العدد 904 صدر بتاريخ 23ديسمبر2024
تيمة «الانتماء» أو «الوطنية» من أهم القيم التي نحن في أشد الحاجة إليها في زمن العولمة وتمييع الهوية، ومن السبل لتحقيق ذلك؛ العودة للتاريخ للتبصير به، ويعد المسرح من أفضل الوسائط التي يمكن الاستفادة منها في ذلك، وخاصة مع الأجيال الجديدة من الأطفال، شباب المستقبل الذي تنهض بهم الأمة، الأطفال الفئة الأهم والقاعدة الأكبر من السكان، والأكثر احتياجاً لبث روح الانتماء والوطنية في ظل عصر المواطنة عبر وسائط الفضاء الإلكتروني والفيس بوك، يحقق المسرح ذلك عبر تفاعل مباشر يتم خلال العروض المسرحية التي يلتقي فيها الطفل بشكل مباشر بأبطال العروض ويعايش أحداثها، ويتحقق التأثير المباشر الإيجابي عبر عروض تعمل على بث روح الوطنية والانتماء من خلال ما تقدمه من حكايات بسيطة واضحة الفكرة قريبة للطفل، تصل إليه بشكل سلس دون لبس لتحرك مشاعر المشاهدين من الأطفال تجاه الوطن.
****
ومثلما أن لمسرح الطفل مقومات ومواصفات تختلف عن مسرح الكبار، فإن لطبيعة شخصية صناع مسرح الطفل سمات خاصة حالما توافرت فيهم لاقى العرض قبولا لدى مشاهديه من الأطفال وكان النجاح حليفه، سمات ترتبط بروح شخصية الفنانين من عفوية وخفة ظل وبساطة وطفولية، إضافة إلى القرب من عالم الطفل وعدم التعالي عليه، بما ينعكس على العمل المسرحي ككل، وهو ما توافر لصناع عرض «الحلم حلاوة» بدء من الفنان المسرحي الشامل ياسر أبو العنين مؤلف النص أحد المبدعين المخلصين للمسرح، والذي لم يتعالى عليه أو يستعرض عليه ما لديه من معلومات، وإنما استوعب ما يريد توصيله وتحقيقه بسلاسة مع اتاحة المساحة للطفل لإطلاق خياله وفق شخصيته وحسبما يتفاعل مع العرض، نهاية بالفنانة والباحثة الشغوفة بالهوية المصرية «مي مهاب» مخرجة العرض وصاحبة فكرته وما تتسم به من حماس وجدية، مروراً بباقي فريق العمل الذي استعانت به ؛ الشاعر الموهوب «طارق علي»، الموسيقى المتمكن «د.هاني عبد الناصر»، مصمم الاستعراضات» مصطفى حجاج»، «فخري العزازي» الديكور والأزياء والعرائس، .. وقد دُعيت مؤخراً لمشاهدة عرضهم بقصر «الأمير طاز» وهو من إنتاج المسرح القومي للأطفال بقيادة الفنان القدير «عادل الكومي»، وهي الليلة رقم 37 من العرض الذي تم افتتاحه على مسرح متروبول أواخر يونيو الماضي.
