نجيب الريحاني .. مات !!

نجيب الريحاني .. مات !!

العدد 904 صدر بتاريخ 23ديسمبر2024

مات نجيب الريحاني في الثامن من يونية عام 1949، ونشرت أغلب الصحف والمجلات خبر الوفاة في اليوم التالي، ومنها جريدة «البلاغ» التي قالت تحت عنوان «قضى الرجل الذي أضحك الملايين أربعين سنة .. نجيب الريحاني يغيبه الموت»:
كانت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني قد سافرت في نهاية الشهر الماضي إلى مدينة الإسكندرية لإحياء عدة حفلات. وكانت نيّة الأستاذ نجيب الريحاني متجهة إلى السفر إلى أوروبا، لعرض نفسه على الأطباء الأخصائيين في القلب وفي أمراض الصدر، حتى إذا ما انتهى من الاستشارات الطبية، قصد إلى أحد البلدان الصحية، للاستجمام والراحة استعداداً للموسم القادم. ولهذا رفض عرضاً لإقامة موسم تمثيلي صيفي في الإسكندرية في شهري يوليو وأغسطس، كان سيربح منه ما يقرب من أربعة آلاف جنيه تقريباً. فقد تقدم إليه أحد المتعهدين وطلب منه تمثيل ستين حفلة بأجر قدره مائة جنيه للحفلة الواحدة. وأن يدفع للفرقة قبل قيامها من القاهرة مبلغ ألف جنيه مقدماً. وإذا لاحظنا أن مصاريف الفرقة في هذين الشهرين ألفا جينه - وهي في الواقع أقل من هذا - تبين لنا أن مقدار ما كان سيربحه الأستاذ نجيب الريحاني في هذا الاتفاق هو أربعة آلاف جنيه، ولكنه رفض كما كان معتزماً إعادة المبلغ المقدم الذي تسلمه من شركة أفلام أنور وجدي نظير قيامة بالتمثيل في فيلم سينمائي تخرجه الشركة في شهر يوليو القادم. وفي أثناء وجوده في الإسكندرية، تناول طعام الغداء في المكس، وكان يحتوي على سمك من جميع أنواعه، ويظهر أنه كان فاسداً .. وفى الوقت نفسه كان نجيب لا يزال متأثراً من النزلة الشعبية التي كانت قد أصابته قبل هذه الرحلة، بل أن أثرها كان لا يزال في صدره. إذ أنه ما كاد يعمل في جو الإسكندرية وبالمجهود المعروف عنه، حتى عادت إليه النزلة من جديد. وفى الوقت نفسه لعب السمك الفاسد في جسمه فأصيب بالتيفويد، ونقل إلى المستشفى اليوناني، وما كاد الأستاذ أنور يعرف هذا حتى وجه كبيراً في وزارة الداخلية بأن يخاطب الوزارة للاتصال بالسفارة المصرية بلندن لشراء الدواء الجديد «كولوتسين»، الذي اُكتشف حديثاً لمعالجة التيفويد، وإرساله بطريق الجو، ولكن القدر عاجلة فكان أسرع من الدواء، وكان أسرع من أمل الأطباء إذ لم يلبث القلب أن تأثر من شدة الحمى، وصعدت روح فقيد فن التمثيل إلى بارئها بعد ظهر أمس. وقد نيّف الأستاذ الريحاني على الستين من عمره، ومع ذلك فقد كان يبدو لي روح الشباب وفي نشاطه وخسارته خسارة فن التمثيل، من غير شك، فلم تنجب مصر ولا البلاد الشرقية مثل نجيب الريحاني، لا في النصف الأخير من القرن الماضي، ولا فيما مرّ من القرن العشرين، ولا نعتقد أن في مثيلاً له! وبموته سيقبر فن الكوميدي الأخلاقي في مصر! إن مصر قد فقدت بفقد نجيب الريحاني عماداً من عمد الفن، وزعيماً من زعمائه ولا سبيل إلى تعويضه. ومن عجائب القدر .. أن الأستاذ أنور وجدي – لم يكن - قد انتهى من تصوير فيلم «غزل البنات» لأنه لا يزال أمامه تسجيل قطعة غنائية للأستاذ عبد الوهاب وتصويرها. ولتصوير هذه القطعة لا بد أن يصور المأسوف عليه نجيب الريحاني وهو يستمع إلى القطعة ويطرب لها ويعجب بها. ولكن الأستاذ أنور وجدي أراد أن يبرهن على أن قلب المؤمن دليله فصوّر نجيب وهو يستمع إلى القطعة ويطرب لها ويعجب بها .. صوره أنور قبل أن تُسجل الأغنية أو تصور!! وانتهت حياة نجيب الريحاني بعد أن انتهى من تصوير آخر مشهد من فيلم غزل البنات.
