العدد 905 صدر بتاريخ 30ديسمبر2024
ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته الأربعين. دورة الدكتورة (سميرة محسن) قُدم عرض (ضيق تنفس) تأليف (محمد السوري)، إخراج (محمود عبدالرازق). الذي يناقش طبيعة الإنسان وسط تقدم التكنولوجيا وسيطرة الرأسمالية، وسعي الإنسان في تطوير الحياة إلا أن نسي الحياة نفسها. فما الذي يحدث لو الأشياء التي لها قيمة لدى الإنسان أصبحت سلعة تخضعها الرأسمالية مثل النفس والمشاعر والأحاسيس؟.
من خلال منظر مسرحي مبهم وملابس غير واقعية، نعرف أن أحداث العرض تدور في المستقبل البعيد من خلال الحوار وإيماءات الممثلين (المايم) وكأن أمامهم لوحات إلكترونية، يتضح أننا في عصر التكنولوجيا يسيطر عليه الذكاء الاصطناعي (Ai).
فيبدأ العرض بإجتماع في شركة تسمى «الهواء والتنفس» عملها الرئيسي ومكسبها من باقات التنفس لأنه أكثر الأشياء التي يستخدمها الإنسان، تشبه في وقتنا الحالي شركات الإتصالات، ولكن الأمر متطور؛ فتصبح مشاعر الإنسان مثل الحب أو الكره والتنفس...إلخ، هي طبيعة عمل الشركة، فتقدم باقات مرتبطة بوعي الإنسان من خلال شريحة متصلة بعقله، كل شخص لديه رصيد يتم شحنه، والمشاعر لديها وحداتها الخاصة إذا نفذت يتم خصم الرصيد من النفس الذي به وحدات إلى أن ينفذ الرصيد وبالتالي ينفذ النفس ويموت بضيق تنفس. فمن يملك رصيد هو الذي يعيش.
فيطرح العرض تجريد الإنسان من مشاعره وأحاسيسه لكي يستطع أن يعيش، فزوجة المدير ماتت بسبب ضيق تنفس لأن رصيدها نفذ على الرغم أنها زوجة مدير الشركة، إلى أنه لم يستطيع إنقاذها، لأنه اكتشف بعد وفاتها أنها كانت تكذب عليه وتملك مشاعر، فضيعت رصيدها على اشياء ليس لها قيمة -في عالم العرض- مثل الضحك والبكاء. فالمشاعر في هذا العالم لا محل لها من الإعراب من وجهة نظر المدير وكذلك المجتمع، وهذه زوجة مدير الشركة نفسه فماذا يكون الأمر مع عامة الناس؟!. فالهواء الهبة الربانية التي وهبها الله للإنسان أصبحت سلعة تحت ما يسمى التطور! والبحث عن حياة أفضل الشعار الذي تتخذه الشركة.
فالمدرس (محمود عبدالرازق) تم فصله من العمل، وكل من لا يملك عمل يعني أن رصيده هينفذ وسوف يموت قريبا، فيعيش مع والدته برصيد واحد، لا يستطيعان حتي أن يهونوا على بعضهم بسبب ما يقاسوه في الحياة لعدم توافر رصيد، لدرجة أنه لم يقوم الإبن بإحتضان أمه طوال حياته سوى ثلاث مرات فقط.!، فيتم خصم من الأم النفس لاستخدامها مشاعر إتجاه إبنها، ولعدم توافر رصيد لخصمه من باقات المشاعر. ولأنهم يعيشون على نفس الجهاز فستموت الأم حتما، فيحاول الإبن أن يلجأ للمهندس (محمود بكر) ليحاول مساعدته فيرفض، ولأن الموت في هذا العالم شيء عادي ومألوف، ولا يوجد ما يجعل الإنسان يعيش على رأي الأم (الحياة ما بقاش ليها طعم زي ماكان)، فتطلب من الإبن أن لا يبكي من أجل ألا يخصموا منه رصيد، إلى أن ماتت. فكيف لإنسان أن يكتم مشاعره وأمه تحتضر بين يديه عاجز عن فعل شيء!.
فكيف لا يستطيع الإنسان أن يأخذ أدنى حقه عندما يموت شخص عزيزا عليه خصوصا لو كانت الأم أن يصرخ ويبكي ويفرغ جميع مشاعره نتيجة ذلك الألم، لكن في هذا العالم الجديد لا تستعجب فالموت أصبح شيئا عاديا، كل يوم الأشخاص تموت بضيق التنفس، ولا يوجد من يساعدها، ففي الماضي -وقتنا الحالي- الإنسان كان يأكل وينام ويتنفس بشكل طبيعي بدون رصيد، إلى أن أصبح الإنسان يحتاج تصريح من أجل ان يتنفس أو يحس.
