الممثل فى مختبر الوجود.. قراءة فى فلسفة التجريب عند مدحت الكاشف

الممثل فى مختبر الوجود.. قراءة فى فلسفة التجريب عند مدحت الكاشف

العدد 949 صدر بتاريخ 3نوفمبر2025

فى عالمٍ تتقاطع فيه الأسئلة الكبرى حول الفن والوجود، ويغدو المسرح أحد أكثر الفنون قدرةً على اختبار الإنسان فى جوهره، يأتى كتاب «التجريب فى تدريب الممثل» للدكتور مدحت الكاشف، الصادر ضمن إصدارات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الثانية والثلاثين لعام 2025، ليُعلن عن لحظةٍ فكرية وجمالية جديدة فى مسار الكتابة المسرحية العربية.
فالكتاب لا يُقدَّم باعتباره دراسة تدريبية فحسب، بل بوصفه بيانًا فلسفيًا عن جوهر الفن المسرحى، وعن تلك العلاقة المدهشة التى تربط بين الممثل ككائنٍ إنسانى والتجريب كجوهرٍ للوجود الفنى. وهو بذلك يعكس روح المهرجان نفسه، الذى وُلد من رحم المغامرة والتجديد، وجعل من المسرح التجريبى مساحةً دائمة لطرح الأسئلة، وكشف المجهول فى التجربة الإنسانية.
منذ صفحاته الأولى، يضع الكاشف قارئه أمام أطروحةٍ فلسفية واضحة: إن التجريب فى تدريب الممثل ليس مجرد تقنية مسرحية، بل هو فعل وجوديّ يسعى إلى اكتشاف الإنسان من خلال الفن، واختبار الفن من خلال الإنسان. فالممثل فى رؤيته ليس مؤديًا خارجيًا لشخصيةٍ مكتوبة، بل هو كائنٌ يعيش تجربة مزدوجة بين ذاته الحقيقية وذاته المؤداة، بين الواقع والخيال، بين الحرية والقيد. ومن هنا، يصبح التدريب التجريبى وسيلة لتحرير الجسد والعقل والروح معًا، فى محاولةٍ للعودة إلى الإنسان الأول فينا، ذلك الكائن الذى يمثّل بالفطرة كى يفهم العالم.
ينطلق الكاشف فى هذا العمل من أرضية مسرحية واقعية، لكنه يتجاوز حدود التقنية ليصوغ رؤية فكرية متكاملة حول معنى التمثيل، تجمع بين التأمل الفلسفى والتحليل الجمالى والممارسة العملية.
فهو يتعامل مع الممثل لا بوصفه «أداة أداء»، بل بوصفه مركز العملية الإبداعية، حيث تتقاطع داخل جسده وفكره كل القوى الإنسانية: الوعى، والخيال، والذاكرة، والانفعال، واللغة، والحضور. ومن خلال هذا الفهم الكلى، يقدّم الكتاب تصورًا جديدًا لتدريب الممثل بوصفه فعلًا تربويًا وإنسانيًا يعيد صياغة الذات ويُهذّب الحس والذوق والروح.
فى هذا الإطار، تتجلّى فى الكتاب ثلاثية فكرية كبرى تشكّل العمود الفقرى لرؤية الكاشف:
الإنسان/الممثل: حيث يذوب الحد الفاصل بين الشخص الذى يعيش والشخص الذى يؤدى، فيصبح التمثيل وسيلة لاكتشاف الذات عبر الآخر.
الجسد/الوعي: فالجسد فى منظور الكاشف ليس أداةً صامتة بل لغةٌ ناطقة، تفكّر وتعبّر، وتكشف عن أسرار النفس عبر الحركة والإيقاع والصوت.
التجريب/التحرر: لأن التجريب فى جوهره تمرينٌ على الحرية، وخروجٌ من القوالب الجامدة نحو فضاءات أكثر رحابةً للفكر والفن.