ووصفت جريدة «المقطم» مراسم جنازة فقيد الفن نجيب الريحاني، قائلة تحت عنوان «نجيب الريحاني في دوره الأخير .. ما هو ميت ولكنه بشاشة جيل محاها الزمن»: نعم لم يشيع الناس أمس جثمان ميت حي، حين احتشدوا ألوفاً مؤلفة لتشييع جنازة المرحوم نجيب الريحاني، ولكنهم شيعوا بشاشة جيل كما قال شوقي عليه رحمه الله: بشاشة جيل بأسرة شيعت أمس .. وهي بشاشة عزّ نظيرها في الوجود. وهيهات أن يجود الزمن بمثل نجيب ليبحث من جديد هذه البشاشة النادرة التي اتسمت بها مسرحياته، وامتاز بها فنه الرفيع. وقد تجلت عظمة الفنان بأسمى معانيها في جنازة الريحاني، وصورت هذه الجنازة الرهيبة الوعي القومي في مصر بمثل ما كانت تصور مسرحياته ألوان الحياة الاجتماعية فيها، فأحتشد لشهودها طوائف الشعب على اختلاف طبقاته، وازدحمت الشرفات وسطوح المنازل والطرقات على الجانبين بخلائق لا عدد لها، فأعادت جنازة نجيب الريحاني إلى الأذهان ذكرى جنازات زعماء مصر السياسيين من أمثال سعد زغلول وويصا واصف من بناة نهضة مصر الحديثة. ولا غرو فنجيب الريحاني زعيم نال بفنه الرفيع مكانة في قلوب الشعب. وقد تفضل جلالة الملك المعظم فأضفى على الفن تقديره الساعي بإيفاد مندوب عن جلالته لتشييع جنازة الفقيد. ولم تتسع قواعد كنيسة السريان الكاثوليك لجموع الحاضرين فازدحمت بهم أبهاؤها وطرقاتها وأفناؤها واضطر الذين لم يمكنهم الزحام من الدخول إلى الوقوف في خارجها، ولحد انتهاء مراسم الصلاة الدينية على جثمان الفقيد. حُمل النعش إلى المركبة وقضى حاملو النعش أكثر من نصف ساعة في قطع المسافة من الهيكل إلى المركبة أمام الكنيسة، وهى مسافة تقطع عادة في دقيقتين وقد تعطل المرور في حي الظاهر لشدة الزحام، ثم سار النعش في المركبة إلى السرادق الذي أقيم أمام محطة كوبري الليمون، مخترقاً شارع المكة نازلي في موج أخر من الناس. وفي السرادق احتشد مئات من كبار المعزيين من شتى الطوائف، بينهم كثيرون من الشيوخ ومن النواب والكبراء والصحافيين والممثلين وغيرهم. وألقى الأستاذ نجيب هواويني بك أبياتاً مؤثرة في رثاء الفقيد. وكان يستقبل المعزين في السرادق حضرات الأستاذ جورج أبيض بك، والأستاذ يوسف وهبي بك، والأستاذ أنور وجدي، والأستاذ سراج منير، وأعضاء فرقة الريحاني، وجلس في السرادق كثيرات من الممثلات بينهم السيدة بديعة مصابني. وفي الساعة 5,30 وصل إلى السرادق صاحب العزة إكرام سيف النصر بك مندوب جلالة مولانا الملك المعظم، فبدأ سير موكب الجنازة وتقدم مركبة النعش حملة أعلام الفرق التمثيلية وحاملو بساط الرحمة، وخلفها جماهير المشيعين. وقد كان ميدان باب الحديد على سعته غاصاً بألوف الخلائق من شتى الطبقات. وسار الموكب من شارع إبراهيم باشا إلى ميدان الأوبرا بين عشرات الألوف من الناس على الجانبين، وفي النوافذ وشرفات المنازل وسطوحها وكان الجميع يعزي بعضهم بعضاً في هذا المصاب الجلل، ويذرفون سخين الدمع حزناً على الذي طالما أبكاهم من الضحك والفرح. فكان هذا المشهد الرهيب خير عنوان على مدى الوعي القومي في مصر، وعلى مدى تقدير الجمهور المصري للفن ورجاله. وفي ميدان الأوبرا تقبل كبار رجال الفن تعازي المعزين ثم استأنف موكب الجنازة سيره، يتبعه رتل طويل جداً من السيارات إلى مقابر السريان الكاثوليك بفم الخليج، حيث ورى الفقيد التراب مأسوفاً عليه من الجميع بعين الحسرات والزفرات. تغمد الله الفقيد العظيم بواسع رحمته وعزى الجميع عن فقده عزاء جميلاً وألهم زملاءه ومحبيه الصبر والسلوان.

