المسرح الإفريقي.. من الإرهاصات الفنية إلى التأسيس (1-3)

المسرح الإفريقي..   من الإرهاصات الفنية إلى التأسيس (1-3)

العدد 905 صدر بتاريخ 30ديسمبر2024

تزخر القارة الأفريقية بوجود عدد كبير من الأدباء الذين حققوا شهرة عالمية، واقتربوا من منصات التتويج في كثير من الجوائز الدولية، مثل جائزة نوبل التي حصل عليها  المصري نجيب محفوظ وول سونيكا من نيجيريا، ونادين جورديمر، وج.م كويتزي من جنوب إفريقيا، وهناك عدد آخر ظل على قوائم ترشيح الجائزة الكبرى لسنوات طويلة مثل الروائي الصومالي نور الدين فارح والروائي النيجيري «بن أوكري»، والأديب الكيني «نجوجي واثيونج» الذي يعد من المنظرين لأدب ما بعد الاستعمار، ومن الكتاب الأفرو- أمريكيين، وينشر مؤلفاته باللغة المحلية الكينية، وكذلك باللغة الإنجليزية.
برغم المعاناة التي عاشتها القارة كثيرا بسبب الاستعمار الطويل، وبسبب قضايا التفرقة العنصرية فإن أدباء القارة استطاعوا أن يكونوا صوت بيئاتهم المحلية، وعبروا بشكل كبير عن الواقع المرير الذي يعيشه مواطنوها، وكذلك استطاعوا من خلال رواياتهم وقصصهم وأشعارهم ومسرحياتهم أن يرسموا نقاطا مضيئة للمستقبل، وقد استفاد هؤلاء الأدباء من اللغات المحلية، وكذلك من اللغات الوافدة وهي الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، ما جعل كثيرا من كتاباتهم تخترق الحدود الجغرافية لتصل إلى آفاق عالمية أكثر رحابة
ويتميز المسرح الأفريقي بعدة سمات
أولها: انحيازه للبيئة المحلية، فنجد المفردات اليومية داخل النصوص المسرحية  أيضا، حيث الأحراش والغابات والصحاري الممتدة.
ثانيا: الانحياز إلى قضايا إنسانية بالغة الدقة، ومنها قضايا المواطنة، والتفرقة العنصرية، ويظهر ذلك في كتابات عدد من أدباء القارة أمثال وول سونيكا.
تنتمي كثير من العروض الأولى في المسرح الإفريقي إلى ما يسمي بالمسرح الطقسي، نظرا لطبيعة المكان وما يتعلق به من روافد ثقافية مؤسسة تقوم على الأساطير والخرافة والعادات اليومية والطقوس الدينية والشعائرية. 
الواقع هو الحاضنة الأولى للفن والإبداع، والفن هو ثمرة كل نشاط إنساني نابع من البيئة ومعبر عنها، أو موصل لتقاليدها، فالشعر والمسرح  _على سبيل المثال _ والموسيقى كلها ظواهر ثقافية، لأنها تعبر عن الطبيعة. وهذا أيضا ينطبق على جميع الفنون في بلاد العالم المختلفة
والفن هو المحرك الأساسي للفعل الإنساني، فمقياس تحضر الأمم ورقيها مرتبط بتقدمها الفني والثقافي، وهذا ما تشهد به المدنية الحديثة فالأمم المتقدمة في عالمنا هي التي استطاعت أن تأخذ بمعطيات الفن والثقافة في كافة جوانبها الإنسانية والعلمية.
 العلاقة ما بين الثقافة والفن والواقع هي علاقة تكامل فالفن هو لغة الوجدان، والثقافة لغة العقل، وكلاهما مرتبط  بضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها . والواقع هو الفضاء الذي تتشكل فيه الأحداث والوقائع التي تؤثر بالتالي على الرؤية الفنية للإنسان.
 يقول “أرنست فشر” وهو من أبرز نقاد الفن الاجتماعيين في العصر الراهن” إن عمر الفن يوشك أن يكون هو عمر الإنسان” .
 ويذكر “هربرت ريد” “أن الفن محاولة لابتكار أشياء وأشكال سارة للبصر والبصيرة وهذه الأشكال تقوم بإشباع إحساسنا بالجمال .. ويحدث هذا الإشباع خصوصاً حينماً نكون قادرين على الوحدة والتألف والتناسق وهندسة الكون حولنا»  أما الكاتب الفرنسي “أندريه جيد” فيرى أن الفن الذي يبدعه الإنسان يجب دراسته بوصفه موضوعاً للخبرة الجمالية، وإذا كانت الثقافة هي فعل عقلي في الأساس تنظيراً وتلقياً، فالفن يخضع إلى معايير معرفية وتحليلية وعقلية ووجدانية وحدسية ، ولكنها لا تخضع للتجريب المعملي أو الشكل أو الإطار الرياضي للوعي بها ، وقد ظل عموم الناس ولزمن طويل ينظرون إلى النخبة من المبدعين ، على أنهم يتمتعون بقدرات خارقة تميزهم عن سائر البشر قد لا يمتلكون من هذه القدرات الخاصة شيئاً .
