أداء الذكاء الاصطناعى فى المسرح المعاصر (2)

أداء الذكاء الاصطناعى فى المسرح المعاصر (2)

العدد 933 صدر بتاريخ 14يوليو2025

استكشفت الأبحاث السيبرانية المبكرة، التى قادها وينر، أسلحةً مثل أنظمة إطلاق الصواريخ المضادة للطائرات التى دمجت بين الإنسان والآلة، استنادًا إلى ضبط كل عنصر بدقة، وتنظيمه الذاتى، وتصحيحه للآخر من خلال عملية حددها وينر بـ»التغذية الراجعة السلبية». هذا النموذج من الإنسان والآلة، والذى يُسمى فى الهندسة «آلية التحكم»، له عواقب على كيفية تصورنا للبشر - «ليسوا سوى كيانات ذاتية التصحيح». لكن مجالًا آخر من مجالات الاهتمام بين الفيزيائيين والرياضيين وعلماء النفس والمهندسين، والذى شكّل عقلية السيبرانية، كان كيف يُمكن وصف البنى العصبية فى الدماغ رياضيًا بأنها كيانات ذاتية التنظيم. فى ورقة بحثية بارزة نُشرت عام 1943 فى مجلة الفيزياء الحيوية الرياضية، ناقش عالم النفس وارن ماكولوتش وعالم المنطق والتر بيتس - قبل الإنشاء الفعلى لأولى الحواسيب الرقمية العاملة - فكرة إعادة تصور الإطلاق الكهربائى للخلية العصبية الفسيولوجية على أنها شيء أشبه بنظام نمذجة منطقية؛ مجموعة من نماذج التبديل القائمة على مبدأ الكل أو لا شيء، والتى عند دمج خلايا عصبية مختلفة، يمكن أن تُنتج مقترحات منطقية. وسرعان ما أثر عمل ماكولوتش وبيتس على باحثين آخرين، بدءًا من عالم النفس الكندى دونالد هيب، الذى وضع مفهومًا لتعلم الخلايا العصبية بناءً على كيفية تغييرها لقوة اتصالاتها مع خلايا عصبية أخرى (عبر المشابك الكهربائية والكيميائية)؛ وصولًا إلى عالم النفس الأمريكى فرانك روزنبلات، الذى بنى عام 1958 ما يُعتبر أول مثال عملى فى العالم لشبكة عصبية قائمة على الأجهزة، تُسمى Mark I Perceptron (وهى أبسط أنواع الشبكات العصبونية أمامية التغذية).
وضمّت مجموعة الباحثين الذين وضعوا مفاهيم الشبكات العصبية أيضًا هايك. يُعرف هايك بأنه اقتصادى حائز على جائزة نوبل، وكان عنصرًا أساسيًا فى مجموعة المنظرين السياسيين والاقتصاديين الذين وضعوا أسس الليبرالية الجديدة، وقد أسس جمعية مونت بيليرين عام 1947 لدعم الأسواق الحرة. يدافع الليبراليون الجدد عن مجتمع يتشكل بسلوك مدفوع بالسوق، مُجسّدين ما يدّعى المؤرخ كوين سلوبوديان أنها أهداف طويلة الأمد لإعادة تصميم “الدول والقوانين والمؤسسات الأخرى لحماية السوق”. ويسعى الليبراليون الجدد إلى إعادة تشكيل “الظروف الاقتصادية الإضافية لنظام اقتصادى حر”، بما فى ذلك الفصل المثير للجدل بين الرأسمالية والديمقراطية. فى الواقع، لفهم التأثير الشامل والمستمر لليبرالية الجديدة، يكفى النظر إلى مجموعة واسعة من الأمثلة من هونغ كونغ وسنغافورة إلى دبى، والمملكة المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة، والعديد من الشركات العالمية التى تتبنى “حلولًا” اقتصادية قائمة على الليبرالية لمعالجة تغير المناخ، مثل الهندسة الجيولوجية وأرصدة الكربون أو التدخلات القائمة على استخراج البيانات فى الانتخابات التى تُعقد ديمقراطيًا.
