كعادة قاعة مسرح الغد تورطنا داخل أحداث المسرحية ليس كشهود عيان على ما يحدث، بل تجعلنا نعيش بكل جوارحنا ليلة شتوية طويلة نستمع فيها لحكايات تلك السيدة المسنة التى تبلغ من العمر سبعون عامًا «حياة» التى قامت بنشر إعلان عن بيع الشقة، فالسيدة تنوى بيع شقتها قبل أن تهاجر إلى أستراليا، لكن الواقع أبعد ما يكون عن عملية بيع عادية، حيث يأتى إليها مها وسيف (مصطفى سليمان ومايا عصام) فيدخلا عالمها لا كمشترين للشقة بل كـ»ضيوف عابرين»، فتتحول صفقة بيع الشقة إلى حكاية طويلة تبوح فيها العجوز بحكاية حبٍ عميق، عاشت فى الظلال لم يُكتب لها النور، هى لا ترغب أن تبيع شقةً بقدر ما تعرض ذاكرتها للبيع، أو لعلها تطلب شيئًا أبسط: أن يستمع لها أحد، فقصت عليهما قصة حبها وزواجها من الطبيب وحياتهما معًا، حتى رحل، وأولادهما الذين كبروا وانصرفوا عنها بحياتهم الخاصة، وتلك السيدة «إلهام» التى التقتها فى المقابر يوم الوفاة وعرفت منها أنها أحبته فى صمت وأنه لم يعرف شيئا عن هذا الحب، وطلبت منها أن تضع صورتها فى شقتهما حتى إذا جاءت روحه لزيارتها شاهدت الصورة، وبينما نحن نتابع الحكاية بنفس شغف مها على عكس سيف الذى يتململ ويريد أن تكف عن ثرثرتها وتتكلم فى تفاصيل بيع الشقة، يُفاجئنا الحدث الدرامى بانقلاب سردى أنيق فهى لم تكن زوجة الطبيب، بل المُحِبة فى صمت «الهام»، المُراقبة من شرفتها، المكتفية بالضوء المنسكب من عيادته المقابلة، وبالعود الذى يعزف عليه بعيدًا عنها لكنها أحبته، وهذا وحده يكفى.أبدًا لم تكن كاذبة لكنها عاشت داخل حلمها صدقته ونقلته للآخرين، هى سيدة أحبت بصدق رجل لم يلتفت إليها مطلقًا، فربما لم يتعرف على ملامحها وإلا كان قد لمح لمعة عيونها المحبة ونظراتها الحائرة، لكنه تزوج وعاش محبًا لزوجته حتى فارق الحياة، فاختارت أن تُصبح الشخصية التى لم يُقدَّر لها أن تكون، أن تعيش معه فى حلم طويل لا ينتهى كزوجه لرجل راحل «أرملة»، حكت لكل الناس قصة حبها لزوجها وروت تفاصيل كثيرة عن حواراتهما وذكرياتهما معًا، حتى بدأت الناس فى الهروب منها لكونها امرأة ثرثارة، غير متفهمين أنها تحكى لنفسها معهم حلمها الذى تعيشه ويتجدد كلما روته لأحد، فبقيت وحيدة فى شقةٍ واسعةٍ لا تزدحم بالأشياء، بل تتنفس من فراغها، فى الزاوية الجرامافون يدور لينبعث منه صوت أسمهان وأم كلثوم يُبعثر الدفء فى جوف الشتاء، صينية القهوة التى لم تُرفع بعد، وكأنها تحفظ توقيت اللقاء الغائب، المدفأة تلتهم حطب الذاكرة، تنفخ شراراتها فى الزوايا كأنها توقظ القصص المنسية، وعلى ارفف المكتبة، تماثيل صغيرة تهمس، وراقصة الباليه لا تزال تدور، لا تعبأ بمرور الفصول، وسمكة وحيدة فى حوضها الزجاجى تسبح بصمت كأنها تحرس سرًّا عميقًا، الشرفة تنبض بالخُضرة، الحياة تتسلل من أوراق الزرع وتعيد تشكيل البرودة إلى نسيم مألوف، على الجدران لوحتان متجاورتان: الأولى بها نصف شجرة مزهرة فى فصل الربيع، والثانية بها النصف الآخر وقد خلت منه الحياة فى فصل الخريف وكأن الزمن اختار التوقّف بينهما، فالحياة فى صراعها الأبدى لا تحسم المواسم.