«الخاتمة»
أخيراً انتهيت من مشوار الريحاني الذي استغرق ما يقرب من عامين .. كل أسبوع مقالة، فقد نشرت «96» مقالة، «19» حول مذكرات الريحاني المجهولة والحقيقية التي نشرها الريحاني بنفسه أثناء حياته عام 1938، والتي لم يجمعها أو ينشرها أحد من قبل!! أما المقالات الـ«77» فكانت حول تاريخ مسرح الريحاني بتفاصيله المجهولة!! وهنا أعود بك عزيزي القارئ إلى أول مقالة نشرتها حول المذكرات، أو أول مقالة نشرتها حول تفاصيل مسرح الريحاني المجهولة، ستقرأ في هاتين المقالتين أنني نشرت مقالة في جريدة «المساء» يوم 5/12/2022 عنوانها «إلى الفنان نجيب الريحاني .. سامحني أنا السبب!!»، اختتمتها بقولي: «كل ما هو مكتوب ومعروف حتى الآن عن نجيب الريحاني من: مذكرات ومقالات وأفلام ومسلسلات .. يُمثل 20% فقط من التاريخ الحقيقي والمجهول عن نجيب الريحاني والذي لا يعرف تفاصيله أحد حتى الآن! وعندما شاهدت حلقات المسلسل الأخير عن الريحاني، شعرت بتأنيب الضمير تجاه الفنان نجيب الريحاني، ووجهت إلى روحه هذه الكلمة تحت عنوان «إلى الفنان نجيب الريحاني .. سامحني أنا السبب» .. لماذا؟! لأن الـ80% من تفاصيل تاريخك أمانة في عنقي، وسينشرها «جبرتي المسرح العربي» يوماً ما ليعرف الجميع التاريخ المسرحي الحقيقي والمجهول لنجيب الريحاني!!
وقلت أيضاً إنني سأتحدث عن تاريخ مسرح الريحاني بعيداً عن مذكراته، وبعيداً عن كل ما كتبه السابقون عن الريحاني ومسرحه!! وكل دوري سيتمثل في ركوب «عجلة الزمن» لأعود بها إلى الماضي في زمن مسرح الريحاني من عام 1908 إلى 1949 لأتتبع خطواته المسرحية وعروضه المسرحية .. عرضاً عرضاً، معتمداً على مصدرين لا ثالث لهما «الوثائق والدوريات»، وذلك وفقاً لمشروعي في التأريخ ومنهجي في التوثيق!! مما يعني أن أغلب – إن لم يكن كل - ما سأذكره في هذه الحلقات يُعدّ جديداً – بمشيئة الله – وله وثيقة ومرجعية علمية!!
وها أنا قد أوفيت بوعدي ونشرت مذكرات الريحاني المجهولة، وكذلك نشرت تفاصيل تاريخ مسرحه، أي نشرت الـ«80%» التي وعدت بها القُراء!! وأظن المتابع لما كتبته على قناعة «الآن» بأنه قرأ ما لم يقرأه من قبل سواء في المذكرات أو في تاريخ المسرح .. ويجب أن أنهي هذا المشوار بتقديم الشكر إلى الزميلة الفاضلة الدكتورة «حورية حسان» بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة حلوان، التي اتصلت بي تليفونياً في صباح أحد أيام إذاعة المسلسل الأخير عن نجيب الريحاني، لتسألني رأيي في المسلسل، فاعتذرت لها لأنني لم أتابعه! فردت عليّ قائلة: لا يجوز يا دكتور .. أنت جبرتي المسرح فمن غيرك نسأله عن تاريخ الريحاني الذي يُعرض في المسلسل، بصورة غير مقبولة!! فوعدتها بأنني سأتابع وأبلغها رأيي!! وعندما بدأت أتابع المسلسل وجدته في الحلقات الأخيرة، فاستعنت بالإنترنت وكنت أشاهد خمس حلقات كل يوم حتى أنهيته في أيام معدودة .. وحزنت حزناً شديداً لأن كل حدث كنت أشاهده كان عندي ما يعضده أو ينفيه أو يخالفه أو يكمله أو يفسره من خلال الوثائق والدوريات التي أملك صورة منها!! وفي اليوم الأخير مع الحلقة الأخيرة للمسلسل كتبت مقالتي - السابق الإشارة إليها – وهي المقالة التي اهتم بها الإعلام وتحدث عنها، ودفعني الجميع لكتابة المجهول عن الريحاني في مذكراته ومسرحه، وبالفعل تحمست وما كنت أتخيل أن ما لدي سيُنشر في «96» مقالة، كل مقالة حوالي «1800» كلمة!! أي أن ما نشرته في هذه المقالات «172000» كلمة .. أي مجلدات ضخمة عن تفاصيل دقيقة حول مذكرات الريحاني ومسرحه، لم تُنشر من قبل وتُعدّ مجهولة في عمومها .. أتمنى أن تُجمع وتُنشر .. يوماً ما في كتب!!


سيد علي إسماعيل