النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(15) كاتب مسرحى لا يُحبط!

النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(15) كاتب مسرحى لا يُحبط!

العدد 919 صدر بتاريخ 7أبريل2025

والله العظيم لا أعرفه! ولم أسمع اسمه من قبل! ولم أقرأ عنه نهائيًا! وعندما سألت، قالوا: هو لم يكتب مسرحًا مطلقًا! إنه «فلان الفلانى» - وعذرًا لأننى أخفيت اسمه احترامًا له لو كان حيًا أو ميتًا لأسباب فنية ستظهر فيما بعد – وهو مهندس زراعى بمجلس مدينة شربين، والمقيم بالألف شربين دقهلية! هكذا كان يكتب على «نصوصه المسرحية» عام 1985!! نعم عزيزى القارئ نصوصه المسرحية.. أنت قرأت العبارة بصورة صحيحة، وأكيد تعجبت منها، وتريد أن تسألنى: كيف لا تعرفه، ولم تسمع عنه، وقيل لك إنه لم يكتب مسرحًا، ورغم ذلك تقول «نصوصه المسرحية»!! فهل هو كاتب مسرحى؟! الحقيقة إننى لا أملك إجابة قاطعة على هذا السؤال، لكنى أملك نصوصًا مسرحية مكتوبة بالآلة الكاتبة وعليها اسمه، ومرفق بها تقارير رقابية رسمية، كتبها رقباء رسميين أو نقاد سريين، تثبت أن لهذا الكاتب ست مسرحيات، كتبها فى عامى 1985 و1986، وإليك تفاصيل الموضوع:
النص رقم «516» مكتوب على ملفه: “مسرحية «المنحرفون» تأليف «فلان» مهندس زراعى بمجلس مدينة شربين، ومقيم بالأف شربين دقهلية”. ولا يوجد أية بيانات أخرى مثل اسم المخرج أو اسم الفرقة أو اسم المسرح.. إلخ، مما يعنى أن المؤلف تقدم بالنص إلى الرقابة من أجل الترخيص بتمثيله باسمه بوصفه المؤلف. ولعله أراد أن يوفر على الرقباء عناء القراءة، فكتب ملخصًا - للمسرحية فى أول صفحة - عنوانه «ملخص ما تضمنته مسرحية (المنحرفون)»، قال فيه: “تحكى قصة انحراف متعددة الألوان ورفض يترك الريف ليعذبه رئيس العصابة فيعذبه بالأكل والشرب ليعد منه رجلًا نشالًا ويعرض لنا عدة طرق من النشل وما يترتب عنه فى المجتمع عسى يتعظ كل من يمشى فى ذلك الطريق وهذا بالفصل الأول كما ينقل لنا الفصل الثانى طريق انحرافى آخر وهو جلب المخدرات وتوزيعها بنفس العصابة التى تغير معالمها كل مدة ويكون الريفى ضحية ثانية الذى أغراه كل مرة أخرى رئيس العصابة وعودة على الأكل الفاضى والسهرات والشرب وقام فى الفصل الثانى فعلًا بنقل عدة شنط مليئة بالممنوعات وعند ضياع شنطة أى فى نهاية الفصل الثانى يضربه رئيس العصابة حذنا على الشنطة ويطرده ويتسلمه البوليس بالفصل الثالث لينقل لنا كفاءة الحزم بالمباحث والبوليس فى طريقه القبض على المتهم والوصول إلى رأس العصابة وحماية المجتمع من المنحرفون كما ينقل سبب الانحراف ولحظة ندم نحن فى احتياج إليها دائمًا».
هذا هو ملخص المسرحية نقلته كما كتبه المؤلف بما فيه من أخطاء كثيرة ومتنوعة! وفى الملف وجدت تقارير الرقابة، الأول كتبته الرقيبة «راضية سيد» وذكرت فيه رأيها، قائلة: “المسرحية تدور أحداثها من خلال تصرفات عصابة للسرقة وعصابة للمخدرات، ويتفاخر أفرادها بأنهم استطاعوا خديعة البوليس والمخبرين وأظهروهم بأنهم سُذج. كما وأن أفراد العصابة لا إحساس لهم يسرقون وينهبون بلا ضمير مع توضيح طرق السرقة. وفى النهاية يبررون الانحراف ويعرضون النصيحة. المسرحية مستواها هابط.. سرد لكيفية السرقة وتجارة المخدرات التى تضر بالشباب والمجتمع لذا أرى رفضها لما عُرض فى الصفحات: الفصل الأول 3، 4، 5، 6، 7، الفصل الثانى 1، 3، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11 الفصل الثالث 1، 3، 4، 5».