كان لهايك أيضًا اهتمامٌ بعلم النفس طوال حياته، حيث طوّر (بشكلٍ مستقل عن هيب وروزنبلات) مفهومًا مفاده أن شبكات الخلايا العصبية فى الدماغ يمكن أن تعمل كنوعٍ من نظام التصنيف، وهو مفهومٌ أساسى فى التعلم الآلى المُراقَب. هذه النظرية ليست علميةً فحسب، بل اقترح هايك روابط معرفيةً أوسع بين النماذج الرياضية للأدمغة وأسئلةٍ أكبر حول التنظيم المُعقّد للمجتمع(1). فى كتابه «النظام الحسي» الصادر عام 1952، جادل هايك بأن الوعى بالأحداث فى العالم المادى يقوم على تأثير الشبكة. اذ ينشأ النظام الحسى من الروابط العصبية التى تُصنّف المعلومات؛ أما الأشياء الخارجية عن العقل فليس لها خصائص جوهرية سوى كيفية تصنيف الجهاز العصبى لهذه الخصائص. وبعباراتٍ لا لبس فيها، «نحن نعيش فى نظامٍ حسى يُنشئه الجهاز العصبى المركزي». طرح هايك أيضًا فكرة أن الذاكرة لا تقتصر على الروابط الحالية فحسب، بل تشمل أيضًا الروابط الماضية بين الحزم العصبية، أى بين الخلايا العصبية. وهنا، يمكن النظر إلى الدماغ كآلة تصنيف تُنشئ الواقع بدلًا من مجرد تفسيره.
الأمر الأكثر غرابة هو أن نموذج هايك للدماغ هو أيضًا نموذج حاسوب موزع (أجهزة حاسوب متعددة تعمل معًا) عملياته مجهولة للمستخدم: تجميع مبنى بشكل سيبرانى يتكون من «تسلسلات هرمية لأنظمة خوارزميات التصنيف، التى كانت غامضة للمفكر [...] ولكنها تُستخدم بانتظام للتفاعل مع البيئة». وهنا وسّع هايك نطاق عمله على الدماغ ليشمل أسئلة أوسع حول النظام والتنظيم. يشير النظام إلى ترتيب «علاقات محددة بين الأجزاء وفقًا لخطة مُصممة مسبقًا»؛ أى تنظيم. لكن هايك يناقش أيضًا «نظامًا عفويًا»؛ نظامًا «لا يقتصر على سمات الكائنات الحية فحسب [...] بل هو أيضًا] ليس من صنع أحد [و] يتشكل من تلقاء نفسه». تخضع الأنظمة التلقائية لقواعد (حتى لو لم تكن هذه القواعد معروفة بشكل مباشر من قِبل العناصر المتأثرة بها) وتُحددها شروط قد تكون مُحددة مسبقًا. بعبارة أخرى، قد يُنتج نظام تلقائى أو يُعاد إنتاجه من خلال أفعال الأفراد، ولكن لا يمكن تصميم شكله النهائى بوعى، وفقًا لهايك. وتتراوح أمثلة النظام التلقائى لهايك بين الأنظمة الاجتماعية وتشغيل الأسواق والهياكل السياسية. وبهذا المعنى، يُعد السوق «صندوقًا أسود» مثل أسلحة نوربرت وينر البشرية الآلية أو الدماغ - مجموعة لامركزية من الإشارات لا يعلم أى فاعل بكاملها. ولا يُعرف أداؤه الكلى إلا من خلال ذاته الأشبه بالإله.
