ماذا حدث فى مهرجان بورسعيد!

ماذا حدث فى مهرجان بورسعيد!

العدد 946 صدر بتاريخ 13أكتوبر2025

تحدثنا فى المقالة السابقة عما كتبته عن مسرحية «أحلام مصرية جدًا» فى كتابى «الرقابة والمسرح المرفوض» منذ «28 سنة»، وبدأت فى كتابة التقارير الرقابية المرفقة ع النص، ونشرت نص تقريرين، ولم يبقَ إلا التقرير الثالث والأخير والتى كتبه الرقيب «فتحى عمران»، قائلًا فيه: «مونودراما نص الممثل الواحد، تدور حول أحلام شاب مصرى يعانى من أزمة الضياع فى ظل ظروفه الصعبة.. فهى أحلام تراود الكثير من الشبان فى مقتبل حياته العملية حيث لم يستطع تحقيق أحلامه بالشكل المنشود، ولا مانع من الترخيص بها للعرض لمدة ليلة واحدة تقتصر على النقاد مع الالتزام بالحذف المشار إليه فى صفحات 1، 2، 3، وهى عدد صفحات النص المقدم».
وبسبب هذا التقرير الذى خالف فيه الرقيب الرقيبتين السابقتين، كونه وافق على التصريح بملاحظات، خلافًا لرفض الرقيبتين السابقتين، وهذا الاختلاف - رقابيًا وإداريًا - يستوجب تشكيل لجنة أخرى للبت فى الأمر! وبالفعل تشكلت لجنة أخرى من رقيبتين، الأولى كانت «نجلاء الكاشف» وقالت فى تقريرها: «أثناء نوم سرحان يتراءى له حلمًا بأنه قد أصبح رئيسًا للجمهورية الاشتراكية الرأسمالية الإمبريالية، فيتعجب لذلك لأنه لم يكن مؤهلًا لهذا المنصب وفجأة نجده يندب حظه لاستبعاده من الكلية الحربية التى حتمًا كانت ستوصله لتولى منصب وزير أو حتى حاكم يعمل على توفير الراحة لهؤلاء الناس من المصريين مثله من توفير السكن المناسب والوظيفة. وسرعان ما يرتد سرحان لواقعه مرة أخرى عند تأكده من أنه لن يصلح نظام الكون وحده، فهو لا حول له ولا قوة أراد أم لم يرد. وهو فقط يريد تحقيق حلمه فى السفر للخارج ليتمكن من الزواج بعد أن فشل فى ذلك بسبب عدم صلاحيته للمواصفات المطلوبة التى تتطلب ضرورة وجود وظيفة وشقة ودخل ثابت وهو الشاب الفقير - ابن القهوجى الذى على الرغم من دخله الذى يأتى بالكاوا ولا يكفى إلا لشراء الفول طعامًا لأسرته - الذى ولد ولا يعرف شيئًا سوى اللهو فى الشوارع والإصابة بالأمراض المتوطنة ودخل المدارس لتلقى دروسًا لا حول له ولا قوة فيها مثل محمد يشرب العبر، مصر أم الدنيا، الاشتراكية، الإصلاح الزراعى والشعر الجاهلى إلى أن حصل على شهادته بعد طول معاناة على أمل إتمام دراسته الجامعية التى خيب والده فيها أمله حين رفض وأجبره على الالتحاق بالعمل معه فى المقهى الصغير إلى أن أستدع لتأدية واجبه الوطنى بالجيش الذى وصفه بأنه تهريج منظم حيث عومل فيه معاملة مهينة بلا كرامة وظل فيه إلى أن أوفى مدته ليخرج بعدها كما هو يعانى ويحلم بالزواج من أى سيدة مهما كان وضعها الاجتماعى فأولاده منها سوف يلحقهم بالعمل متسولين بالشوارع. وها هو يصدم مرة أخرى بعدم إمكانية تحقيق حلمه الذى أصبح صعب المنال على الرغم كما يقول من أصالة معدنه المصرى الكريم الذى أصبح لا وجود له.. هذا ونجده ينتقل بنا إلى نقد برامج التلفاز وإعلاناته التى وصفها بالاستفزازية بطريقة لاذعة، آتيًا بفيلم عن شاب عاق ولد مشوهًا، فلفظته أمه للشارع حيث ترعرع وأصبح مجرمًا محترفًا يشاء القدر أن يغتصبها ويقتلها دون أن يعلم بالصلة التى تربطه بها. هذا ويأتينا فى نهاية المشهد بمسئول ينصح الشباب بنصائح هو فى الأصل لا يعمل بها وإنما يعتنق مبادئ أخرى مثل فتح عينك تاكل ملبن وفتح مخك تولع معاك. وفى النهاية وبينما سرحان يتقلب فى نومه ويهب قافزًا صارخًا بضرورة تدارك ما يحدث حوله بعمل شىء بدلًا من تركهم يحلمون مرة أخرى إذا به يتثاءب ويعاود النوم مرة أخرى من جديد. «الرأى»: مسرحية وإن كانت من مسرحيات المونودراما ذات الفصل الواحد والممثل الواحد، إلا أنها تحمل بين طيات صفحاتها القليلة مضمونًا يعرض بنظام الدولة وبالنظام الأمريكى الذى تربطنا وإياه مصالح، وعلاقات صداقة مما يستوجب معه رفض هذه المسرحية حرصًا على النظام العام ومصالح الدولة العليا».
