العدد 906 صدر بتاريخ 6يناير2025
ارتبط المسرح الإفريقي في بداياته بالأساطير والخرافة والحكايات الشعبية، وجاء في إطار فني قريب من فكرة مسرح السامر، حيث كان يعرض في الأماكن المفتوحة، بحيث يشارك الجمهور في صياغة الحكاية التي يمكن أن تقدم في العرض الذي كان –عادة ما يكون- عبارة عن فقرات راقصة مع سرد لحكاية شعبية أو أسطورة مرتبطة بطقس ديني تعليمي، أو تحتوي على عظة أو قيمة أخلاقية، ومن أشهر الأساطير التي كانت تقدم أسطورة «السمكة البكاءة» وهي أسطورة سنغالية معروفة خاصة لدى قبيلة البيل والتي كان يؤديها راوي شعبي، يتوسط حلقة من الجمهور، وحولهم ظلال لنيران موقدة بالحطب وتصاحبه قيثارة للعزف الشجي بالإضافة لوجود مجموعة من الراقصين الذين يقومون بالأداء الحركي المصاحب للحكي وللعزف.
وتدور أحداث الحكاية الأسطورية حول فتاة اسمها بندا جميلة للغاية تتزوج من فتى تحبه ويوم زفافها توصيها أمها قائلة لها: إياك أن تظهري أمام زوجك عارية، ويتم الزواج، وذات يوم ذهبت بندا للحقل بالغداء لزوجها وكان مشغولا ببعض أعماله، فوقفت أمام النهر فرأتها الطيور فراحت تغرد لجمالها ولحسنها الفتان، وفجأة خلعت بندا ملابسها ونزلت لتعوم في النهر وعندما خرجت وحاولت اتداء ملابسها وجدت زوجها واقفا مذهولا من جمالها، لكنها خجلت من نفسها لأنها لم تحافظ على وصية أمها فألقت نفسها في المياه وتحولت إلى سمكة ذات نهدين جميلين بعد أن دعت إله الماء أن يصيرها سمكة تسبح في النهر حتى تمحو عارها، فيستجيب لها، ومن يومها صارت أسطورة مقدسة عن شعب البيل، يستحضرون ذكراها وقصتها في لحظات سمرهم.
ومن الناحية الفنية كان الراوي أثناء سرده لأحداث الأسطورة يقوم بعمل أداء حركي يتناسب مع كل حدث، فيمثل كيف غنت الطيور لها ما يشبه الكونشيرتو، ويحرك يده كذلك بما يشبه حالة التضرع عند توسلها لإله الماء بأن يصيرها سمكة بكاءة معبرة عن خطيئتها في تكسير كلام والدتها.
وفي أثناء ذلك كانت النايات والمزامير والطبول تلعب دورا مصاحبا في أحداث العرض.
زمن ناحية الديكور والسينوغرافيا نجد أن المسرح الإفريقي في بداياته كان مسرحا طبيعيا، يعتمد على الخامات البيئية الموجودة حتى الملابس كان هي نفسها الملابس التي يرتديها الممثلون في حياتهم العادية وفق الزي المحلي، والحكايات التي تقدم هي نتاج البيئة المحلية كذلك.
ويختلف المسرح الإفريقي عن بقية الأشكال المسرحية الأخرى، أن الصراع فيه صراع مجتمعي أخلاقي بين البشر، وليس مسرحا يقدم الصراع بين الآلهة كما كان في بدايات المسرح اليوناني مثلا، كما كان الغرض منه هو التسرية عن النفس والترفيه وليس التنافس كما كان في المسرح اليوناني والذي كانت تقام له مسابقة سنوية احتفالا بأعياد دينسوس في بدايات فصل الربيع من كل عام.
ومن ضمن الأشكال الدرامية التي كانت تقدم في المسرح الإفريقي القديم الشكل الإنشادي ذو النزعة الملحمية، نرى ذلك عند قبائل البامبارا في الغرب والذين كانوا يسمون هذا النوع المسرحي بشدو الطير.
وتميزت تجارب المسرح الإفريقي في شكلها البدائي بسمة أساسية وهي الاعتماد على الفكرة الجماعية والأداء الجماعي في الدراما نظرا لطبيعة تركيبة المواطن الإفريقي فهو مواطن اجتماعي بطبعه يعمل وفق منظومة جماعية متكاملة لا تقترب كثيرا من البعد الفردي، ولذلك جاءت الدراما معبرة عن هذا الجانب.
كما كان المسرح الإفريقي في العصور القديمة وحتى نهاية القرن التاسع عشر يطيل في الحوار، ويسمح للشخصيات أن تنفلت على هواها، فقد كان يستجيب لجمهوره الذي كان يحب الفصاحة والفصحاء على خشبة المسرح.