أما الرقيبة «ماجدة أحمد أحمد الشيخ» فأنهت تقريرها برأى قالت فيه: “أرفض هذه المسرحية، ليس بها حوار مسرحى، بل جُمل متراصة جنبًا إلى جنب، ليس بها أى معنى، تفاهة النص وضعفه وغير مترابط”. ورغم رفض الرقيبتين إلا أن الرقيب الثالث والأخير وافق على النص، وهو الرقيب «عادل عبد العزيز سالم»، الذى قال: “هذا الموضوع يمس جانبًا من الجوانب السيئة فى المجتمع، وهو الانحراف مثل السرقة وقد يكون هذا الانحراف لأسباب مدبرة دفعته لأن يقوم به. وينهى المؤلف مسرحيته بالندم وارتكاب الذنب الذى ارتكبه المنحرف. والمؤلف هنا يثير هذه القضية لعله يلفت نظر المنحرفين لنهايتهم ونتائج ارتكابهم الكثير من الجرائم. فلا مانع من الترخيص بهذه المسرحية مع الحذف من صفحة 3”.
اطلع مدير الرقابة على تقارير الرقباء الثلاثة، وقرأ بنفسه النص وكتب تقريرًا نهائيًا اختتمه برأى قال فيه: “المسرحية أسلوبها مُغرق فى العامية لدرجة تجعل قراءتها عملية تعذيب كما أنها تشمل عملية تجميع لما يمكن أن نسميه حكايات ونكت متداولة. عمومًا النص يمكن الترخيص به مع الملاحظات بالصفحات المرقمة”. وبالفعل نال النص ترخيصًا رقم «212» بتاريخ 6/11/1985، وجاء فيه الآتى موقعًا من المدير العام «نعيمة حمدي»: «لا مانع الترخيص بأداء هذه المسرحية «المنحرفون» لمؤلفها السيد «فلان» على أن يراعى الآتي: أولًا إخطار الرقابة بمكان وميعاد العرض، ثانيًا تنفيذ الحذف المُشار إليه فى الصفحات 3 فصل أول، 1، 5 فصل ثان، 1، 3، 4، 5 فصل ثالث. ثالثًا حفظ الآداب العامة فى الأداء والحركات والملابس. رابعًا إخطار الرقابة بموعدى التجربة النهائية والعرض الأول من المسرحية حتى يتسنى بعد مشاهدتها النظر فى الترخيص بصفة نهائية”.
واضح أن مسرحية «المنحرفون» كانت المسرحية الأولى للمؤلف، وكنت أظنها الأخيرة أيضًا بناء على رأى النقاد السريين من الرقباء، لا سيما أن المسرحية لم تُمثل ولم تُعرض حسب ظنى. الغريب أن المؤلف لم ييأس وبعد أسبوعين تقدم إلى الرقابة بمسرحية جديدة اسمها «البخيل الذى بموته ابتسمت الوجوه» ومن الواضح أن الرقابة أرادت أن تلقنه درسًا بحيث لا يكتب مسرحيات مرة أخرى!! فالنص غير موجود، والموجود نص آخر بعنوان «السعد وعد» - رقمه «276» - علمت من وثائقه أن الرقباء جلسوا مع المؤلف وطالبوه بتعديلات لإجازة النص! وبالفعل عدّل المؤلف نصه، وكتبه بعنوان آخر هو «السعد وعد»»، وأرفق به صفحة أولى بها ملخص المسرحية – كما فعل فى النص السابق - حتى يوفر على الرقباء عناء قراءة النص والاكتفاء بالملخص.. هكذا أظن! لذلك سأنقل هذا الملخص بكل ما فيه من أخطاء أسلوبية ونحوية وإملائية وكلمات وجمل وتعابير عامية! وفيه يقول المؤلف:
«ففى الفصل الأول، ينقل عوض بين أخوين الأول بخيل متعنت والثانى يريد إنهاءه وتوجيهه للصح فلا يستجيب البخيل لأخيه فيقاطعه ويترك له المكان كما ينقل لنا احتكاك بين البخيل وشحات لنرى خبايا البخل والشحاتة بإبراز تعنت البخيل وثروات الشحات وطرق التمثيل من الشحاتين لأخذ ما يريدونه من أى شخص بالتخدير التمثيلى كما ينقل لنا ثلاث أغانى اثنتين تأثرًا بالبخل والثالثة مواجهة أسرة البخيل ذلك الانحراف بالابتسامة بعد التقتير فى نعم الله الموجودة طبيعى كالضحك والابتسامة والبكاء بل بلع الريق الربانى يمنعها كما ينقل غضب البخيل من كفيف محتاج مساعدة وينتهى الفصل الأول بمواجهة أسرة البخيل ذلك المسلك المسيء بأغنية لجلب الابتسامة. أما الفصل الثانى، فيزداد تعنت ممدوح البخيل فينتج عن ذلك إصابة ابنه الوحيد بالهستيريا وبالرغم من ذلك لا يتعظ يظل منحرفًا فى مسلكه كما ينقل لنا عدة احتكاكات ضيافة لإبراز خبابا البخل بالحوار والأغنية كما ينقل لنا عدة انحرافات تدل على الطمع والنظر الغير سليم للحياة والعديد من الأخطاء المختلفة نتيجة الاحتكاك وإظهار علاجها بالحوار البناء العلمى كما يظل بطلًا لاستقبال وبث كل ما يدور بين البخيل الذى يطمع فيه أخيه وأصدقاء طفولته وكل من يسمع عن ثراء وهو لازال متعنت فى مسلكه كالشجرة الجرداء تؤذى ولا تفيد. أما فى الفصل الثالث فيحدث حوار بين أسرة ممدوح يبين أن ممدوح ميت لأنه يدون أحاسيس وما زال يتمسك برأيه على أنه صح ويحدث احتكاك بين رجل يريد زواج بنته فيرفضه حتى لا يغرم قرش واحد وأى حاجة تجيب سيرة الفلوس يقضى عليها فقد قضى على سنة الله ورفض الزواج ويحدث نتيجة ذلك طلاق زوجته والتى تقف فى وجهه لأول مرة لتعلن أنها شريكته فى ابنتها وتخرج طليقة. ولا يتعظ وتقف له بنته هيا الأخرى وبرده مفيش فايدة ثم يأتى مسكين على الله يريد مساعدة فيجد أن ممدوح هو المحتاج للمساعدة فيحدث بينهم حوار يؤدى فى النهاية لوفاة ممدوح ويأتى رجل ذو قيم ومبادئ بدرجة مدير عنده 35 سنة غير طامع ليفاجئ أن ربنا أسعده ودى جذات الاستقامة أن بجناين وطواحين وأرض زراعية تركها البخيل الذى ظلم نفسه ومات محروم من تعبه ليفوز به من عمل من أجله ليردد آخر كلمة «السعد وعد»».
كتبت الرقيبة «تيسير حامد بدر» تقريرًا للنص، قالت فيه: “فكرة المسرحية: ممدوح رجل بخيل يقتر فى المصروف على نفسه وعلى زوجته وأولاده، له منطق غريب فى معاملة الناس وإنفاق النقود. يضغط على أولاده وزوجته لينهجوا منهجه فى الحياة. يقاطع شقيقه لأنه ينصحه بالاعتدال ويسيء معاملة ابنه لأنه يبذر فى الضحك فيؤدى به إلى الجنون يكرهه جميع الجيران والأقارب ويعارض فى زواج ابنته، ويطلق زوجته لأنها تطلب منه تزويج الابنة. يحضر شحات ويعظه ويتبين له أن منظره مزر ويحتاج لمساعدة فيقع ميتًا. تفرح الزوجة والابنة ويعود الابن من المستشفى وتتزوج الابنة من العريس ويعيش الجميع فى سلام. «الرأي»: أسلوب المسرحية ركيك. وعرض الفكرة غير منطقى بالمرة وغير عملى لا يعقلها الإنسان، وبها غلطات إملائية شنيعة. كما أن الجمل غير واضحة وغير مفهومة. والحوار ينقصه الحبكة والترابط. ولم ينجح الكاتب فى التعبير عن فكرة المسرحية، ولذلك أرى عدم الترخيص بعرض هذه المسرحية”.