ومن خلال هذه المحاور، ينسج الكاشف نصّه بلغةٍ تجمع بين الدقة الأكاديمية والدفء الأدبى، فيعيد للمسرح هيبته بوصفه فنًّا فلسفيًا يُمارَس بالجسد كما يُكتَب بالعقل. فهو لا يكتفى بتتبّع مدارس التمثيل العالمية من ستانسلافسكى إلى بريشت، ومن جروتوفسكى إلى بيتر بروك، بل يسعى إلى توليد لغة عربية جديدة للتمثيل التجريبى، تستوعب تلك التجارب العالمية وتعيد تأويلها فى سياقٍ ثقافى مصريّ وإنسانيّ.
ويطرح الكاشف فى سياق رؤيته جملة من الأسئلة الوجودية العميقة: هل يمكن للممثل أن يكون صادقًا فى عالمٍ مملوء بالأقنعة؟ هل التمثيل تحرير للذات أم قيدٌ جديد تفرضه المجتمعات؟
وهل يصبح الفن وسيلة لاكتشاف الحقيقة، أم أنه مجرد قناعٍ جديد يخفيها؟
بهذه اللغة التى تمتزج فيها الفلسفة بالشعر، والوعى الجمالى بالتحليل النقدى، يتحوّل الكتاب إلى مرآةٍ فكرية تلتقط صورة الإنسان الممثل فى لحظته الراهنة؛ إنسانٍ يواجه تحديات التكنولوجيا، والعزلة، وتسليع الموهبة، لكنه لا يزال يبحث عن تجربته الحيّة، تلك التى لا يمكن للذكاء الاصطناعى أن يقلّدها، ولا للواقع الافتراضى أن يختزلها.
ولعل صدور هذا الكتاب عن مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى يؤكد استمرار تلك العلاقة الخلّاقة بين الفكر والممارسة، بين النظرية والتطبيق، وبين المسرح كمختبرٍ للجمال والحرية، والإنسان كمركزٍ لكل تجربة فنية حقيقية. فكما يعلن المهرجان شعاره الدائم «المسرح حياة»، يأتى كتاب الكاشف ليقول: الحياة أيضًا مسرح، والتجريب طريقنا لفهمها.
الفصل الأول: التجريب فى فن الممثل — من كسر القوالب إلى خلق المعنى
يشكّل الفصل الأول من الكتاب حجر الأساس فى البنية الفكرية التى يقوم عليها المشروع النقدى والفلسفى للدكتور مدحت الكاشف. فمنذ عنوانه «التجريب فى فن الممثل»، يعلن المؤلف عن رغبته فى تفكيك المفهوم التقليدى للتمثيل، وإعادة تعريفه بوصفه مساحةً للحرية والاكتشاف، لا مجرد مهارةٍ تُكتسب أو تقنيةٍ تُمارس. فى هذا الفصل، يضع الكاشف يده على جوهر العملية التمثيلية من خلال مفهومٍ أساسي: أن التجريب هو المبدأ الحيوى للفن، وأن الممثل التجريبى ليس من ينفّذ تعليمات المخرج، بل من يُعيد طرح الأسئلة على ذاته وعلى فنه باستمرار.
يرى الكاشف أن تاريخ التجريب فى التمثيل يمتد إلى جذور المسرح الإنسانى ذاته، منذ أن وقف الإنسان الأول أمام النار، ليحاكى أصوات الطبيعة وحركاتها، ويحوّل خوفه إلى طقسٍ وأداءٍ رمزيٍّ جماعى. فالتجريب، فى نظره، ليس اكتشافًا حديثًا، بل هو غريزة قديمة ووعى متجدّد. ومن هنا، يربط الكاشف بين الفن التجريبى والبحث الفلسفى عن المعنى، مؤكدًا أن كليهما يقوم على مبدأ «الشكّ» و«الاختبار» و«الاحتمال».
ومن خلال هذا المنظور، ينطلق فى تحليل تطور التجريب فى فن الممثل عبر الحقب المسرحية المختلفة، فيبدأ بالمسرح الإغريقى حيث كان الأداء قائمًا على الطقس والرمز، ثم ينتقل إلى المدارس الحديثة فى القرنين التاسع عشر والعشرين، مع ظهور كونستانتين ستانسلافسكى، الذى وضع حجر الأساس لفن الممثل الحديث، مؤكدًا «الصدق الداخلي» و«الذاكرة الانفعالية» بوصفهما مدخلين لفهم الشخصية. ومع ذلك، لا يتعامل الكاشف مع ستانسلافسكى باعتباره نهاية الطريق، بل بوصفه نقطة انطلاق نحو تجريبٍ أوسع، حيث تتجاوز التجربة الواقعية إلى مناطق أكثر حرية وتجريدًا.