من هنا يمكننا القول: أن المسرح الإفريقي في تجلياته الأولى كان يستمد طاقة حضوره من الإدراك البصري والسمعي، مستخدما تقنية مهمة وهي كيفية التوصل إلى حالة من المشاركة الوجدانية للجمهور مع العرض المقدم، «فالجمهور-وفق تعبير هيلين فرايشواتر-: في تلك الحالة لايرى بعينيه ولكن برئتيه، ولا يسمع بأذنيه ولكن بجلده».
وظل المسرح الإفريقي على سجيته الأولى يستقي مصادره من الثقافة الشعبية المحلية حتى مجيء الاستعمار للقارة والذي حاول وفق طبيعة المحتل أن يغير من الأنماط الثقافية المعبرة عن الهوية ويطمسها ليجعل المواطنين أصحاب ثقافة تابعة تعمل وفق ما يره المستعمر من خلال طمس الهويات الوطنية.
من هنا كان للإرساليات الثقافية والدينية دور كبير في محاولة إبعاد المسرح الإفريقي عن روافده الأولى وعن مصادره الشعبية خاصة في المناطق المحتلة من قبل بريطانيا وفرنسا، والتي بدأن في تغليب لغتها وأشكالها الفنية، في النصف الأول من القرن العشرين، حيث بدأت تظهر مسرحيات من خلال مدارس الإرساليات تقدم أشكالا من المسرح مستقاة من المسرحيين الإنجليزي والفرنسي، وظهرت تجارب مسرحية ذات بعد تعليمي ديني في إطار التبشير بالمسيحية، كما حدث في مدرسة «وليم بونتي» في مدينة سان لوي بالسنغال، والتي قام برنامجها الثقافي على تدريب الطلاب على فنون الأداء، وحثهم على عملية التأليف الدرامي، في قلب مسرحي أشبه بالمسرح الفرنسي.
ومن هنا كانت بدايات الوجود للنص المسرحي المكتوب في الوسط والجنوب الإفريقي في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي ومن خلال الورش الجماعية التي كانت تقيمها مدرسة بونتي لطلابها.
وحفلت هذه المدرسة بمجموعة من الطلاب من الأقاليم المختلفة من النيجر والسنغال وبنين، وكان أول عروضها عام 1932، واقتصر الأداء التمثيلي على الذكور حتى في الأدوار النسائية كان يؤديها الذكور، واستمر ذلك حتى عام 1937 حيث دخلت الفتيات مجال التمثيل فتم الاستعانة بهن رغم أنهن من مدارس مجاورة لمدرسة بونتي التي كانت الدراسة فيها مقتصرة على الذكور.
وزاد من شهرة هذه المدرسة مشاركتها في عروض قدمت على مسرح الشانزليزيه بباريس عام 1937 ومنها عرض «سوكاميه»، وهو عرض قائم على تقديم أسطورة إفريقية قديمة بطلتها فتاة وقع عليها الاختيار لتكون قربانا لإله المياه، وهي قصة أشبه بقصة عروس النيل عند المصريين القدماء.
وقدمت هذه المدرسة تجربة رائدة في المسرح الإفريقي المعاصر، نظرا لأن نشاطها الفني استمر حتى عام 1947، فقدمت عشرات المسرحيات، والأكثر من ذلك أنه تخرج منها عدد كبير ممن أصبحوا –بعد ذلك- رواد المسرح الإفريقي الحديث أمثال هربرت ضلمو من جنوب إفريقيا، والذي قدمته المدرسة في أهم تجاربه المسرحية وهو مسرحية «الفتاة التي قتلت لتنقذ»، وهي مزيج من الأسطورة والحكاية الشعبية والعرض الموسيقي، وإن جاءت في إطار رومانتيكي يقوم على قصة حب تقليدية عن فتى وفتاة، على الرغم من أن الفتاة تأتي في صورة فتاة مناضلة تسعى لتحرير بلدها من الاستعمار وبذلك تريد تحقيق ذاتها وتحخقيق الحرية لوطنها.
وتميزت المسرحية أنها جمعت ما بين البعد التاريخي باستلهام الأسطورة وكذلك محاكاة الواقع، وأعتقد أن ذلك كان بداية للكتاب المسرحيين الأفارقة أن يفتحوا مغاليق الغرائب من الأحداث، ليدخلوا إلى عوالم الدهشة التي تمتاز بها المسرحيات المنحازة إلى القصة التاريخية أو الأسطورية.
وهذا ما رأيناه بشكل متطور –بعد ذلك- لدى مجموعة من الكتاب في نيجريا والسنغال وبنين وغانا والذين طورا الكتابة في هذا الجانب بحيث تم تكثيف الحوار لصالح الفعل المسرحي على الخشبة، وتقديم رؤى أكثر تطورا في التقنيات المسرحية بشكل عام على مستوى الكتابة ومستوى العرض المسرحي.