حين يختنق الأوبريت .. صرخة لإنقاذ (البالون)

حين يختنق الأوبريت .. صرخة لإنقاذ (البالون)

العدد 921 صدر بتاريخ 21أبريل2025

فى زمن تستعيد فيه الشعوب ذاكرتها المسرحية وتعود فيه الفنون الحية لتتربع على عرش التعبير الثقافى، يواجه المسرح الغنائى فى مصر أزمة تهدد بطمس ملامحه. فبينما تتجه الأنظار عالميًا إلى المسرح كوسيلة حيوية وضرورية للتعبير، تعانى بعض المؤسسات المسرحية فى مصر من حالة جمود مقلقة.
الأزمة لم تعد فقط فى التمويل أو نقص الموارد، بل فى الرؤية الغائبة، وخلط الأدوار والوظائف داخل الكيانات الثقافية. إذ باتت بعض المسارح تُستخدم بطرق لا تتسق مع هويتها الفنية التى أُسست من أجلها، ما يجعلنا أمام أزمة تتجاوز حدود الخشبة إلى عمق الفكرة والرسالة.
المسرح ليس مجرد مكان للعرض، بل هو ذاكرة الأمة، مرآتها الثقافية، ومساحة التعبير الحر عن قضاياها وهمومها. لكننا اليوم أمام مشهد مقلق؛ أحد أبرز المسارح المتخصصة فى تقديم الأوبريت والمسرح الغنائى يعانى من تراجع فى النشاط، وابتعاد تدريجى عن دوره الذى أنشئ من أجله.

فلسفة التأسيس.. وهوية لا يجوز التنازل عنها
تأسس البيت الفنى للفنون الشعبية والاستعراضية – الذى يتبع له مسرح البالون – على أساس تقديم المسرحيات الغنائية والأوبريت، كفن لا يُمكن الاستغناء عنه لندرته وخصوصيته، إضافةً لإحياء وتقديم التراث الغنائى والاستعراضى من خلال فرق متخصصة فى الرقص والغناء مثل: «رضا»، «القومية»، «أنغام الشباب»، و»الموسيقى الشعبية».
ليس هناك مسرح آخر يختص بهذا النوع الفنى فى مصر، ما يمنح مسرح البالون أهمية استثنائية فى حفظ هذا التراث وتطويره. أى تحوّل عن هذا المسار هو بمثابة إفراغ للمكان من روحه، وطمس لهوية ثقافية متجذرة.

عندما كان البالون قبلة للفنون
على خشبة البالون، قُدمت حفلات غنائية كبرى لكبار نجوم الغناء المصرى والعربى. كما استُضيفت عليه مهرجانات فنية ومسرحية بارزة مثل: المهرجان التجريبى، المهرجان القومى، مهرجانات الثقافة الجماهيرية، ومهرجان «آفاق» لهواة المسرح.
وكان جمهور الفرق الشعبية، مثل «رضا» و»القومية»، يرتبط بعروضهما الاستعراضية الموسمية التى حققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا. وقدمت فرقة «أنغام الشباب» عددًا من الحفلات الناجحة، بينما أبدعت الفرقة الغنائية الاستعراضية فى عروض مثل:
«ملك الشحاتين»، «ليلة من ألف ليلة»، «العشرة الطيبة»، «مجلس العنطزة»، «الخديوي»، «أحلام ياسمين»، «سيرة حب».
كما أبدعت فرقة «تحت 18» فى عروض الأطفال مثل: «شطورة»، «أراجوز للبيع»، «قميص السعادة»، و»أليس فى بلاد العجائب»، والتى حققت أعلى إيرادات فى تاريخ البالون عامى 2018 و2019.
شارك فى إخراج هذه العروض كبار المخرجين: فؤاد الجزايرلى، سعد أردش، زكى طليمات، جلال الشرقاوى، كرم مطاوع، مراد منير، ناصر عبد المنعم، عصام السيد وغيرهم. واعتلى خشبته نجوم كبار: صفاء أبو لسعود، أحمد زكى، عزت العلايلى، سميحة أيوب، عبد المنعم مدبولى، آثار الحكيم، محمد الحلو، محمود الجندى، يونس شلبى، صلاح منصور، أمينة رزق، شيرين، المنتصر بالله وغيرهم.
كما تولى رئاسة هذا القطاع عدد من الرموز الفنية الكبرى مثل: سعد أردش، محمود رضا، أحمد زكى، عبد الغفار عودة، عبدالرحمن الشافعى، هانى مطاوع، خالد جلال، عصام السيد، هشام عطوة، عادل عبده وغيرهم.