ففى مقابل الواقعية النفسية، يستعرض المؤلف ثورة التعبيرية التى جاءت لتعلن انحيازها إلى الانفعال الداخلى والرمزية البصرية، ثم يعرّج على مدرسة «المنهج» الأمريكية، التى نقلت التجريب من المسرح إلى السينما، كما فى تجارب «لى ستراسبيرج» و«ستيلا أدلر» و«سانفورد مايزنر». تلك المدارس – رغم اختلافها – تلتقى عند نقطة جوهرية واحدة هي: أن التمثيل ليس محاكاةً للحياة، بل خلق حياة جديدة داخل الفن.
وفى تحليله العميق، يُبرز الكاشف كيف تجاوز التجريب حدود الأداء ليصبح موقفًا فكريًا من العالم. فالممثل التجريبى، فى تصوره، لا يكتفى بتجسيد الشخصيات، بل يتعامل مع الدور بوصفه معملًا للبحث عن الإنسان، وفضاءً لاختبار حدود الجسد والعقل والمشاعر. إن التجريب عند الكاشف هو فلسفة «الاحتمال»، التى تجعل الممثل فى حالة دائمة من الترقّب والدهشة، رافضًا أن يستقر عند شكلٍ أو أسلوبٍ واحد. ولهذا، فكل ممثل حقيقى هو فى جوهره باحثٌ عن ذاته من خلال أدواره.
ويستدعى المؤلف فى هذا الفصل عددًا من الأسماء التى مثّلت علامات بارزة فى التجريب المسرحى، مثل بيتر بروك الذى دعا إلى «المسرح الفارغ»، وجيرزى جروتوفسكى صاحب فكرة «المسرح الفقير» الذى جعل من الجسد وحده أداة التعبير، وأوجستو بوال الذى حرّر العلاقة بين الممثل والجمهور فى «مسرح المقهورين»، وأنطونين آرتو الذى حوّل المسرح إلى «صرخة جسدية» فى وجه الجمود.
كل هؤلاء، فى رأى الكاشف، ليسوا مدارس متفرقة، بل تجليات مختلفة لفكرة واحدة: أن التمثيل فعل مقاومة ضد التكرار، وأن التجريب هو جوهر الحياة الفنية، لا ترفها.
ويُلفت الكاشف النظر إلى أن التجريب لا يعنى الفوضى، بل يعنى نظامًا جديدًا للمعرفة؛ فهو يقوم على منطق البحث والاكتشاف، وعلى وعيٍ حادٍّ بحدود الفن وقدرته على تجاوز نفسه. ومن هنا، يميّز المؤلف بين التجريب الأصيل الذى ينشأ من الضرورة الإبداعية، والتجريب الزائف الذى يقوم على الإبهار السطحى دون وعى فكرى أو فنى. فالتجريب الحقيقى، كما يقول، «لا يبدأ من الرغبة فى الاختلاف، بل من الحاجة إلى الفهم».
ويُقدّم الكاشف فى هذا الفصل أيضًا رؤية ميتافيزيقية دقيقة للتمثيل، إذ يرى أن الممثل يعيش ازدواجية الوجود بين ذاته وشخصياته، وأنه فى كل مرة يصعد فيها إلى الخشبة يختبر معنى جديدًا للحرية. هذه الازدواجية – التى تلتقى فيها فلسفة «سارتر» حول «الوجود كمشروع حرّ»، مع رؤية «نيتشه» عن «أقنعة الحقيقة» – تجعل من الممثل كائنًا يعيش على حدود الحقيقة والخيال، ويجعل من التمثيل تجربة وجودية لا تقل عمقًا عن التجربة الدينية أو الفلسفية.
هنا يظهر البعد الإنسانى فى رؤية الكاشف: فالممثل ليس آلةَ تمثيل، بل إنسانا يسائل ذاته والعالم من خلال الفن.
