الدراما الإنجليزية (3)

الدراما الإنجليزية (3)

العدد 921 صدر بتاريخ 21أبريل2025

المسرح الفيكتوري
كانت الدراما فى أوائل العصر الفيكتورى شكلًا فنيًا شائعًا، يجذب جمهورًا واسعًا غالبًا ما كان يفضل الإثارة العاطفية على العمق الفكرى. ورغم ذلك، لم يكن المسرح حكرًا على الميلودراما الصاخبة فقط، فقد شهد منتصف القرن ظهور كوميديات نابضة بالحياة كتبها ديون بوكيكو وتوم تايلور. وفى ستينيات القرن التاسع عشر، أدخل تى دبليو روبرتسون نوعًا جديدًا من الدراما الواقعية، وهو إنجاز استعادته الكوميديا الرومانسية الساحرة لآرثر وينج بينرو، “تريلاونى أوف ذا ويلز» (1898). أما تسعينيات القرن التاسع عشر، فقد كانت حقبة متميزة من الابتكار الدرامى. اختتم أوسكار وايلد مسيرته ككاتب مسرحى بأحد أعظم الأعمال الكوميدية فى الأدب الإنجليزى، “أهمية أن تكون جادًا”(1895) . بالتزامن مع ذلك، ألهم الكاتب المسرحى النرويجى هنريك إبسن ظهور ما يُعرف بـ”مسرحيات المشاكل”، مثل “السيدة الثانية تانكري»(1893) لبينرو، التى تناولت قضايا اجتماعية بأسلوب جاد وواقعى. لتشجيع هذا النوع الجديد من المسرح، أسس جيه تى جرين “المسرح المستقل” عام 1891، حيث قدم أولى مسرحيات جورج برنارد شو بالإضافة إلى ترجمة أعمال إبسن، مما ساهم فى تحول الدراما الإنجليزية نحو عمق فكرى وفنى جديد.

الكوميديا الفيكتورية
بدأ الأدب الفيكتورى بنبرة فكاهية مع أعمال مثل “سارتور ريسارتوس” و”أوراق بيكويك.” وعلى الرغم من القضايا الجادة التى ميزت تلك الحقبة، مثل أزمة الإيمان، ومسألة “حالة إنجلترا”، و”ألم الحداثة”، فقد ظلت الكوميديا حاضرة طوال القرن. تجلت هذه الروح فى الروايات الكوميدية لديكنز وثاكرى، والأعمال الساخرة والقصائد الخفيفة لتوماس هود ودوجلاس جيرولد، بالإضافة إلى نصوص العبث لإدوارد لير ولويس كارول. كما أضافت القصص الفكاهية الخفيفة لجيروم ك. جيروم، وأعمال جورج جروسسميث وشقيقه ويدون جروسسميث، بُعدًا مميزًا للمشهد الأدبى. رغم أن العصر الفيكتورى يُستحضر غالبًا كفترة صارمة وكئيبة، إلا أنه يمكن اعتباره واحدًا من أعظم عصور الكتابة الكوميدية فى الأدب الإنجليزى.

