العدد 946 صدر بتاريخ 13أكتوبر2025
من خلال منظر مسرحى قاسٍ؛ غابة كثيفة بالأشجار وجسر خشبى وإضاءة زرقاء ممزوجة بصورة القمر والليل القاتم. استهل المخرج حالة العرض بوحشية المكان الذى يعكس صفاته على الشخصيات، لنجد السارق بمظهره القوى وملامحه الحادة والسكين التى لا تفارقه، وملابسه التى تشبه ملابس الصيادين، يوقع بفريسته رجل أعمال يدعى (بارنى كريستوفر) بملابسه الرسمية (بدلة) منسقة وحقيبة به نقود وبعض الأشياء الخاصة به، يستولى السارق على الحقيبة ومن هنا تكون نقطة التصاعد بالأحداث. قُدم العرض على مسرح النهار ضمن فعاليات مهرجان نقابة المهن التمثيلية فى دورته الثامنة، تأليف (محمد سمير أسير)، إخراج (محمد قنديل جوبا).
استراتيجية الخداع
يمثل السارق القوة فى العرض، فهو المسيطر على الخشبة و(بارنى) يكون خاضع له، وأثناء تصفحه للحقيبة يجد خطابًا، يتوسل له (بارنى) بان يترك له الخطاب ويستمع إلى قصته، مستغلًا طمع السارق وحبه للنقود، بأن يعطيه الأرقام السرية الخاصة ببطاقته الائتمانية التى تحتوى على عشرة أضعاف النقود التى فى الحقيبة. هنا تبدأ خطة (بارنى) لاستدراج السارق، فيعرض عليه مأساته؛ بداية من مرحلة الطفولة وتخلى والده عنه، فاضطرت الأم من أجل أن تلبى احتياجاته، أن تعمل كعاهرة، مرورا بكيفية تعلمه للقرصنة الإلكترونية والانتقام من أبيه، وصولًا إلى الاستيلاء على جميع أمواله وممتلكاته. فى البداية لم تجذب قصة (بارنى) السارق، لكن مع الوقت ينجح بارنى فى استدراج السارق ليحكى قصته، بعد ذكر اسمه الحقيقى (جوزيف ألين)، ويستغل بارنى تلك التفصيلة، عن طريق إخباره أنه كان على علاقة بفتاة تحمل نفس لقب العائلة (سمانتا ألين). من هنا تأتى.
نقطة التحول
تتحول مراكز القوة وتنقلب الأية، يخلع بارنى بدلته المنسقة دلالة على أن كل شيء قد كشف وليخرج شخصيته الوحشية، ويصبح هو المسيطر والسارق فى وضع الخاضع، ليكشف بارنى عن أن القصة التى حكاها جوزيف عن اخته (سمانتا) محض كذب، وأنه يعرف الحقيقة منذ البداية؛ عندما مات الأب ترك لهم الكثير من الاموال التى تضمن لجوزيف وسامنتا حياة كريمة، ونظرًا لأنه يكبرها بعشرة أعوام، يكون هو المتحكم فى الأموال، ولأنه شخص مقامر خسر كل أمواله فى المقامرة، ومن أجل النجاة من الدائنين قام بالتضحية لهم بأخته (سامنتا)، لنكتشف أن سامنتا هى زوجة بارنى، وأنه فعل كل ذلك بدافع الانتقام لزوجته، فيقوم بارنى بقتله.
بناء الأحداث: الدهاء يغلب العضلات
قدم المؤلف (محمد سمير أسير) سلسلة من الخدع المحكمة فى بناء الأحداث، اعتمد فيها على ذكاء ودهاء شخصية (بارنى) للإيقاع بشخصية السارق (جوزيف) رغم ما به من قوة، عبر إيهامه بأنه رجل ضعيف مغلوب على أمره، ودس الخطاب فى الحقيبة كطعم لاستدراجه، كما راوغت المتلقى أيضًا ليسير مع خديعة بارنى، إبراز صفة الطمع لدى السارق التى استغلها بارنى من خلال إعطائه البطاقة الائتمانية، وبجانب استخدام مكان (الغابة) كمنظر رئيسى ليكشف الوحشية الكامنة فى الشخصيات، استخدمه بارنى بدهاء ليعطى جوزيف قلمه الفضى لكتابة الرقم السرى الخاص بالبطاقة الائتمانية، فبطبيعة فضاء الغابة لن يجد شيئا لكتابة الرقم عليها، ليخرج ورقة نقود يكتب عليها، فينفذ القلم من الورقة مما يؤدى إلى جرحه، ودخول الحبر المسموم إلى جسده، مع ذكر بارنى لأسم سامنتا، وكشف بارنى اكاذيبه وقتله، كل هذه التفاصيل خدمت تطور الحدث وصولًا إلى النهاية، فى بناء ملئ بالخداع والتوتر. ما يبرز أن الدهاء العقلى يمكن أن يهزم القوة البدنية، خاصة عندما يُستخدم بذكاء فى التوقيت والمكان المناسب. فبارنى لم يواجه جوزيف بالقوة، بل بالغموض والمكر، حتى قاده إلى نهايته دون أن يدرك ذلك.