ولعلّ أكثر ما يميّز تحليل الكاشف فى هذا الفصل هو أنه لا يقدّم التجريب كمجرد «اتجاه فني»، بل كرؤية تربوية وثقافية. فهو يؤمن بأن التجريب فى تدريب الممثل هو أيضًا تجريب فى تربية الإنسان نفسه، وأن التمرين المسرحى ليس غايةً فى ذاته، بل وسيلة لبناء وعيٍ جديد، يُعيد تعريف علاقة الفرد بالمجتمع، والجسد بالعقل، والخيال بالواقع. وبهذا المعنى، يصبح المسرح التجريبى مختبرًا إنسانيًا يتعلم فيه الممثل أن يعيش بصدقٍ، وأن يفكر بجسده، وأن ينصت للعالم كما لو كان يسمعه لأول مرة.
ويختم الكاشف هذا الفصل بدعوة صريحة إلى أن يتحوّل التدريب المسرحى إلى مساحةٍ للفكر والحرية، وأن يتعامل الممثل مع كل تجربة جديدة لا كتكليف مهنى، بل كرحلةٍ داخل الذات. ففى عالمٍ تتسارع فيه التقنية وتبهت فيه المشاعر، يبقى التجريب – كما يرى المؤلف – هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الفن من التكرار، والإنسان من الاغتراب.
الفصل الثاني: البحث عن الممثل — الإنسان قبل الفنان
فى هذا الفصل، يأخذنا الدكتور مدحت الكاشف إلى عمق التجربة الإنسانية فى التمثيل، لنتجاوز مرحلة الحديث عن التقنيات إلى منطقةٍ أكثر شفافية ووجودية، هى منطقة الإنسان الممثل. فالعنوان ذاته «البحث عن الممثل» لا يُشير إلى اكتشاف فنى أو مهارى بقدر ما يرمز إلى رحلةٍ فلسفية لاكتشاف الإنسان الكامن داخل الفنان. إن هذا الفصل بمثابة مرآة وجودية يطل منها الممثل على ذاته، فيرى فى كل تمرينٍ أو أداءٍ مسرحى محاولةً لفهم معنى أن يكون إنسانًا قبل أن يكون ممثلًا.
يؤكد الكاشف فى مستهل هذا الفصل أن التجريب الحقيقى لا يبدأ من الأدوات، بل من الوعى بالذات. فالممثل الذى لا يعرف نفسه لا يمكن أن يعرف شخصياته، ولا يمكن أن يتعامل مع الدور بوصفه كائنًا حيًّا ينبض بالتجربة. ومن هنا، يربط المؤلف بين فن التمثيل وعلم النفس والفلسفة، فيشير إلى أن الممثل هو أقرب الكائنات إلى الفيلسوف، لأنه يعيش دائمًا حالةً من التساؤل عن ماهيته، وعن الحدود الفاصلة بين ما هو «واقعي» وما هو «مُمثّل».
ويستدعى الكاشف فى هذا السياق مفاهيم فلسفية دقيقة، فيستعين برؤية جان بول سارتر الذى يرى أن الإنسان مشروع مفتوح لا يكتمل أبدًا، وأن كل فعل يقوم به هو محاولة لإعادة اختراع ذاته. فالممثل – فى ضوء هذه الفكرة – يعيش عملية «إعادة خلقٍ» مستمرة، إذ يُعيد تشكيل هويته فى كل عرض، ويُعيد اختبار العالم من خلال كل شخصية يؤديها. وهنا تبرز العلاقة الوثيقة بين التمثيل والفلسفة الوجودية، فالممثل فى جوهره هو كائن يختبر الحرية، لكنه فى الوقت ذاته يُجبر على الالتزام بدورٍ محدد، مما يجعله يعيش مفارقةً إنسانية بين الحرية والقيد، وبين الاختيار والمصير.