وقالت الرقيبة الأخرى «فايزة الجندى» فى تقريرها: «أحلام مصرية جدًا، هى أحلام حاقدة لمؤلف مريض بالحقد يركز على كل ما هو سلبى، فسرحان البطل له أحلام كثيرة كلها سخرية وتهكم، فمرة يعلق فشله فى الحياة على أنه لم يلتحق بالكلية الحربية التى هى الطريق للمناصب الوزارية والرئاسية فى البلد، وحتى لو وصل لتلك المناصب وحكم فهل الراحة والسكينة ستكون من نصيب الكادحين المطحونين بأن يجد كل شخص العمل والشقة والحياة المحقة، وهو يرد على ذلك بالنفى، لأنه بالطبع بحكم المنصب سينسى المطحونين الكادحين، ومرة أخرى يتعرض لطفولته فهو يعانى الأمراض المتوطنة فى مصر من بلهارسيا وإسكارس علاوة على النزلة الشعبية المزمنة، وتعلم فى المدرسة شعارات الثورة بل كان التعليم عقيمًا حسب اتجاهات وأهواء ساسة البلد ثم يجند ليجد الذل والإهانة فى الجيش. ويحلم سرحان بالزوجة أى زوجة «أرملة، رقاصة، هجاصة، عاقر»، لأنه يرى أن هذا الحلم صعب المنال «موت يا حمار لما تلاقى جنبك حمارة والحمارة عايزة أسطبل والإسطبل أصبح تمليك» إلى آخر تلك السخرية والاستهزاء بآدمية الإنسان فى مصر، ويتعرض سرحان لنقد وسائل الإعلام من صحافة هابطة المستوى وتليفزيون تتسم برامجه بالسطحية والتكلف وهبوط المستوى الفنى والأخلاقى لكل برامجه وأخلاقه الغربية والمصرية. «الرأى»: أرى رفض الترخيص بأداء نص «أحلام مصرية جدًا» إذ إنها تتعارض مع القيم والأخلاق المصرية والنظام العام».
وكانت تأشيرة الرقيبة الأولى «شكرية السيد» هى القول الفصل والنهائى، وفيها قالت: «مسرحية «أحلام مصرية جدًا» تتعرض لسلبيات المجتمع بصورة تثير النفوس وتسيء إلى القيم والأخلاق ونظام الدولة العام.. لذلك أرى رفضها ضمن آراء السيدات الرقيبات «فادية، نجلاء، فايزة، إيناس» مع العلم بأن السيد/ فتحى قد وافق على عرضها بملاحظات».
وهكذا تم رفض النص من قبل لجنتين رقابيتين، وكنت أظن أن النص لم يُمثل لذلك كتبت عنه فى كتابى «الرقابة والمسرح المرفوض».. ولكن عندما بدأت التفكير فى كتابة هذه السلسلة من المقالات، قمت بانتقاء مجموعة من المسرحيات التى أجد فيها جدلًا رقابيًا أو أن وثائقها تستحق أن أكتب عنها وأناقشها.. إلخ، وبالطبع نحيت جانبًا جميع المسرحيات التى كتبت عنها من قبل فى كتابى «الرقابة والمسرح المرفوض» أو فى بعض دراساتى الأخرى أو فى بعض مقالاتى.. إلخ. وشاء القدر منذ فترة ليست بالقصيرة – أى منذ عدة سنوات - أن أحصل على رقم هاتف مؤلف المسرحية السيناريست المعروف «صلاح متولي»، وتحدثت معه عن هذا النص وإننى كتبت عنه فى كتابى «الرقابة والمسرح المرفوض»، كونه نصًا لم يُمثل ولم يُنشر ولا يعرف عنه أحد شيئًا، فاستوقفنى قائلًا: إن النص تم تمثيله بالفعل، واشترك فى مسابقة المونودراما فى مهرجان بور سعيد المسرحى - الأول والأخير – وفاز العرض بالجائزة الأولى، وفزت أنا بجائزة النص، ولكننى لم أحضر العرض ولم أفرح بفوزه ولم أستلم جائزتى.. لأننى كنت مطاردًا من الأجهزة الأمنية بسبب هذه المسرحية، المرفوضة رقابيًا.. ورغم ذلك تم اشتراكها فى المسابقة والمهرجان وتم عرضها أمام الجمهور!