وكان لا بد من حيلة تجتذب بها الناس بعد أن فرغت الدنيا تماما حتى من صبى السوبر ماركت الذى يترك لها الأشياء خارج الباب ويمشى فورًا بعد أن يدق الجرس، هى ليست «مخادعة»، بل «تؤلف حياة» لتنجو من الوحدة. فى النهاية تعرض على الخطيبين أن يعشا معها، لا لأنهما مثاليان، بل لأنهما موجودان، كما أنها استعذبت كلمة «ماما» التى حُرمت منها، لكنهما يرفضا ويرحلا ليأتى غيرهما، وتواصل هى الحكاية، كأنها تؤدى دور الحياة نفسها، فالحبكة تتخذ بُعدًا نفسيًا إنسانيًا مؤثرًا، وتحول العمل إلى مرآة لوحدة الشيخوخة وحنينها، لا عبر الحزن الفجّ، بل عبر الكذب الطفولى الدافئ الذى صاغه بحرفية عالية وبلغة شعرية، والذى كتب الأغانى أيضًا الكاتب إبراهيم الحسينى.قدمت هذه الشخصية ببراعة شديدة الفنانة هبة سامى فأكاذيبها حملت صدقًا عاطفيًا، جعلنا نستمع إليها بشغف، أما الزوجة الحقيقية والتى قدمت لنا على أنها المحبة فى البداية عبير الطوخى فعلى الرغم من صغر حجم الدور إلا أنها نجحت فى دقائق قليلة فى الاستحواذ على تعاطف الجمهور معها حد البكاء، وجسد تامر بدران دور الحبيب الغائب الحاضر، أما فرح داود فقد جسدت الحلم الذى لم يتحقق من خلال رقصات هادئة مرحة ومعبرة.صاغ هذه الحكاية دراميًا المخرج محمد عشرى الذى نجح فى تضفير كل هذه التفاصيل ببساطة من خلال الحوار والحركة والرقصات البسيطة الموحية، ومن خلال تقنية الفلاش باك التى تم توظيفها بعدة وسائل، فكانت مشاهد حية للزوج الغائب الحاضر، ومن خلال سلويت وعبر زجاج الغرفة والبلكونة، فجعلنا المخرج نعيش كل تفاصيل الحلم كما أرادته «حياة» التى اتضح فى النهاية أنها «إلهام»وعلى الرغم من مأساوية الحدث فإن الكوميديا تتخلل المشاهد، حين تقاطع حياة أسئلتهم، وترد بجمل مفككة مليئة بالمعاني: «القتل فى الميتين هيعمل إيه؟»، ثم تضحك ضحكة قصيرة كما لو كانت تهرب من الحزن، تكاملت الأغانى التى كتبها المؤلف بألحانها المتميزة لرجب الشاذلى مع الحوار وعبرت عن لحظات الشجن التى تعيشها البطلة.وبالطبع ديكور أحمد الألفى لا يكتفى بدور الخلفية أو بتجسيده للشقة بكل ما تحويه وخاصة البلكونة التى صممت وكأنها بلكونة حقيقية، بل هو بطل رئيسى فى الأحداث؛ حيث كل تفاصيل الشقة وبما تحويه من أشياء تحمل شجنًا مُحمّلاً بالحنين، والإضاءة الذى تم توظيفها بحرفية فى الأحداث خاصة حدوث البرق فى هذه الليلة الشتوية التى ينهمر فيها المطر، كذلك ملابس نورهان سمير التى عبرت بدقة عن الفصول المختلفة كذلك المراحل العمرية.فى النهاية فإن «حكايات الشتا» مسرحية تضم كل مفردات العمل المسرحى المتميز بداية من نص إبراهيم الحسينى، الذى تشكل دراميًا على يد مخرج واعٍ محمد العشرى قام بتوظيف جميع المفردات بحرفية عالية، وبرؤية فنية منحته جمال الصورة بجانب الدراما الحية، ويحسب لمسرح الغد بقيادة الفنان سامح مجاهد.