فى هذه الفكرة المتعلقة بنقص المعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات، يُمكننا أن نرى كيف كان للسيبرنطيقا تأثيرٌ عميق على هايك. ووفقًا للباحث جابرييل أوليفا كوستا كونيا، لم تُشكل السيبرنطيقا تفكير هايك حول الدماغ كنظام ذاتى التنظيم فحسب، بل أثّرت أيضًا بشكلٍ جذرى على نظريته المعرفية الأوسع حول كيفية عمل البشر داخل «أنظمة ناشئة تتوزع فيها المعلومات التى يمتلكها الكل على أجزائه العديدة، حيث لا يُمكن لأى جزءٍ منها استيعاب جميع معارف الكل». ويجادل أوليفا:
فى كلا النظامين، لا يتحقق التنسيق المتبادل بين الأجزاء (الخلية العصبية أو الفرد) من خلال إتقان كل جزء بشكل صريح لكمية كبيرة من معلومات النظام (الدماغ أو المجتمع)، بل من خلال الاستخدام الضمنى للمعلومات المنقولة ضمنيًا من خلال تشغيل القواعد التى تقيد العلاقة بين الأجزاء (مثل بنية مسارات إطلاق الإشارات العصبية ونظام الأسعار).
وهكذا، يُنشئ مفهوم المعلومات غير الكاملة أو الجزئية هذا صلةً غريبة بين مفهوم هايك للنظام وأداء الشبكات العصبية. فبالنسبة لهايك، لا تُعدّ الأسواق مجرد وصف للمعاملات، بل هى تجسيدات مادية فعلية لطرق تنظيم المجتمع وحكمه لنفسه: الأسواق تُؤدى. وقد أكّد فيلسوف الفكر الاقتصادى فيليب ميروفسكى على أسلوب هايك الأدائى فى التفكير:
التركيز على التعقيد وعدم قدرة أى إنسان على معرفة ظاهرة ما معرفةً يقينية؛ والإصرار على أن الأنظمة الأقل تعقيدًا عاجزة عن التحكم فى الأنظمة الأكثر تعقيدًا؛ ووجود «خطة أسمى بكثير من أى شيء يمكن للفرد ابتكاره»؛ وافتراض ثبات حجم معالج المعلومات من الجماد إلى الدماغ إلى السوق؛ والإصرار على أنه «لا وجود لما يُسمى مجتمعًا» من خلال طمس التمييز بين الإنسان وغير الإنسان. لا يوجد مُنظّر اجتماعى بارز فى «رقصة الفاعلية» و»الأدائية» أكثر من هايك.
.  قد يبدو الاتهام الليبرالى الجديد للتحرك ما بعد الإنسانى المتمثل فى طمس الفروق بين الإنسان وغير الإنسان، ليس فقط فى العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل أيضًا فى دراسات الأداء، غير عادل.(2) ومع ذلك، إذا كانت ادعاءات هايك بأن الشبكات العصبية فى قدرتها التصنيفية تُشبه آليات عمل الأسواق، فإن تصميم السوق هذا يهدف إلى تنفيذ نظرية معرفية حول كيفية عمل المجتمع (أو عالمه المصغر، المسرح) بشكل أدائى، وليس مجرد وصفها. بعبارة أخرى، سرعان ما عُمِّمَ توجه هايك نحو الأنظمة المعقدة فى الدماغ إلى أسئلة معرفية أكثر عمقًا حول «استخدام المعرفة فى المجتمع». إذا لم يتمكن الأفراد من فهم آليات عمل الأنظمة المعقدة لأن معرفتهم، كما ادعى هايك الشهير، «غير مُعطاة لأى شخص فى مجملها»، فإن التحكم المركزى والتخطيط والتوجيه والتنظيم لهذه الأنظمة أمر مستحيل. فى حين أن هايك انتقد فكرة التخطيط والتنبؤ، إلا أن نوع التنبؤ الذى انتقده كان تنبؤات المخططين الاقتصاديين المركزيين واللوائح الحكومية. فى المقابل، تتسم القدرة التنبؤية للخوارزميات الحالية القائمة على البيانات بالتوزيع والتعقيد والتشكيل العشوائى.