الدراما بعد عام 1945
باستثناء المحاولة القصيرة التى قام بها تى. إس. إليوت وكريستوفر فراى لإحياء الدراما الشعرية، كان المسرح فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين يشتهر بالاستمرار فى تقديم المسرحيات متقنة الحبك، والتى ركزت على حياة الطبقة المتوسطة المريحة واستهدفت جمهورًا ينتمى بشكل أساسى إلى هذه الفئة. ومن أبرز الكتّاب المسرحيين الذين تألقوا فى هذا النمط تيرينس راتيجان (Terence Rattigan)، الذى تميزت أعماله ببنائها المتقن وطابعها التقليدى. فقد قدم مسرحيات شهيرة مثل «الصبى وينسلو” (1946)، و”نسخة براوننج” (1948)، و”البحر الأزرق العميق” (1952)، و”جداول منفصلة” (1954)، حيث استطاع ببراعة أن يكشف عن مشاعر اليأس والخوف والوحدة العاطفية التى تختبئ خلف مظاهر التحفظ واللطف.
فى عام 1956، شكلت مسرحية «انظر إلى الوراء بغضب” لجون أوزبورن نقطة تحول بارزة فى تاريخ المسرح، مشيرة إلى انطلاق تقليد درامى جديد تمامًا. فقد قدمت المسرحية بطلًا من الطبقة العاملة يتميز بالذكاء السريع، واستبدلت بالمظاهر التقليدية نبرة صريحة عاطفيًا، وصراحة جنسية، ونقدًا اجتماعيًا لاذعًا. كانت هذه المسرحية بداية لما عُرف لاحقًا بـ”دراما المطبخ».2 أسهم كتّاب آخرون فى تعزيز هذا الاتجاه، مثل شيلاج ديلانى بمسرحيتها «طعم العسل” (1958)، وأرنولد ويسكر، الذى قدم ثلاثية سياسية واجتماعية مؤثرة: «حساء الدجاج بالشعير” (1958)، و”الجذور” (1959)، و”أنا أتحدث عن القدس” (1960). أوزبورن نفسه واصل هذا النهج فى مسرحيات لاحقة، مثل «المسلي” (1957)، التى انتقدت بإيجاز مظاهر الترف فى بريطانيا ما بعد الحرب. كما انضم جون أردن إلى هذا التقليد، مستخدمًا بعض تقنيات المسرح الملحمى التى ابتكرها بيرتولد بريشت. وقد كتب أردن مسرحيات تاريخية مثل «رقصة الرقيب ماسجريف” (1959) و”ليلة القدر الأخيرة لأرمسترونج” (1964)، بهدف طرح رؤى اجتماعية وسياسية راديكالية، مما جعله نموذجًا يحتذى به من قبل العديد من الكتّاب المسرحيين اليساريين فى الفترات اللاحقة.
ظهر رد فعل مختلف ضد النزعة الطبيعية فى مسرحيات غرف المعيشة من خلال ظهور مسرح العبث. فقد اعتمد صمويل بيكيت فى مسرحياته، التى تراوحت من أعمال معقدة مثل «فى انتظار جودو” (1953) إلى اختصارات حادة كدراما «التنفس” (1969)، التى لا تتجاوز مدتها ثلاثين ثانية، على تقديم الشخصيات فى صورة مختزلة تركز على العناصر الرمزية والوجودية الأساسية. عكست هذه الأعمال نظرته التشاؤمية العميقة للحالة الإنسانية، وهى النظرة التى تجلت أيضًا فى رواياته الرمزية مثل «مولوي” (1951)، و”مالون يموت» (1958)، و»اللامسمى» (1960)، التى كتبها بالفرنسية. يمكن رؤية صدى بعض موضوعات وتقنيات بيكيت فى دراما هارولد بينتر. تتميز مسرحيات بينتر مثل «حفل عيد الميلاد” (1958)، و”الحارس» (1960)، و»العودة للوطن» (1965)، و»الأرض الحرام» (1975)، و»ضوء القمر» (1993) بتركيزها على شخصين أو ثلاثة يتصارعون على التفوق الاجتماعى أو الجنسى داخل غرف خانقة. هذه الأعمال، التى تمتزج فيها الأجواء السريالية قليلًا مع حوارات واقعية، تولد شعورًا دائمًا بالتهديد وعدم الاستقرار. أما جو أورتون، فقد أعاد توظيف الأساليب المسرحية التى أسسها بينتر فى إطار كوميديا سوداء فوضوية تمزج بين النقد الاجتماعى والمهزلة الجنسية الجريئة. من أبرز أعماله «ترفيه السيد سلون” (1964)، و”الغنيمة» (1967)، و»ما رآه الخادم» (1969). من الجدير بالذكر أن بينتر نفسه أبدى موهبة فى هذا النوع من الأعمال فى مسرحياته التلفزيونية مثل «العاشق” (1963)، وفى مسرحيات لاحقة مثل «احتفال” (2000).
كان توم ستوبارد من أبرز الكتاب المسرحيين ذكاءً فى الستينيات، واشترك مع جو أورتون (Orton) فى ولعه بالحوار السريع والمختصر بأسلوب أوسكار وايلد. فى أعماله، بدءًا من «موت روزنكرانتس وجيلدنسترن” (1966) إلى إبداعاته اللاحقة مثل «أركاديا” (1993) و”اختراع الحب” (1997)، قدّم ستوبارد أفكارًا فلسفية معقدة ضمن مشاهد تنبض بالحوار البارع والذكاء الحاد. أما آلان آيكبورن (Alan Ayckbourn)، فقد كان الكاتب المسرحى الكوميدى الأكثر إنتاجًا منذ الستينيات، واشتهر بأعماله المسرحية التى أظهرت براعة فنية وجعلته واحدًا من أكثر الكتاب المسرحيين البريطانيين شعبية. ومع مرور الوقت، أخذت مسرحيات آيكبورن منحى أكثر قتامة، حيث عالجت قضايا الجشع والأنانية التى رآها من سمات التاتشرية، الفلسفة السياسية السائدة فى بريطانيا خلال الثمانينيات. كان هذا النقد جليًا فى أعمال مثل «شركة عائلية صغيرة” (1987)، التى حملت رؤية لاذعة حول تلك القيم الاجتماعية والسياسية.