(بعد الصلا ع الزين طه النبي المختار/ راح نحكي يا حلوين عن فارساً مغوار/ لا ترهبه الميادين/ ولا تهزمه الأخطار/ فارس عليه العين/ ويلفت الأنظار/ للمعركة خارج/ من باب فتوح مفتوح/ حب الوطن جواه/ زي الهوا والروح)
“الحلم حلاوة” تدور أحداثها حول (عروسة المولد وفارس الحصان) الحلاوة، أشهر لعب المولد والأكثر جذبا لمرتادي موالد مصر من الأطفال، تحمست مخرجتنا لفكرة تعريف الأطفال بأصل حكايتهما التي ترجع للدولة الفاطمية، فترة ولاية الخليفة «المستنصر بالله» على مصر، وكيف كانا سببا في انقاذ البلاد وحمايتها، إذ يأخذنا العرض منذ اللحظة الأولى مباشرة لأجواء المولد المملؤة بالبهجة عبر الموسيقى والغناء والاستعراض، وسريعا ما تضعنا أمام لقطة إنسانية لطفلة فقيرة لم تقدر بقروشها القليلة على شراء «عروسة المولد الحلاوة» وعلى إثر انتزاع بائع الحلوى للعروسة من يدها ودفعها، تسقط وتأخذها الغفوة، ليدخل بنا العرض من خلالها لـ»حلم» تلتقي فيه الطفلة «هالة» بالعروسة «الحلاوة» التي تتجسد أمامها في صورة عروسة بشرية كبيرة، هكذا بدأ العرض ولينتقل من الواقع إلى الحلم، ليضعنا سريعاً أمام حوار سلس بسيط بينهما، يتعرفا فيه على بعضهما، وتحاول العروسة التخفيف من حزن الطفلة، ليكن ذلك هو المدخل الأساسي الذي يتم الولوج من خلاله للحكاية التاريخية، إذ تحكي للطفلة حكايتها، وحتى تعايش الطفلة حكايتها وتعيش مشاعرها تتفق أن تستبدلا شخصيتهما لتعيش كل منهما في جسد الأخرى، لننتقل - داخل حلم الطفلة إلى حلم أخر داخل الحلم - إلى عصر الدولة الفاطمية عبر أجواء تاريخية في تسع مشاهد متتالية تتنقل فيها بين أروقة قصر الخليفة بين مقر عرشه، وغرفة الجواري، وبين حديقة القصر، وبين سوق المدينة، وبيت البستاني، ومغارة جماعة العصابة)، تعيش كل من هالة والعروسة حياة الأخرى، وكيف يعثر البستاني على العروسة «في جسد هالة» حيث لا ملجأ لها ويصحبها معه لبيته تعيش مع أولاده، وكيف وجدت حمامة «زاجل» تسقط بالحديقة وأثناء تضميدها لجراحها تعثر على رسالة بقدمها، تكشف عن مخطط يهدد أمن البلاد بسرقة أوراق هامة وخطط الحربية لقواتها، وكيف توصلها لهالة «في جسد العروسة» داخل القصر، والتي بدورها تلتقي بالفارس وتحيطه بما في الرسالة، وأن الطفلة التي عثرت عليها في خطر من الجماعة التي تهدد البلاد بالخطر، وليتمكن من انقاذها، والقاء القبض عليهم، ويرغب الخليفة مكافأة الفارس، فيطلب الفارس تزويجه من الجارية، فيوافق الخليفة ويأمر ببدء الأفراح للزفاف، ويتزامن هذا مع مناسبة المولد النبوي الشريف، ويتطوع أحد باعة الحلوى - تقديرا للعروسين ودورهما في انقاذ البلاد - بعمل تمثالين من الحلوى لكل منهما، يعرضان كل عام في مناسبة المولد تذكيرا بهما، ومع نهاية العرض يتلامس كل من العروسة وهالة ليعود كل منهما لشخصيته الحقيقية وإلى زمنه الطبيعي، لتستيقظ هالة من حلمها، لتجد بائع الحلوى الذي دفعها أرضا يراضيها ويهديها العروسة التي انتزعها منها لعدم قدرتها على شرائها.
لم يتح لي مشاهدة «الحلم حلاوة» على مسرح متروبول في عرضه الأولى، وأعتقد أن المخرجة «مي مهاب» استفادت من العرض بقصر «الأمير طاز» لتقدم مسرحيتها برؤية جديدة تعتمد على عبقرية المكان الذي ينتمي لزمن أحداث «الحلم» داخل المسرحية بما أضاف الكثير للعرض، وهذا بالإضافة إلى التنقل بالمشاهدين عبر أروقة القصر لتفقده بما يساعد على التعريف بواحد من أماكننا التراثية التي لا حصر لها بمصر، بما يعد دعوة للمسرحيين للاستفادة من أماكننا التراثية بشكل صحيح، ليس بالعرض داخلها فقط وانما الاستفادة منها بتوظيفها للعرض أو توظيف العرض لها، الأمر الذي يتفق وشعار الاستثمار في تراثنا الثقافي بتسليط الضوء عليه، وفتح تلك العروض للمصريين للتعرف عليه، وكذلك استثمار تلك العروض سياحيا بدعوة السياح لها.