أما الرقيب «كمال سعد طه» فقد قرأ النص وفهم الموضوع وكتب عنه ملخصًا مفهومًا، قال فيه: “تدور أحداث هذه المسرحية حول ممدوح الأب الذى سلك طريق من طرق البخلاء والذى تعالى فى بخله أكثر من اللازم لدرجة التقتير فى النعم الربانية الممنوحة من الخالق كالضحك والبكاء وبلع الريق والتحية والمحادثة مع الناس بجانب جمعه للمال والزملاء وبالتالى يخسر حب الناس وحب أخيه الذى كان يريد أن يوجهه للصح والاعتدال وعدم البخل فلا يستجيب ممدوح البخيل لأخيه فيقاطعه ويترك له المكان، وذلت يوم يطرق أحد الشحاتين باب ممدوح البخيل من أجل السؤال والحاجة فنشاهد احتكاك بين البخيل والشحات لنرى خبايا البخل والشحاتة بإبراز تعنت البخيل وثروات الشحات وطرق التمثيل من الشحاتين لأخذ ما يريدون من أى شخص بالتخدير التمثيلى، ويزداد تعنت ممدوح البخيل فينتج عن ذلك إصابة ابنه الوحيد بالهستريا بالرغم من ذلك لا يتعظ ويظل منحرفًا فى سلوكه، وتنقل لنا المسرحية عدة احتكاكات للضيافة لإبراز خبايا البخل، وتذهب له أخته من أجل اقتراض مبلغ من المال لكنها تشترى لها فيلا وأيضًا تجهيز ابنها وذلك طمعًا فى ثروات أخيها، وأيضًا نجد صديق طفولته يأتى لمنزل ممدوح من أجل المال وطمعًا فى ثروته أيضًا، ولكن ممدوح يرفض مساعدتهم ويتمسك ببخله ويظل متعنتًا فى مسلكه، فالشجرة الجرداء تؤذى ولا تتغير. ويدور حوار بين أسرة ممدوح يبين أن ممدوح ميت لأنه دون أحاسيس وما زال يتمسك برأيه على أنه صح ويحدث احتكاك بينه وبين رجل يريد زواج بنته فيرفض حتى لا يغرم فى تجهيزها فقد قضى عل كل شيء محتاج منه للمال من أجل الإنفاق عليه، فيرفض زواج بنته ويحدث نتيجة ذلك طلاق زوجته والتى تقف فى وجهه لأول مرة لتعلن أنها شريكته فى ابنتها وتخرج طليقة ولا يتعظ، وتقف له ابنته هى الأخرى دون فائدة، ثم يأتى مسكين على الله يريد مساعدة فيجد أن ممدوح هو المحتاج للمساعدة فيحدث بينهم حوار يؤدى فى النهاية لوفاة ممدوح ويأتى رجل ذو قيم ومبادئ بدرجة مدير غير طامع ليفاجئ أن ربنا أسعده، وهذا جزاء الاستقامة بجناين وطواحين وأرض زراعية تركها البخيل الذى ظلم نفسه ومات محرومًا من تعبه ليفوز به من عمل من أجله ليردد آخر كلمة «السعد وعد»».
واختتم الرقيب تقريره برأى قال فيه: “مسرحية اجتماعية تشير إلى أن صفة البخل من الصفات السيئة فهم البخيل أن يجمع المال والأملاك بغض النظر عن الحياة الطبيعية وحرمانه فيها. فالبخيل يجمع المال آملًا فى الخلود، لكنه يفارق الحياة دون الاستفادة منه ليستفيد بذلك الخير شخص آخر مستقيم لا يعرف الجمود. ولا مانع من التصريح بتأدية هذه المسرحية بعد حذف الأجزاء المشار إليها فى الصفحات التالية رقم 7، 32”.
وأمام هذا التضارب بين الرقيبين، كتب المدير تقريرًا نهائيًا، عرفنا منه أن الرقابة استدعت المؤلف عندما قدّم النص لأول مرة، وأوضحت له كيف يكتب مسرحية! فأعاد الكتابة وقدم النص مرة أخرى، وهو النص الذى بين أيدينا، والذى تناقض حوله الرقيبان! لذلك كتب المدير فى تقريره: “أرى أن إعادة معالجة النص والمناقشات مع المؤلف فى طريقة كتابة مسرحية قد بدأت تؤتى ثمارها، والمسرحية لا تنطبق عليها شروط المنع رغم ضعف المؤلف إلا أنه بدأ يتحسن. لذا أرى الموافقة على ترخيص نص مسرحية «السعد وعد» بدون ملاحظات”. وهذا التقرير مهم جدًا، كونه يبين لنا أن الرقابة ليست ضد المؤلف باستمرار – كما نظن – بل من الممكن أن تكون مساندة له! والأهم من ذلك أن المدير يقرّ بأن المسرحية لا ينطبق عليها شروط المنع!! وهى الشروط التى لا يعلمها الجميع، بل لا يعلمها الرقباء أنفسهم – كما هو واضح فى تقاريرهم - وبناءً على ذلك نالت المسرحية ترخيصًا بتمثيلها باسم المؤلف تحت رقم «219» يوم 19/11/1985. والعجب كل العجب أن المؤلف – بعد شهر ونصف الشهر – تقدم إلى الرقابة بنص مسرحى جديد، حيث إنه مؤلف مسرحى لا يُحبط!


سيد علي إسماعيل