يتوقف الكاشف عند هذا التوتر الخلاق، معتبرًا أن سرّ الفن كله يكمن فى هذه الثنائية. فالممثل يعيش حياةً مزدوجة: ذاتٌ حقيقية وذاتٌ مؤدّاة، وداخل هذا التماس بين الذوات تتولد الدهشة المسرحية. ويطرح المؤلف هنا سؤالًا محوريًا: هل يمكن الفصل بين الإنسان والممثل؟
يستعرض الكاشف إجابات متباينة عبر تاريخ المسرح، من ستانسلافسكى الذى رأى أن على الممثل أن يندمج كليًا فى الشخصية ليبلغ الصدق الداخلى، إلى برتولت بريشت الذى دعا إلى «الاغتراب» بين الممثل ودوره ليُحفّز التفكير النقدى لدى الجمهور. غير أن الكاشف لا ينحاز إلى أحدهما، بل يدعو إلى توازنٍ فلسفيٍّ وإنسانيٍّ بين الامتزاج والوعى، بين الانفعال والتفكر، بين أن يعيش الممثل الدور وأن يظل واعيًا بأنه يمثله فى آنٍ واحد.
ومن خلال هذا التحليل، يعيد الكاشف تعريف «الصدق التمثيلي» لا بوصفه تقليدًا للحقيقة، بل باعتباره تعبيرًا عن حقيقةٍ داخلية. فالممثل الصادق هو من يعيش لحظته بصدقٍ وجدانى، لا من يكرّر مشاعر مستعارة. ومن هنا، يتحول التمرين المسرحى إلى نوعٍ من التطهير النفسى، يشبه فى عمقه الطقس الصوفى، حيث يسعى الممثل إلى نزع الأقنعة الاجتماعية عن وجهه ليكشف عن جوهره الإنسانى العارى.
ويمتدّ تحليل الكاشف إلى البعد الاجتماعى والثقافى لهذه الثنائية بين الإنسان والممثل. ففى ظلّ ما يسميه بـ«الصناعات الإبداعية»، أصبح الممثل فى العصر الحديث سلعة ثقافية تُسَوَّق للجمهور، وتُقاس قيمته بعدد المتابعين أو نسب المشاهدة. وهنا يطرح الكاشف سؤالًا مريرًا: هل فقد الممثل جوهره الإنسانى وسط هذا النظام الصناعي؟
ومن خلال تحليله الذكى، يرى أن الممثل اليوم مطالب بأن يقاوم هذا «التسليع» عبر العودة إلى التجربة الحيّة، إلى التفاعل المباشر مع الجمهور، إلى الصدق الإنسانى الذى لا يمكن تزييفه أو رقمنته. فهو بذلك يعلن موقفًا إنسانيًا مقاومًا، مفاده أن التجريب ليس فقط فى الشكل الفنى، بل فى إعادة إنقاذ الإنسان من داخل المهنة نفسها.
ويستعين الكاشف فى دعوته هذه بمقاربات من فلاسفة معاصرين مثل ميشيل فوكو وجان بودريار، اللذين أشارا إلى أن الإنسان المعاصر يعيش وفق «سيناريوهات جاهزة للحياة» تُفرض عليه دون وعى، تمامًا كما يؤدى الممثل دورًا مكتوبًا مسبقًا. ولكن فى المقابل، يرى الكاشف أن الممثل الواعى قادر على كسر هذه السيناريوهات، مثلما يكسر الفنان التجريبى قواعد المسرح التقليدى. فالتجريب، فى جوهره، ليس تمرينًا جسديًا فقط، بل هو مقاومة فكرية ضد التنميط وضد فقدان الذات.
من هذا المنطلق، يتحوّل «البحث عن الممثل» إلى بحثٍ عن الإنسان الحرّ، الذى يعى أدواره لكنه لا يُستعبد بها، والذى يستخدم الفن لا للهروب من واقعه، بل لفهمه وإعادة تشكيله. إن الممثل فى هذا التصور كائن واعٍ بتاريخه الشخصى والاجتماعى، يستحضر ذاكرته، ويحوّلها إلى طاقة إبداعية قادرة على توليد المعنى. وهكذا يصبح الأداء تجربة معرفية تُعيد للإنسان وعيه بجسده ووجوده وموقعه فى العالم.