ما هو إذن دور البشر وعملهم فى العروض الفنية التى أُعيد تصورها كأنظمة معقدة؟ تمثلت خطوة هايك الجذرية فى القول بأن المشكلة الاقتصادية المتمثلة فى تنظيم الأسواق هى مشكلة «معرفة» من الداخل: كيف يعمل الأفراد الذين يعملون فى نظام معقد بمعلومات محدودة أو «غير كاملة»، وبالتالى ينظمون أنفسهم دون أى آلية عالمية للتنافس مع بعضهم البعض. ولأن هذه النماذج معقدة للغاية بحيث لا يمكن ملاحظة العمليات الفردية لتفاعلاتها، وبالتالى فهى «غير قابلة للمعرفة» بطبيعتها، فإن خطة السيطرة المركزية والتنظيم الحكومى محكوم عليها بالفشل. لذلك، تصبح مسألة الحوكمة أقل ارتباطًا بممارسة السيطرة أو فرض الانضباط على الأفراد والشركات، وأكثر ارتباطًا بفهم الديناميكيات المتغيرة للنظام المعقد وكيف ينتج ويشكل الجماعات المحددة التى تعمل داخله. تتم إعادة تنظيم الوكالة الفردية، سواء كانت بشرية أو آلية، باستمرار من خلال سياسات النظام الأكبر؛ يصبح الأفراد داخل هذا النظام أقل شأنًا من المبدعين، إذ يفرضون رؤيةً معينةً على الكل. وبدلًا من ذلك، وصف هايك هؤلاء الأفراد داخل السوق بأنهم باحثون عن أنماط، يحاولون فهم معرفتهم المحدودة بالهيكل المتغير لتنظيم السوق، والتفاعل معها، والتفاعل معها.
يمكن العودة إلى مقولة بارت عن المسرح باعتباره «آلة سيبرانية» تُرسل إشاراتٍ متعددةً يصعب على كلٍّ من المبدعين والجمهور فهمها. إن النظر إلى خشبة المسرح كنظامٍ مُعقّد يُشكّل تحديًا لعقودٍ من نظرية المخرج-المؤلف (ما يُعرف فى العالم الناطق بالألمانية باسم « Regietheater”، حيث يُصدر المخرج، أو مُصمّم الدراما، أو مُصمّم الرقصات، أو حتى الحاسوب فى حالة “المسرح الخوارزمي”، الأوامرَ كعيونٍ ترى كل شيءٍ وتُمارس سيطرةً كاملة. يُفقد هذا النظام المُعقّد من المعلومات المُتشابكة وغير الكاملة مركزيةَ أى من الفاعلين (بما فى ذلك نظام التحكم فى الحاسوب) من جهةٍ، كمواقع تحكم، ومن جهةٍ أخرى، قدرة العناصر (بما فى ذلك البشر) على الاستجابة للأفعال على مستوىً عالمى التى تُولّدها جميع الفاعلين فى النظام.(3)
ولأنه من المستحيل امتلاك معرفة كاملة بكيفية عمل نظام معقد، يسعى كلٌّ من المبدعين والمؤدين إلى معلومات وأنماط جزئية تُولّدها هذه الأنظمة محليًا. علاوة على ذلك، يتطلب الأداء باستخدام الشبكات العصبية اهتمامًا متزايدًا بتطور الأحداث عبر الزمن، إذ إن «الاتصالية لا تنفصل عن تاريخ تحولها». بعبارة أخرى، تُعزز الأنماط الزمنية التى تُولّدها الشبكة الروابط التى يُمكن أن تُولّد أشكالًا جديدة من السلوك. هذا التفاعل مع تاريخ النظام أمرٌ تُجيده الآلات، بينما يُجيده البشر بدرجة أقل، خاصةً عندما يتعلق الأمر بفهم كيفية تطور الأنماط المعقدة بمرور الوقت. قد يبدو غريبًا كمبدع أن يفقد السيطرة على نظامٍ أعدّته بعناية فائقة لتحقيق تأثير جمالى. ومع ذلك، فإن الضبط الفعلى لمثل هذه الأنظمة الآلية المفترضة هو فى حد ذاته نوع من العمل البيروقراطى الإدارى، لا سيما فى السياقات الإبداعية؛ حيث الفكرة السائدة، كما يجادل الباحث/الفنان فى مجال الذكاء الاصطناعى ميمو أكتين، هى «كيف يمكن للنظام أن يفاجئ المرء نفسه».