تميز كتاب المسرح الأيرلنديون، إلى جانب صمويل بيكيت، بميلهم إلى المزج بين الكوميديا ونبرة أكثر كآبة. وقد ركزت أعمالهم فى العقود الأخيرة من القرن العشرين بشكل متكرر على الحياة فى المدن الريفية الصغيرة. تناول هذا الموضوع بفعالية كتّاب مثل بريان فريل (Brian Friel) فى «الرقص فى لوغاناسا” (1990)، وتوم مورفى (Tom Murphy) فى «محادثات حول العودة إلى الوطن” (1985)، وبيلى روش (Billy Roche) فى «الوحش المسكين فى المطر” (1990)، ومارتن ماكدونا (Martin McDonagh) فى «ملكة جمال لينين” (1996)، وكونور ماكفيرسون (Conor McPherson) فى «السد” (1997)
حافظ عدد من كُتّاب المسرح، الذين شاركوا أردن فى العديد من المعتقدات الأيديولوجية وإعجابه بالمسرح البريختى، مثل إدوارد بوند، هاوارد باركر، وهاوارد برينتون، على إنتاج مستمر لمسرحيات ذات طابع أشبه بالأمثال. تناولت هذه المسرحيات القضايا المرتبطة بالعقيدة اليسارية المتطرفة، وتميزت نصوصها بإصرار حازم على كشف القسوة الإنسانية، قمع الطبقة الرأسمالية، واستغلال البنى الاجتماعية. فى ثمانينيات القرن العشرين، شهدت المسرحيات الدعائية المناهضة للمؤسسات، النسوية، التى تتناول قضايا السود والمثليين ازدهارًا لافتًا. برزت كارييل تشرشل كواحدة من أبرز المواهب فى هذا السياق، حيث جسدت مسرحيتها «أموال جادة” (1987) بوحشية جنون التمويل فى تلك الحقبة. أما ديفيد إدغار، فقد تطور إلى كاتب مسرحى يتمتع بقدر كبير من العمق والتنوع، كما يتضح فى أعماله مثل «المصير” (1976) و”عيد العَنصَرة” (1994)، التى كانت استجابة ذكية لانهيار الشيوعية وصعود القومية فى أوروبا الشرقية. على نحو مشابه، وسّع ديفيد هير نطاق أعماله بمهارة وثقة، حيث أكمل فى تسعينيات القرن العشرين ثلاثية بانورامية تناولت الحالة الراهنة للمؤسسات البريطانية: الكنيسة الأنجليكانية فى «الشيطان المتسابق” (1990)، والشرطة والقضاء فى «القضاة المتذمرون” (1991)، وحزب العمال فى «غياب الحرب” .(1993)
كتب هير مسرحيات سياسية بارزة للتلفزيون، منها «لعق هتلر” (1978) و”سايجون: عام القط” (1983). كما استغل تريفور جريفث، المعروف بمسرحياته الجدلية ذات الطابع الديالكتيكى، التلفزيون كوسيلة للتعبير عن رؤاه، حيث كان لمسرحيته «الكوميديون” (1975) تأثير كبير. أما دينيس بوتر، فقد اشتهر بأعماله التليفزيونية مثل «المحقق المغني” (1986)، حيث استخدم مجموعة واسعة من تقنيات الوسيط التلفزيونى، بما فى ذلك الخيال الجامح والتسلسلات التى تجمع بين مشاهد من الوحشية والقسوة المرتبطة بالطبقة الاجتماعية والجشع الجنسى، مع موسيقى شعبية ساخرة. عبرت أعمال بوتر عن اشمئزاز عميق، أشبه بالطبيعة الدينية، من النفاق والسادية والظلم الذى رآه متفشيًا فى المجتمع البريطانى. من جانبه، تألق آلان بينيت فى الكتابة للمسرح والتلفزيون على حد سواء. كان عمله المسرحى الأول «أربعون عامًا بعد الحرب” (1968) عبارة عن كاباريه ساخر ومؤثر يستعرض التغيرات الثقافية والاجتماعية فى إنجلترا خلال الفترة بين الحربين العالميتين. ومع ذلك، فإن أبرز إنجازاته كانت المونولوجات الدرامية المكتوبة للتلفزيون، مثل «امرأة بلا أهمية”  (1982) وسلسلتى «رؤوس متكلمة” (1987) و”رؤوس متكلمة 2” (1998). فى هذه الأعمال، جمع بينيت بين موهبته الكوميدية فى التقاط التفاصيل الغنية للحوار اليومى، وحساسيته النفسية والعاطفية، ووعيه العميق بتلاشى الحياة، مما أنتج دراما تجمع بين المرح والحزن بتميز استثنائى. فى مسرحيته «جنون جورج الثالث” (1991)، أعاد بينيت اهتمامه بماضى إنجلترا إلى أواخر القرن الثامن عشر، منسجمًا مع المزاج السائد فى الأدب البريطانى بنهاية القرن العشرين، الذى اتسم بالنزعة الاسترجاعية.

الهوامش
(المصدر: الموسوعة البريطانية أونلاين 2019)
* د.أشرف إبراهيم محمد زيدان  (رئيس قسم اللغة الإنجليزية- كلية الآداب- جامعة بورسعيد)


ترجمة: أشرف زيدان