المهندس زوجته ماتت ايضا بضيق تنفس، يعمل بالشركة، يعيش في صراع نفسي فهو غير راضي عن الوضع وفي الوقت نفسه يخشى أن يساعد الناس أو أخذ موقف خوفا على نفسهِ وطفلته، فيوهم الجميع أن طفلته لديها إعاقة ولا تستطيع التحدث ليمنعها من دخول المدرسة حتى تكون إنسانة، فاليوم الإنسان فقد إنسانيته، فالمهندس هو الوحيد الذي يملك كتابا به أثار الماضي، والكتاب في هذا المجتمع غير مألوف كذلك الموسيقى والرقص كلها اشياء غير متعارف عليها في هذا الزمان، حتى الإنسان تم تجريده من اسمه الذي يميزه وينادى برقمه الخاص فما الفرق إذا بين الإنسان والألة (الروبوت)؟!.
فالروبوت في هذا المجتمع لا تستطيع أن تفرقه بين الإنسان، فالعاملة (نيللي الشرقاوي) التي تعيش مع المهندس حالة حب وتحاول أن تساعده لإعادة التنفس للناس، نكتشف أنها روبوت، حتى المهندس نفسه رغم ذكائه لا يعلم إلا في النهاية، فهي تبكي وتحب مثلنا تماما، فأثناء حديثها مع النموذج الخاص بها؛ نعلم أن نسختها تم تزويدها بالمشاعر والأحاسيس، وبعض من الصفات الإنسانية كالكدب والخداع والخوف والاحتياج والحب لذلك وقعت في حب المهندس. وكذلك العامل (محمد يسري) ذلك الروبوت الذي يصارع الإنسان على السلطة فلا يكتفي بكونه روبوت عامل، فما الذي يميز المدير(الإنسان) عنه، فلا يوجد إنسان قادر على قيادة مجموعة من البشر بدون أي خسائر لأنه بكل بساطة إنسان لذلك تم صناعة الروبوت لإحتياج الإنسان لهم ولا يستطيع الإستغناء عنهم، فلماذا إذاً لا يصبح العامل المدير؟!، فالإنسان لديه مشاعر وأحاسيس تؤثر على قراراته أما الروبوت -مثل العامل- يمتلك الذكاء والحياة العملية الاكثر تقدم ونفعا لهذا المجتمع.
فيكشف العامل خطة المهندس في خرق أجهزة الحماية للشركة، وأن المهندس لم يخدع شركة الهواء والتنفس فحسب بل خدع السيستم بشكل عام بسبب كذبه حيال إعاقة طفلته لكي لا تدخل المدرسة، فيتم فصل المهندس. والمهندس فعل ذلك لأنه حس بمعناة الناس ولكن في هذا المجتمع لا بد أن لا تحس كي تستطيع العيش، فالإنسان الغير مفيد والعالة على المجتمع سوف يتم رميه إلى أن يموت فلا يوجد مكان سوى للإنسان الذي سيفيد المستقبل. فأين هذا الإنسان؟!
فالروبوت كشف ما لم يستطع الإنسان كشفه (المدير) وبالتالي تم فصل المدير بسبب تقصيره في العمل فيصبح العامل/الروبوت هو المسؤول. وفصل ومنع أي إنسان من العمل في الشركة، بسبب المرض المتفشي داخل الإنسان المتمثل في المشاعر التي تعطل عجلة الإنتاج. ومنع انتاج أي نموذج ألي يحمل أي مشاعر لأن العالم لا يحتاج لمشاعر بل يحتاج لرصيد.
وفكرة المؤسسة أو المدرسة تندرج تحت مسمى أجهزة الدولة الإيديولوجية التي تحدث عنها (التوسير) وأثرها في بنية المجتمع، وكذلك ثنائية السلطة والمعرفة لدى (ميشيل فوكو)، فتلك الأجهزة تعمل على خلق جسد طيع يتم تشكيله وفقا لمعايير محددة حسب توجهات تلك السلطة، فيصبح الشخص مراقب، إذا خرج عن الإطار المرسوم له يعاقب...
فالشركة أو المدرسة التى تمثل أجهزة الرأسمالية التي تسيطر على هذا العالم، تسير على ذلك النهج فالجميع يرتدي شرائح. وعندما خرج المدرس خارج المنهج من خلال حديثه مع الطلاب أن في وقت ما في الماضي كان يعيش فيه الإنسان وليس من يملك رصيد من أجل أن يعيش، فتم فصله إلى أن مات، وكذلك العاملة فنسختها غير مسموح لها بالتصريح أنها روبوت، وعندما خالفت ذلك فقدت نسختها وذكرياتها. والمهندس الذي لقى حتفه حين حاول التمرد والثورة، فهو يدرك ما تفعله المدرسة لذلك يرفض إدخال ابنته، فهناك يتم ذرع شريحة في الإنسان وتجريده من مشاعره وأحاسيسه لتطويعه لذلك النظام وتشكيله حسب توجهاته.
ونسمع في النهاية مع إبنة المهندس التي ترفض أن تكرر شعار هذا النظام -بعد أن تم تعليق لها شريحة- «العمل الطاعة المستقبل» وتكرر الجمل التي علمها لها والدها « حب مزيكا رقص». ليدلل العرض أن رغم كل ذلك هناك أمل من خلال هذه الطفلة التي قد تستكمل وتسير على خطى والدها.