إن مفهوم تحويل الذكاء الاصطناعى للعمل نحو إطار بيروقراطى ليس جديدًا. وكما كتب مؤرخ الذكاء الاصطناعى جوناثان بن، فإن أصول الذكاء الاصطناعى الآلية تستند إلى «المنطق الإدارى الأمريكى لما بعد الحرب» أكثر من اهتمامه بـ»الديناميكيات العصبية». فى الوقت نفسه، وكما يشير الباحث والفنان هيتو ستيرل، فإن العمل فى الذكاء الاصطناعى المعاصر بعيد كل البعد عن الأتمتة. فمن ناحية، تُخفى ادعاءات الأتمتة automation العمل غير مدفوع الأجر أو شبه مدفوع الأجر فى العالم النامى، والذى تتمثل مهمته فى تصنيف الصور لأنظمة الذكاء الاصطناعى التوليدية مثل الانتشار المستقر Stable Diffusion المصمم لإنتاج صور جديدة من خلال إشارات اللغة الطبيعية أو “إدارة محتوى” أكثر منشورات وسائل التواصل الاجتماعى فظاعة وعنفًا. ومن ناحية أخرى، فإن أيام العمل الرقمى غير المادى باتت معدودة لأن المتخصصين الرقميين سيضطرون إلى “الارتقاء بمستوى خدماتهم من خلال استئجار خدمات مبنية على عملهم المسروق للحفاظ على قدرتهم التنافسية”. مع ذلك، تُركّز حجة ستيرل فى الغالب على الإنتاج، وليس على التحولات الوجودية والإدراكية التى قد تحدث مع تزايد توزيعنا لقدرتنا على خلق الآلات. ولكن إذا أخذنا نماذج هايك العصبية والبشرية والسوقية كأشكال متشابهة للتفاعل على مستويات مختلفة على محمل الجد، فمن الواضح أنه يُمكن إعادة تصور العمل غير المادى للجماهير؛ خاصةً عمل التعرّف على الأنماط الذى ينطوى على استجابة سريعة للإشارات والتنبؤات التى تُنتجها الآلات قبل أن يتمكن البشر من فعل الشيء نفسه. وبالتالى، يُمكن إعادة تصور العمل الإبداعى من خلال التاريخ التأسيسى للشبكات العصبية نفسها، حيث “استبدلت النماذج الرياضية سلطة النظم المُحددة مركزيًا، مثل المنطق الشكلى الأرسطى، بنوع مختلف من السلطة، ألا وهو مجموعة من النظم المُحددة اللا مركزية”. فى هذه الحالة، يعمل العمل فى إطار من التنافس، وليس التعاون مع الآخرين.
هناك عدة نقاط مهمة يمكن تلخيصها هنا: أولها أن الشبكات العصبية لا تُعنى بأنماط التحكم المركزية بقدر ما تُعنى بتواريخ الروابط وذكريات تلك الروابط. ثانيًا، فى إطارها الحسابى، تُعدّ الشبكات العصبية أمثلة على أنظمة مُعقدة يكاد يكون من المستحيل فيها فهم آلية عمل النظام بأكمله. وبالتالى، فإن وحدة الفعالية ليست الخلية العصبية الفردية، بل هى المجموعة - الشبكة. ثالثًا، تُعدّ الشبكات العصبية أدائية ليس فقط فى عملياتها، ولكن أيضًا فى تجسيدها لنماذج معرفية مُعينة لكيفية عمل العالم: إذ يُفسح التحكم المركزى المجال للتنظيم الذاتى كشكل جديد من أشكال هيكلة السلطة وإنتاج كائنات بشرية وآلية. رابعًا، والأهم من ذلك، أن الروابط التاريخية للشبكات العصبية بأيديولوجيات الليبرالية الجديدة المتعلقة بتدفق المعلومات المُنظم ذاتيًا وغير المعروف فى الأسواق تميل إلى جعلها موضوعات قابلة للنقاش. ينطبق هذا بشكل خاص على سياق العروض الفنية التى غالبًا ما تهدف إلى نقد أشكال السلطة والحكم الليبرالية الجديدة باستخدام الأنظمة نفسها لإنتاج الفن. غالبًا ما يكون هذا الفن، أو يتضمن، نقدًا سياسيًا يُبرز أوجه عدم المساواة الثقافية والعرقية والجنسانية فى مجموعات البيانات المتحيزة. بهذا المعنى، قد يكون هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الفنانين الذين يستخدمون الشبكات العصبية فى الأداء الفنى ونظريات هايك عن النظام والتنظيم والإنسان كمجرد عناصر فى أنظمة هائلة غير قابلة للمعرفة، مثل برادة الحديد المعرضة للمجالات المغناطيسية.