غفوة الكتابة: منطق بناء الشخصيات وتشابك علاقتها
رغم تماسك البناء العام، إلا ان النص لم يخلُ من بعض الثغرات التى أضعفت منطقه الدرامى، فما السبب الذى يجعل (بارنى) يؤجل فعل القتل لنهاية العرض؟، فلماذا لم يقتل جوزيف من بداية القصة؟، خصوصًا أن العرض لم يقدم أى أسباب تدفع بارنى لذلك، فما السر الذى يخفيه جوزيف ليجعل بارنى يؤجل قتله؟، وبارنى يعرف الحقيقة من البداية. ربما كان يريد العرض الإشارة إلى رغبة بارنى فى تعذيب جوزيف نفسيا قبل قتله، لكن العرض لم يوضح ذلك، فأصبح سبب الإبقاء على الشخصية مبهمًا.
كما أن العلاقة بين بارنى بسمانتا شقيقة جوزيف -وهى جوهر الدافع الدرامي- كانت مقتضبة، فبارنى فعل كل ذلك من أجل الإنتقام لزوجته سمانتا من شقيقها، لكن أين تلك العلاقة؟، فلم يظهر العرض أى تفاصيل، حتى لو كانت عابرة سوى أنهما متزوجان، ولم يقدم كيف تعرفا على بعضهما، ومتى كان هذا التعارف؟ قبل أم بعد جريمة شقيقها؟، غياب الإجابة على هذه التساؤلات، يجعل الإرتباط العاطفى الذى يبرر الانتقام يبدو باهتًا. وبما أن بارنى زوج شقيقة جوزيف، كيف بارنى يعرف أنه شقيق زوجته، وجوزيف نفسه لا يعرف أنه زوج شقيقته؟
كان العرض يحتاج ان يظهر اجابات لمثل تلك الأسئلة حتى لا يجعل علاقات الشخصيات ببعضها تظهر بهذا التشتت ومدى مصدقية إقبالها على الفعل.
لغة الصورة
جاءت إضاءة (محمود جراتسى) موحية لعالم العرض، كما استخدمت للتركيز على اللحظات الدرامية المهمة؛ حيث تكون ثابتة طوال المشهد إلى أن تأتى لحظة معينة وتبدء فى الخفوت، مثل لحظة الخطاب، كما فصلت بين سرد مشاهد الماضى واللحظة الانية. ولم تكن الدراما الحركية التى صممتها (بسنت غريب) بمعزل عن الإضاءة، التى جسدت مشاهد اغتصاب سامنتا بمنظور جوزيف الكاذب وبارنى الحقيقى، ما أضفى بعدًا بصريًا على مستوى الصورة وتجسيد ما يتم حكيه على مستوى الدراما عن طريق لغة الجسد. بعثت الموسيقى حالة التوتر والغموض ووحشية الشخصيات وعملت على جعل المتلقى يتعايش مع ما يراه على الخشبة. لجأ المخرج إلى استخدام ماكينة الدخان لتبعث نوعا من الخطر والتوتر والحالة الوحشية للشخصيات، أن الاستخدام كان جيدًا من حيث الفكرة، لكنه من حيث التنفيذ بسبب ما أحدثته من تشتت لدى المتلقى فى بعض اللحظات بسبب صوتها العالى الذى كان يعلو أصوات الممثلين ما أدى إلى التشويش فى مناطق استخدامها.
لعب شخصية بارنى كريستوفر (محمد قنديل) الذى استطاع أن يمسك مفاتيح الشخصية وتحولاتها، فنجده فى البداية يبرز حالات الخوف من السارق مع حالة التلعثم وانكماش جسده للتعبير عن ذلك الخوف، يديه أمام وجهه لتكون فى حالة دفاع، مع ملابسه التى تتناسق مع تلك الصفات فكانت بدلة وربطة عنق ونظارة، وهو ما يرتبط بذهننا بالشخصية التى تتجنب الوقوع فى المشاكل، ومع تتطور الأحداث وخلع تلك البدلة، يتحول من الدفاع إلى الهجوم، فيتحول ذلك الخوف إلى قسوة الإنتقام، وهنا تبرز موهبة (قنديل) فى تحوله لشخصية نقيضة تمامًا، وإقناع المتلقى فى أداء الشخصيتين. أما (أنس علاء) فى شخصية (جوزيف) الذى نجح فى تقديم السارق بملابسه وملامحه الحادة، وكما عبر عن لحظات الكذب بشكل صادق مما ينم على قدرته فى ايصال حالة الشخصية كما فى مشهد سرد مأساته، بالإضافة إلى مشهد انتشار سم حبر القلم فى جسده، جاء أداءه واقعيًا دون تصنع. فكان الأداء التمثيلى من عناصر الجذب فى العرض وتماهى المتلقى مع أداء الممثلين الصادق.
ختامًا
يمكن القول إن عرض «المهنة سارق» استطاع أن يفتح مساحة للتأمل فى جدلية العقل والقوة، عبر بناء أحداث محكم ودهاء درامى لافت، وإن تعثر أحيانًا فى عمق بناء العلاقات بين الشخصيات. كما نجح المخرج فى توظيف الصورة المسرحية لتوليد التوتر والغرابة، وجعل من الغابة فضاء كاشفًا لوحشية الإنسان حين يتجرد من وعيه الأخلاقى. حيث لا ينتصر السارق بعضلاته، بل يُهزم بدهاء من ظنه فريسة، ما يعجل العرض، تجربة مسرحية مشبعة تترك أثرًا ومتعة فنية فى المتلقى.