وقد وُفِقَت المخرجة في اختيارات الأماكن داخل القصر لتتخذ منها لوكيشن لمشاهدها، تتنقل بنا بينها، وقد أصابت باختيار مدخل القصر للزمن المعاصر الذي تجرى به أحداث مشهدي الافتتاح ومشهد الختام، بينما الأحداث فترة التاريخ كانت بأماكن داخل القصر، أجواء العرض كانت ساحره بفعل المكان الذي ألقى بظلاله على الأحداث، وبفعل الموسيقى الرائعة والجمل اللحنية التي قام بتوزيعها «أحمد حامد» حيث نجحت في الجمع بين أجواء العرض ومتطلبات مسرح الطفل، بين التعبير عن الأجواء الروحية والتراثية وبين الأجواء المبهجة التي تتفق وعروض الطفل، كذلك توظيف الإيقاعات السريعة التي تواكب سرعة الأحداث وتحريك المشاهدين لملاحقتها. أما كلمات الأغاني فقد أكدت على امتلاك مؤلفها لناصية الكتابة لأغاني الأطفال حيث اتسمت بالمفردات السهلة القريبة للطفل وكذلك المفردات الشعبية المناسبة للحالة بشكل عام، مع الصياغة الدرامية المشوقة؛ (ست البنات مستنياه حسب الميعاد/ واقفة على الباب عينها بتدور عليه/ وفجأة بان فوق الحصان زينة الولاد/ وتعالوا بينا نشوف سوا .. هايجرى أيه).
وأرى أن الديكور لم يكن له وجوداً، ربما كان له دوراً أساسياً على المسرح، إلا أنه في قصر «الأمير طاز» بدا فقيرا لا يتناسب مع فخامة مكان العرض، نفس الشيء بالنسبة للإكسسوار، بينما الملابس والمكياج كانا جيدين، وأما عن التمثيل، فقد نجحت المخرجة «مي مهاب» في خلق حالة بين توليفة فريق التمثيل، إذ بدا ذلك على أجواء العرض بشكل عام، وقد تميز منه بشكل خاص الفنانة «إسراء حامد» التي جسدت شخصية العروسة حلاوة بما اتسمت به من سمات شخصية ومقومات تناسبت مع الدور، كذلك الفنان «أحمد غباشي» الذي قام بدور «الفارس» بما تميز به من قبول وحضور، ومعهما تألقت الطفلة الموهوبة بطلة العرض التي تستحق الثناء على آدائها «رودينا سامح» والتي قامت بدور الطفلة «هاله»، والطفل «اسامة محمد» سارق الثمرة، مع باقي فريق العرض (مجدي عبد الحليم، خوليو، اكرامي، دعاء حسام الدين، خالد نجيب، سامر المنياوي، احمد يحي، محمد شلقامي، سيف الاسلام ايمن، هاني سمير، ممدوح سالم، ياسمين علاء، علي عماد، عمر الرفاعي) والاطفال (محمد هشام، زياد محمد، بسمة السيد، اسيل محمد، ريماس وليد).
شاهد الجمهور العرض واقفاً، وتنقل معه يتابع مشاهده في أرجاء القصر المختلفة، وقد صحب ذلك حالة من تفاعلية الجمهور مع العرض، إذ يسارع لملاحقة المشاهد المتتالية أينما تجرى، متنقلاً من مشهد لآخر حرصًا منه ألا يفوته حدث من الأحداث، وهي حالة جديدة خلقها العرض، تبارى فيها المشاهدين الذين تتبدل أماكنهم مع كل مشهد بين مقدمة أو مكان متأخر.
«الحلم حلاوة» رؤية جمالية لعرض استعراضي غنائي خفيف الظل، قدم وجبة ثقافية بأسلوب سلس مناسب للأطفال، وهو رؤية فنية تنقلت بنا بين الزمان والمكان، قدم بين أروقة قصر «الأمير طاز» في سياحة تاريخية حيوية بالصوت والصورة، وهي تجربة ناجحة بكل المقاييس الأمر الذي نطرح معه سؤلاً ؛ لماذا لا تقدم عروضاً على نفس هذا النهج؟، لماذا لا تكون هناك فرقة نوعية تابعة للبيت الفني للمسرح تقدم عروضا تستثمر ما تتسم به الأماكن التراثية، وذلك من خلال انتاج مشترك بين كل من وزارتي الثقافة والسياحة تهتم بتقديم أعمال مصرية ذات صبغة تاريخية تؤكد على هويتنا وفي ذات الوقت تعمل على الترويج السياحي للأماكن التراثية؟.