الهوامش
1- انظر هالبرن (2022)، وباسكوينيلى (2021)، وبيرنر (1996)، وفوستر (2011)، وسالتر (2020ب) للاطلاع على العلاقة بين هايك والشبكات العصبية.
2- انظر ماسومى (2015)، وكونولى (2013)، وميروسكى (2013) لمزيد من الانتقادات. فى حين أن هناك أيضًا دراسات تتناول النيوليبرالية فى دراسات الأداء (نيلسن ويبارا 2012)، كما يشير دوغلاس إيتشو (وتتوافق حجته مع حجتنا)، فإن هذا «النهج يتجاهل أوجه التشابه المحتملة بين الإنتاج المسرحى والنيوليبرالية. فى الواقع، تُركز النظرية النيوليبرالية، على عكس مختلف الحركات السياسية والأساليب الإدارية المرتبطة بها، استثماراتها الجمالية على إنتاجية الأنظمة بدلًا من الجهد البشري» (2021: 341؛ التشديد مضاف )
3- لمناقشة أخرى حول كيفية وجود التحكم فى الأنظمة اللا مركزية، انظر جالواى (2004 )
نشرت هذه المقالة فى مجلة تولين دراما ريفيو TDR العدد 68 المجلد الأول (2024) التى تصدرها جامعة نيويورك لصالح كلية التكنولوجيا.
مارك أندريه كوزيت (جامعة كونكورديا) فنان كندى متعدد التخصصات، يعمل على دراسة العلاقة بين التكنولوجيا والفنون الأدائية باستخدام التصميم الصوتى والبصرى والتفاعلى. حاصل على بكالوريوس فى الوسائط التفاعلية وماجستير فى الوسائط التجريبية (جامعة كوينزلاند، كندا). يتناول بحثه للدكتوراه فى جامعة كونكورديا استخدام الذكاء الاصطناعى وخوارزميات الحياة الاصطناعية لإنشاء عروض رقص توليدية. بالإضافة إلى ممارسته البحثية الإبداعية، تعاون كوسيت مع العديد من الفنانين كمصمم صوت وبصرى وتفاعلى ومسرحى. وهو أيضًا مُنشئ ومُضيف مشارك لسلسلة بودكاست REC حول البحث والإبداع، والتى تُنتج بالتعاون مع CHOQ.fm وشبكة. Hexagram. cossette.ma@gmail.com
كريس سالتر (جامعة زيورخ للفنون [ZHdK]) أستاذ ومدير مساحة الفنون الغامرة. وهو أيضًا أستاذ فخرى فى فنون التصميم والحوسبة بجامعة كونكورديا فى مونتريال، والمدير المشارك السابق لشبكة هيكساغرام للبحث والإبداع فى الفنون والثقافات والتكنولوجيا. عُرضت أعماله الفنية فى جميع أنحاء العالم فى بينالى البندقية، ومركز باربيكان، ومهرجان برلين، ومهرجان فيينا، ومهرجان فايمار للفنون، وغيرها الكثير. وهو مؤلف كتاب “متشابك: التكنولوجيا وتحول الأداء” (2010)، و”وكالة غريبة” (2015)، و”آلات الاستشعار” (2022).


ترجمة أحمد عبد الفتاح