وظف المخرج (محمود عبدالرازق) جميع عناصر العرض لكي تتوافق مع الحالة الشعورية للقضية الإنسانية وتركيز المتلقي معها، فقام بتجريد تلك العناصر بما فيهم الزمان والمكان؛ فالمسألة إنسانية لا تخص دولة بعينها. فجاء ديكور (نورهان حسام) معبراً عن عالم ال (Ai)، بالإضافة إلى أماكن الأحداث المختلفة، حيث في مركز عمق المسرح في مستوى أعلى من باقي الأماكن مقر ومكتب الشركة، و وجودها في المركز يخدم دراما العرض؛ لأنه الذي يتحكم في هذا العالم. ويوجد مجموعة من المقاعد يحمل مقعد المدير مستوى أعلى مما يدل على السلطة والسيطرة وهو ما سيفعله العامل بإبعاد المدير عن الكرسي وسيطر هو عليه ليصبح هو المدير والمتحكم.
على يمين المكتب منزل المدرس ووالدته، وعلى اليسار غرفة إبنة المهندس، وعلى جانبي أقصى مقدمة المسرح بانوهان لمكان الحمام الذي يسمح بتفريغ المشاعر فيه ثلاث دقائق فقط، بالإضافة إلى باب دخول بيت المهندس، ومنتصف الخشبة يأخذ داخل المنزل ومرة أخرى مكان خدمة عملاء الشركة، بإستخدام بعض الموتيفات التي تدل على مكان الأحداث المختلفة.
وساعدت إضاءة (عبدالله صابر) في توضيح أماكن العرض المختلفة من خلال تركيز البؤر على مكان الحدث وإظلام الباقي، بالإضافة إلى إستخدامها في اللحظات الخاصة للشخصيات. كما لعبت المؤثرات الصوتية دورا هاما في خلق حالة وجو هذا العالم، وكانت جزء رئيسي من دراما العرض.
ربما أراد المخرج التركيز على إيصال رسالة العمل بشكل يشبه حياتنا اليومية، فالأداء التمثيلي هو حلقة الوصل بين رسالة العمل والمتلقي وهو ما وفق فيها المخرج فالشخصيات رغم البعد الزمني إلى أنها تشبهنا، وكان كل ممثل في مكانه، وجعل المتلقي في كثير من اللحظات الدرامية متوحدا معها.
فقد أجادت (نور عصمت) في تقديم دور الأم وحنيتها وإيثارها، كما أنها برعت في مشهد الموت دون تصنع والذي أثر بشكل كبير في المتلقي، وذلك لا يخلو من ثنائيتها مع الابن (محمود عبد الرازق) المدرس الذي شعرنا معه بمأساة الشخصية وتحولاتها المختلفة، وكذلك (محمود بكر) في دور المهندس الذي وعي بكر بتفاصيلها وتحولاتها فهو دائما في صراع، فمرة نجده الأب الحنون ومرة أخرى قاسي خوفاً على مصلحة طفلته، بجانب رغبته في مساعدة الناس وفي الوقت نفسه يخشى أن يفقد طفلته، وتارة أخرى ذاك العاشق الرومانسي.
وكانت الطفلة الجميلة (سواف) تمتلك موهبة وحضور جميل، و (نيلي الشرقاوي) في دور العاملة الذي لم يشعر المتلقي أنها روبوت بسبب إتقان نيلي في توصيل مشاعر الشخصية للمتلقي إلى أن يصطدم ويكتشف أنها روبوت، فنسختها تم تزويدها بالمشاعر والأحاسيس وبعض الصفات الإنسانية، أما (محمد يسري) فقد برع في تقديم دور العامل فجعلنا نشعر بحالة من الريبة هل هو روبوت أم إنسان، فنجح في المزج بينهم فظهر لنا بهذه الشخصية. فالروبوت هنا صورة منعكسة للإنسان عندما تم تجريده من مشاعره. فها هو المدير (أمير عبدالواحد) لا فرق بينه وبين الروبوت فهو لا يملك مشاعر رغم إنسانيته، ونجح أمير في تقديم الشخصية، الذي يتفق في وجهة النظر؛ أن الإنسان حياته ستكون أفضل عندما لا يشعر.
عرض «ضيق تنفس» هو دعوة للتأمل في طبيعة الإنسانية فنحن نشاهد اليوم يومياً مئات الأرواح تموت أمام أعين الجميع ولا يتحرك أحد، فمتى يصبح الإنسان مجرد رقم؟ يتم تجريده من مشاعره فلا يحدث فرقا إذاً بين الإنسان والألة، فعندما قام العامل/الروبوت بإبعاد المدير/الإنسان من كرسي الحكم ليكون هو المدير والمسيطر فكلاهما مرآة للأخر لأنهم مجردين من المشاعر والروبوت ماهو إلا صورة للإنسان الذي تم تجريده من مشاعره.
فنحن أمام عالم لا يعتمد على المشاعر بل يعتمد على الرصيد .. عالم لا نعيشه اليوم بالشكل الحرفي.. ربما قد نعيشه غداً أو بعد غد... فإذا نفذ رصيدك نفذت حياتك.