 والقيمة الجمالية ـ على حد تعبير الناقد الراحل د. عز الدين إسماعيل  “ خبرة اكتسبها الإنسان من خلال الممارسة الطويلة ، وقد جاءت تالية للقيمة النفعية ، ولذلك فمن حقنا أن نستكشف في أعمال البدائيين الفنية بعض القيم الجمالية” (1)  
والفنان الأفريقي هو ابن الصحراء والفضاءات الممتدة والغابات ويحمل سمات البدوية والفطرية، وتربى على الفراغ الصحراوي والجبال، تمتع بقيمة اللون الزاهي رغم ظروف مناخ البيئة القاسي، فبعد امتلاكه للبيوت المستقرة نراه يندفع في تعويض نقص لديه لا شعوري.
وقد بدأ المسرح الإفريقي يتبلور في ثمانينيات القرن التاسع عشر، مواكبا للنهضة المسرحية في مصر والتي بدأت في الظهور في تلك الفترة تقريبا على يد القباني ويعقوب صنوع وغيرهما.
وقد وضع الحجر الأساسي للمسرحية الأفريقية في مدينة لاجوس في الثمانينيات من القرن التاسع عشر على يد الصفوة المختارة في المجموعة الأفريقية المتفرنجة.
وقد جاء التأثير الديني واضحا، فتأثرت العروض الأولى بالعادات الاجتماعية والثقافة الإفريقية الشعبية المتوارثة.
وقد تكونت روابط الممثلين ونوادي الهواة الاجتماعية الذين أخذوا يؤدون أدوارا في القصص الغنائي والمسرحيات الغنائية والتمثيليات مقابل أجر مدفوع من النظارة(2)
وقد تشجعت المدارس الدينية المسيحية على إقامة حفلات مسرحية تقدم فيها العروض، بل إن احدى الكنائس لجأت في عام 1943 إلى هوبرت أوجندي بتأليف صلاة غنائية لاحتفالها بمناسبة عيد الفصح. وقد حقق هذا العرض نجاحا كبيرا مما جعل هربرت يؤسس فرقة مسرحية خاصة به أسماها (الفرقة العازفة)، والتي كان لها فروع في كل من غانا وتوجو، كما نشطت فرق مسرحية أخرى أسسها مسرحيون كبار في المسرح الأفريقي أمثال كولا أوجنمولا ولابيدرو الذي قدم في الستينيات تجربة رائدة.
وأطلق على هذه التجارب اسم “أوبرا” لأنها كانت تتضمن فنونا مختلفة من الرقص والغناء، وكانت تصحبها فرقة موسيقية، ويشارك في الأداء مجموعة من المغنين، وتختتم العروض عادة بصعود الراوي على خشبة المسرح ليعرض الحكمة المقصودة من العرض، مستعينا بتقنيات المسرح التعليمي في الأداء.
كما أن جمهور هذه العروض كان حريصا على التفاعل المباشر والمشاركة فيها بحيث لو أعجبهم الأداء التمثيلي ومضمون العرض يصعدون على خشبة المسرح ويلصقون النقود على جباه الممثلين تحية لهم وتقديرا وتعبيرا عن إعجابهم بما قدموه.
وقد كان للمدارس الفرنسية في الغرب الإفريقي دور مهم في تنمية الوعي الفني خاصة في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، وكانت عروض المسرح المدرسي في تلك الفترة تقوم على جمع مادة من المحيط الاجتماعي بواسطة الطلاب ثم تجرى مسرحتها بشكل تقليدي وتقدم في مسرحيات قصيرة من فصل واحد أو على شكل اسكتشات، ويتم عرضها على الجمهور، وكان من أهم نتاج هذه المدارس ظهور جيل من المسرحيين الذين أسهموا في تأسيس الحركة المسرحية في غرب إفريقيا وعلى رأسهم برناد دادي الذي شارك مع آخرين في تأسيس المسرح الوطني في ساحل العاج، ومن هؤلاء أيضا باكاري تراوري صاحب أول كتاب عن المسرح الإفريقي وهو “المسرح الإفريقي الزنجي”.
وبعد ذلك ظهر توجه بإنشاء الفرق المسرحية خاصة من قبل خريجي الجامعات المهتمين بالمسرح ودراسته، خاصة الذين تربوا على المسرح في المدارس، وتشكل وعيهم الفني في مراحل مبكرة.

الهوامش:
1- د. عز الدين إسماعيل : الفن والإنسان ـ مكتبة الأسرة ـ القاهرة 2003 .
2- من المسرح الأفريقي- ترجمة د. علي حجاج- سلسلة من المسرح العالمي- الكويت- 1996- ص9.


عيد عبد الحليم