كنت أستمع لهذه القصة وأنا فى ذهول مما أسمعه! وقلت له كم كنت أتمنى أن أعلم هذه الحقائق أثناء كتابتى لكتاب الرقابة والمسرح المرفوض! وانتهى الاتصال بيننا الذى كان منذ سنوات قليلة. وعندما بدأت فى كتابة سلسلة مقالاتى هذه، وجدتها فرصة للكتابة مرة أخرى عن المسرحية بناء على قصة المؤلف التى أخبرنى بها، فقمت بالاتصال به منذ أيام وطالبته بكتابة شهادته عن هذا النص وظروفه لأننى سأكتب عنه، فشعرت بعدم حماسه للفكرة، بل وطلب منى صراحة ألا أكتب عن هذا النص تحديدًا! وقبل أن أسأله لماذا، سألنى هو: هل قرأت النص؟ فقلت له نعم قرأته، وهو الآن أمامى! فقال: ما رأيك فيه فنيًا.. هل هو مسرحية بالفعل؟ فقلت له: لا رأى لى لأننى أناقش أساليب الرقابة مع النصوص، وأنا أعلم أن الرقابة لا تناقش النص فنيًا بقدر مناقشتها له سياسيًا ودينيًا وأخلاقيًا. فقال لى: عندما عُرض النص فى «السويد» وصفوه بأنه ليس نصًا مسرحيًا منودراميًا بقدر ما هو «بيان سياسى»! فسألته: ما علاقة السويد بالعرض؟ فقال لى: إن - الممثل أو المخرج - عرض نص «أحلام مصرية جدًا» بعد ترجمته فى السويد! وذكر لى اسم الممثل، ولكنى لم أتبينه بصورة صحيحة، وأظنه قال اسمه «عبده البانى» - أو اسم قريب من هذا الاسم! وحاولت جاهدًا أن آخذ منه معلومات أكثر دون جدوى! وكلما أردت أن أوجه الحوار نحو شهادته حول النص والعرض وما تم فى المهرجان، أجده يبتعد عن السير فى الحوار نحو هذا الاتجاه، وظل متمسكًا برأيه بأننى لا أكتب عن هذه التجربة، لأنه – من وجهة نظره – كانت تجربة بسيطة حول بدايته المسرحية، حيث إن نص «أحلام مصرية جدًا» هو محاولة بدائية منه للكتابة، وربما الكتابة عن هذه البداية لا تتناسب مع مكانته الآن بوصفه «سينارست»، وأيضًا لا تتناسب مع نصوص مسرحياته التى كتبها فيما بعد والتى تُعدّ إنتاجه المهم!
فى نهاية الاتصال الأخير احترمت رأى المؤلف «صلاح متولي» بعدم الكتابة عن هذا النص! وقد كنت أرسلت له صورة من النص والتقارير الرقابية حتى أنعش ذاكرته، عندما طالبته بكتابة شهادته فى بادئ الأمر.. وبعد ساعة تقريبًا من تواصلنا الأخير - وربما بعد أن قرأ النص الذى يقع فى صفحتين ونصف الصفحة - وصلتنى منه رسالة صادمة، قال فيها: «إن نص «أحلام مصرية جدًا» ليس نصه.. وواضح أن المرحوم «فؤاد صالح» - مدير المهرجان حينها - غيّر فيه وكتبه من جديد من أجل الرقابة! قرأت هذه الرسالة الصادمة، والتى تحمل إقرارًا بأن النص الذى بين يدى وعنوانه «أحلام مصرية جدًا» هو نص لا علاقة له بالسينارست والكاتب المسرحى «صلاح متولى»!
أمام هذه المفاجأة، أصبحت فى حلٍ من عدم الكتابة عن النص، كونه ليس النص الذى كتبه «صلاح متولى»! كما أنه لم يحسم أمر كاتبه، رغم ترجيحه لفؤاد صالح، إلا أن هناك احتمالات أخرى، منها أن الذى غيّر فى النص وأعاد كتابته هو المخرج «رؤوف رزق» أو الممثل، لا سيما أن النص تمت ترجمته وتم عرضه فى السويد! كل هذا جعلنى أقوم بمجهود شاق لمعرفة الحقيقة! وهذا المجهود تمثل فى صعوبة تواصلى مع أحد الأحياء ممن حضروا هذا المهرجان وهذه المسابقة فى بور سعيد عام 1986! كما أننى لم أنجح فى معرفة اسم الممثل الذى قام بعرض المونودراما أو مكانه! وأخيرًا قمت بمحاولة معرفة أى شيء عن المخرج «رؤوف رزق»، وأرسلت اسمه لبعض الأصدقاء ومنهم الأستاذ «يسرى حسان» الذى نجح فى أن يأتى لى برقم هاتف شاعر فى بور سعيد على علاقة برءوف رزق، وعندما تواصلت من الشاعر أخبرنى بأن رءوف رزق يعيش فى «كندا» وأنه على تواصل معه.. فرويت له القصة وأننى أريد أن أتواصل معه عبر الواتساب لآخذ شهادته منه حول الموضوع، فطلب منى الشاعر أن أنتظر ليستأذنه أولًا فى موافقته على هذا التواصل معى.. وحتى كتابة هذه السطور وأنا فى انتظار هذه الموافقة!


سيد علي إسماعيل