وفى ختام هذا الفصل، يُبرز الكاشف بعدًا مستقبليًا دقيقًا يتمثل فى سؤالٍ جديد يفرضه العصر الرقمي: هل سيظل الممثل الإنسان هو مركز التجربة المسرحية فى زمن الذكاء الاصطناعى؟
إنه سؤال لا يتعامل معه الكاشف بخوفٍ أو حنينٍ إلى الماضى، بل بوعيٍ نقدى يرى أن التكنولوجيا – رغم سطوتها – لن تستطيع أبدًا أن تُحاكى حرارة الجسد البشرى ولا عفوية الانفعال الإنسانى. فالممثل الحقيقى هو من يمتلك «العاطفة الحيّة»، تلك التى لا تُبرمج ولا تُستنسخ، لأنها نابعة من الإنسان ذاته.
وبهذا، يمكن القول إن هذا الفصل يُمثّل قلب الكتاب النابض، حيث يلتقى الفكر بالتجربة، والفن بالوجود، ليؤكد أن الممثل ليس صانع الوهم بل كاشف الحقيقة. فالتمثيل عند الكاشف ليس حرفةً تُمارس، بل حياة تُعاش، وحلمٌ يُعاد تمثيله كل يوم من أجل أن يظل الإنسان إنسانًا.
الفصل الثالث: التجريب والوعى الجسدى للممثل — الجسد كأداة للفكر والحرية
يأتى الفصل الثالث من كتاب «التجريب فى تدريب الممثل» كأحد أهم فصوله وأكثرها عمقًا من حيث الطرح الفلسفى والإنسانى، إذ يضع فيه الدكتور مدحت الكاشف الجسد فى مركز العملية الإبداعية، بوصفه الوسيط الأول بين الفكر والفن، وبين الوعى والوجود. وإذا كانت الفصول السابقة قد بحثت فى معنى التجريب بوصفه رحلة عقلية وروحية، فإن هذا الفصل يغوص فى الجسد ذاته باعتباره اللغة التى يكتب بها الممثل تجربته الحيّة على الخشبة.
يرى الكاشف أن العلاقة بين الممثل وجسده ليست علاقة امتلاك، بل علاقة معرفة. فالجسد ليس أداةً يُستخدم، وإنما كائن يفكّر ويتكلّم ويشعر. ومن هنا يعلن المؤلف رفضه الصريح للتصورات القديمة التى كانت تختزل التدريب الجسدى فى مجموعة من التمارين الحركية أو اللياقية، مؤكدًا أن التجريب الجسدى هو فى جوهره تفكير عبر الجسد. فهو فعل إدراكى يعبّر عن حالة وعى متقدمة يتجاوز فيها الممثل حدود اللغة المنطوقة إلى التعبير بالعضلات، بالأنفاس، بالإيقاع، وبالصمت أحيانًا.
ويستند الكاشف فى هذا الفصل إلى إرثٍ طويل من التجارب المسرحية العالمية التى منحت الجسد مكانةً مركزية فى الأداء، مستعرضًا محطات فكرية وفنية من جروتوفسكى وأرتو وباربا وسوزوكى، الذين سعوا جميعًا إلى تحرير الجسد من سلطة الكلمة وإعادته إلى دوره الأصلى كمصدرٍ للطاقة والدهشة. ففى منظور الكاشف، الممثل التجريبى لا يتعامل مع جسده كآلةٍ لتأدية الإيماءات، بل ككائنٍ روحى يحمل ذاكرة الأجيال والخبرات، وينقلها عبر الحركة والإيماء والإيقاع الداخلى.
ويُطوّر الكاشف فى هذا السياق فكرة شديدة الجمال مفادها أن الجسد ذاكرةٌ حيّة، وأن كل حركة يؤديها الممثل تحمل تاريخًا من التجارب الإنسانية المتراكمة فى لاوعيه. ولهذا، فإن تدريب الممثل على الوعى الجسدى لا يعنى فقط إتقان الحركة، بل يعنى أيضًا استحضار ذاكرة الجسد، وتنظيفها من شوائب العادة والتكرار. فالتجريب، كما يراه الكاشف، هو تحرير الجسد من أسر العادات، وفتح قنوات جديدة للتعبير، تُعيد للممثل حسّه البدائى الأول بالحياة والحركة والدهشة.
