباح» تحت عنوان «إلا خمسة تمثل أمام جلالة الملك»، جاء فيه: «حظيت جميع الروايات التي أخرجها للمسرح الممثل العظيم الأستاذ نجيب الريحاني بشرف التمثيل أمام جلالة الملك المعظم. وقد حظيت رواية «إلا خمسة» وهي أحدث رواية أخرجها الأستاذ نجيب الريحاني بشرف رؤية صاحب الجلالة الملك لتمثيلها في حفلة النادي الأهلي بمسرح الأوبرا الملكية، وقد تفضل جلالته فأبدى رضاءه العالي عنها، والأستاذ الريحاني جدير بهذه اللفتة الملكية السامية وهذا الرضاء العالي».
للأسف كل هذا لم يشفع للريحاني أمام سخط المحامين عليه!! ففي أبريل 1945 نشر «إبراهيم خليل» مقالة في جريدة «البلاغ» عنوانها «مسرحية إلا خمسة .. هل أساءت لأحد؟»، قال فيها: نشرت الصحف اليومية في الأسبوع الماضي بلاغاً قدمه أحد المحامين لسعادة النائب العام طلب فيه منع الأستاذ نجيب الريحاني من الاستمرار في تمثيل مسرحيته إلا خمسة وتقديمه إلى المحاكمة باعتبار أن ما جاء في هذه المسرحية حساس بالمهنة وقذف في أربابها!! وهذا النوع أدخله الأستاذ نجيب الريحاني في المسرح المصري وأحبه الجمهور المصري واستعاد مشاهدته مرات ومرات، ففي مسرحية «الدلوعة» نقد طريف للروتين الحكومي الذي يجعل الخطاب المرسل من الجيزة لإمبابة يسير في نطاق حكومي يستغرق ثلاث سنوات، وفي «حكم قراقوش» نقد لأعمال الملوك ورجال حكوماتهم وحاشيتهم. وفي مسرحية «مدرسة الدجالين» اتهام صريح لرجال الإنتاج السينمائي بالغش والسرقة. وفي مسرحية «لو كنت حليوة» تصوير ممتع لنظام الوقف الذي يشكو منه الجميع وتسعى كل الجهات لإلغائه بعد ما تبين من فضائح النظار وسرقاتهم. ومما نذكره أنه في سنة 1937 شاهد صاحب الجلالة الملك فاروق الأول المسرحية الأخيرة، وبعد انتهاء التمثيل وقف جلالته في المقصورة الملكية بدار الأوبرا وألقى نطقاً سامياً مبيناً المعنى الموفق الموجود في المسرحية، وتفضل فأنعم جلالته على الأستاذ نجيب بنيشان النيل الخامس. ولا تقل رواية «إلا خمسة» التي أخرجتها فرقة الأستاذ نجيب أخيراً - في موضوعها عن الروايات السابقة. فهي تصوير لحياة أحد المحامين، ولا نقول في القصة شيئاً ما دام أصبح بيد القضاء.
وبعد أيام نشرت مجلة «الصباح» بعض التفاصيل قائلة: قضية طريفة لرواية «إلا خمسة» يترافع فيها الأستاذ نجيب الريحاني»: يقول مندوبنا القضائي إن محكمة جنح الأزبكية ستنظر يوم 19 مايو القادم القضية المرفوعة من الأستاذين صلاح الدين ندا، ومصطفى كامل البسيوني المحاميين على الأستاذ نجيب الريحاني صاحب مسرح ريتس وحضرة صاحب الدولة وزير الداخلية لمعاقبة الأول بالمواد 302 فقرة ألف و303 فقرة ألف و306 و307 و308 من قانون العقوبات وإلزامه متضامناً مع دولة المعلن إليه بدفع مبلغ 21 جنيهاً بصفة تعويض مؤقت وذلك من أجل بعض كلمات وردت في رواية «إلا خمسة». وبهذه المناسبة نذكر أن كثيرين من المحامين شاهدوا الرواية ومنهم الأساتذة: توفيق دوس باشا، وكامل يوسف بك وغيرهما. وقد قرروا جميعاً أن الرواية ليس بها إلا النقد المسرحي العادي وسيترافع الأستاذ نجيب الريحاني في القضية بنفسه يوم الجلسة.
وواصلت المجلة متابعتها للقضية فنشرت خبراً قالت فيه: يقوم الأستاذ عبد الحميد عبد الحق بدور حمامة السلام بين الأستاذ نجيب الريحاني والمحامين الذين رفعوا قضية يشكون فيها من رواية «إلا خمسة». ونذكر بهذه المناسبة أن بعض كبار المحامين المصريين شاهدوا مسرحية إلا خمسة .. وعقب تمثيلها قابلوا الأستاذ نجيب الريحاني وأبدوا رأيهم في الرواية بما يشجع الأستاذ الريحاني على الاستمرار في تمثيلها والدفاع عنها في المحكمة إذا استمرت القضية.
وفي أواخر مايو 1945 انتهت قضية المسرحية، ونشرت مجلة «الصباح» هذا الخبر تحت عنوان «حفظ قضية إلا خمسة»، قائلة: كان يوم السبت الماضي موعد نظر الجنحة المباشرة التي رفعها بعض المحامين على الأستاذ نجيب الريحاني ووزارة الداخلية أمام محكمة الأزبكية الجزئية يطالبون فيها بتعويض مالي لاشتمال مسرحية «إلا خمسة» على عبارات خاصة بمهنة المحاماة والمحامين. وروت بعض الصحف أن هذه القضية نظرت أمام المحكمة في موعدها، وأن الأستاذ نجيب الريحاني اعتذر عما جاء في المسرحية المشار إليها وهذا يخالف الواقع تماماً والصحيح أن الأستاذين رافعي الدعوة تنازلا عنها أمام الأستاذ عبد الحميد عبد الحق محامي المدعى عليه وهذا التنازل أرسل للمحكمة قبل انعقاد الجلسة وبهذا انتهت القضية.
واختتمت الفرقة موسمها هذا بعرض مسرحية سابقة، حيث قالت جريدة «الأهرام»: نجيب الريحاني وفرقته يقدمون بمسرح ريتس من اليوم إلى الأحد 20 مايو رواية «الدنيا لما تضحك» مختتمين بها الموسم التمثيلي.


سيد علي إسماعيل