من منبر مسرحى متكامل إلى منصة غنائية فقط؟
لم يكن مسرح البالون مجرد خشبة عروض، بل مركزًا حيويًا للفنون الشعبية والمسرح الغنائى والاستعراضى. على مدار تاريخه، احتضن أوبريتات ومسرحيات غنائية ضخمة شكّلت جزءًا مهمًا من الوجدان الفنى المصرى، وشهدت إقبالًا جماهيريًا واسعًا.
اليوم، يلاحظ المتابعون تراجعًا ملحوظًا فى حجم ونوعية الإنتاج المسرحى على خشبته. تتجه السياسات الثقافية الحالية إلى تقليص هذا الدور وتزايد استخدامه فى إقامة حفلات غنائية ومناسبات غير مسرحية، إن هذا الاستخدام المتزايد له فى الفعاليات الغنائية التى تُقام بمعزل عن الإنتاج المسرحى الحقيقى قد يؤثر على رسالته المسرحية المتكاملة.
هذا التوجه يطرح تساؤلات حول مستقبل البالون، ويثير المخاوف من طمس طابعه المسرحى المتكامل.

قاعة صلاح جاهين.. من حلم التجريب إلى شاشة السينما
المفارقة أن التراجع لم يقتصر على المسرح الكبير فقط، بل طال قاعة «صلاح جاهين» الملحقة به، والتى كانت تحتضن العروض التجريبية والصغيرة، وتشكل متنفسًا لشباب المسرحيين فى ظل ندرة المساحات المخصصة للعرض المسرحى.
قدمت هذه القاعة عروضًا ناجحة نالت جوائز فى المهرجانات المختلفة مثل عرض «التغريبة». إلا أنه تم مؤخرًا تحويلها إلى قاعة عرض سينمائى. فى هذا التحول إشارة خطيرة إلى خلط غير مدروس بين الفنون، وإقصاء ممنهج للمسرح من ساحته الأصلية لصالح فن آخر.
هذا القرار يتجاهل خصوصية المسرح كفن حى يقوم على التفاعل المباشر مع الجمهور، ويبدو غير منطقى فى مدينة تكتظ بعشرات دور السينما التى لا تعانى من نقص فى القاعات، بعكس حال المسرح الذى يفتقر لمساحاته.

تراجع الإنتاج المسرحى.. أزمة هوية أم تغييب مقصود؟
ما يشهده مسرح البالون اليوم لا يمكن فصله عن تحولات أوسع تطال المشهد المسرحى فى مصر. فالتوقف شبه الكامل للعروض المسرحية الغنائية والاستعراضية يثير القلق حول مسار تتراجع فيه الخصوصية الفنية لصالح أنماط أخرى من الفنون.
هذا التراجع لا يقل خطورة عن الرقابة أو ضعف التمويل. بل يبدو وكأنه تراجع تدريجى فى الاهتمام بالإنتاج المسرحى، لأسباب تحتاج إلى مراجعة موضوعية، وخلط عشوائى بين الفنون، فى محاولة لتغيير هوية المسرح ومساره بما لا ينسجم مع رسالته الأصلية.

مسرح غنائى لا بديل له
ما يجعل مسرح البالون مهمًا ليس فقط تاريخه، بل كونه أحد الأماكن القليلة فى مصر – وربما فى العالم العربى – التى أُنشئت خصيصًا لتقديم الأوبريت والعروض الغنائية المتكاملة.
تراجع هذا النوع من المسرح لا يعنى فقط غياب إنتاج فنى، بل فقدان شكل فنى مميز له جمهوره، وقيمته التربوية والثقافية. المسألة ليست ترفًا، بل تمس جوهر التنوع الفنى فى بلد عرف بتعدديته الثقافية.

دعوة لإعادة الاعتبار
ما يجرى حاليًا هو تغييب غير مبرر لمسرح غنائى استعراضى له تاريخ طويل، وفن لا يمكن اختزاله فى فقرة غنائية أو عرض حفلى. المسرح الغنائى ليس مجرد ترف، بل تعبير فنى متكامل، يجمع بين الأداء الحى، والغناء، والحركة، ويصنع حالة من الإبهار والوعى معًا.
فقدانه يعنى خسارة لجزء أصيل من هوية المسرح المصرى
إن صمت المسرحيين والمثقفين على هذا التحول لا ينبغى أن يستمر. المطلوب هو مراجعة شاملة للسياسات الإنتاجية والثقافية، تعيد مسرح البالون إلى رسالته الأولى، وتمنحه المساحة التى يستحقها كمؤسسة مسرحية غنائية استعراضية لا بديل عنها.
هذا المقال ليس هجومًا على أحد، بل دعوة لإعادة الاعتبار لمسرح أثبت حضوره لعقود.
نحن بحاجة إلى إنتاج مسرحى غنائى يعبر عن هويتنا الثقافية، ويعيد للمسرح توازنه وتنوعه، لا سيما أن لدينا تراثًا غنيًا من الأعمال والعروض التى تربى عليها أجيال، وكان البالون منصتها الأهم.
الوقت لم يفت بعد ويمكن، من خلال رؤية فنية متكاملة وإدارة واعية، إعادة هذا المسرح إلى مكانته التى يستحقها، ليس كمجرد قاعة عرض، بل كمنبر لفن عريق يستحق أن يُعاد له مجده.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