ويتوقف المؤلف مطولًا أمام مفهوم «الوعى الجسدي» الذى يعدّه أحد أهم عناصر التجريب فى فن التمثيل. فالوعى الجسدى عنده لا يقتصر على معرفة الجسد من الخارج، بل يمتد إلى إدراكه من الداخل، إلى الإحساس الدقيق بتوتر العضلات، وتناغم التنفس، وميزان الطاقة بين الصمت والصوت، وبين الثبات والحركة. ومن خلال هذا الإدراك العميق، يصبح الجسد ليس وسيلة للتعبير فحسب، بل وسيلة للفكر نفسه. فالممثل فى لحظة أدائه لا يفكر بعقله فقط، بل بجسده أيضًا، والجسد هنا يصبح امتدادًا للوعى لا أداته.
ولعل أجمل ما يطرحه الكاشف فى هذا الفصل هو رؤيته للجسد بوصفه نظامًا من الرموز قادرًا على إنتاج المعنى دون وساطة اللغة. ففى المسرح التجريبى، يتقدّم الجسد إلى مقدمة المشهد بوصفه لغةً مستقلة، تُبنى عليها الدراما من دون الحاجة إلى الحوار الكثيف. فالحركة – فى نظر الكاشف – يمكن أن تكون فعلًا دراميًا قائمًا بذاته، قادرًا على توليد الدلالة والانفعال من خلال علاقته بالمكان والزمان والإيقاع.
ولذلك، يرى المؤلف أن تدريب الممثل يجب أن يتجاوز التعليمات الشكلية إلى بناء حسٍّ جسدى داخلى، يجعل الممثل قادرًا على ابتكار لغته الخاصة فى كل عرض جديد.
وفى إطار هذا الطرح، يناقش الكاشف فكرة «التحرر من الجسد اليومي» باعتبارها الخطوة الأولى نحو الجسد المسرحى. فالممثل فى حياته اليومية يتحرك بطريقة مشروطة بالعادات الاجتماعية والوظيفية، أما فى المسرح التجريبى، فعليه أن يتحرر من هذا القيد ليخلق جسدًا جديدًا، أكثر وعيًا بالمساحة والزمن والآخر. ومن هنا، يصبح التجريب الجسدى عملية خلقٍ ثانية للجسد، تشبه إلى حدٍّ بعيد عملية خلق اللغة الشعرية من اللغة العادية.
فكما يُحرّر الشاعر الكلمة من معناها القاموسى لتصبح طاقةً جمالية، يُحرّر الممثل التجريبى الجسد من حركته اليومية ليصبح لغةً درامية جديدة.
ويمتد التحليل ليصل إلى نقطةٍ بالغة الدقة حين يربط الكاشف بين الجسد والروح، مؤكدًا أن «التمثيل الحقيقى لا يحدث فى الجسد وحده، بل فى تلاقى الجسد مع الروح». هذه الفكرة، التى تذكّر بطرح «أنطونين آرتو» فى مسرح القسوة، تُعيدنا إلى أصل التجربة المسرحية بوصفها طقسًا روحيًا وجسديًا فى آنٍ واحد. فالممثل حين يدخل حالته الأدائية، لا يستخدم جسده كما يستخدم الحرفى أدواته، بل يعيش به حالة من الانصهار، فيصبح الجسد وعاءً للانفعال، وحاضنًا للروح، وجسرًا بين المرئى وغير المرئى.
كما يناقش الكاشف الأثر الاجتماعى والإنسانى لهذه الرؤية الجسدية، معتبرًا أن المجتمع الحديث قد اختزل الإنسان فى بعده العقلى أو التقنى، وأهمل الجانب الجسدى كمنبعٍ للمعرفة والوعى. ومن هنا، يرى أن إعادة الاعتبار للجسد فى تدريب الممثل هى إعادة اعتبار للإنسان نفسه. فالممثل الذى يتصالح مع جسده ويتعرّف على طاقاته وحدوده يصبح أكثر وعيًا بوجوده، وأكثر حرية فى التعبير عن ذاته وموقفه من العالم.
ويستشهد المؤلف بتجارب من المسرح الشرقى، مثل الأداء فى النوح اليابانى والكاتاكالى الهندى، حيث يتمّ التعامل مع الجسد بوصفه وسيلة روحية للتطهير والصفاء، لا مجرد أداةٍ للحركة. وهو فى ذلك يؤكد أن الجسد، حين يتحوّل إلى لغةٍ واعية، يصبح قادرًا على التواصل مع الجمهور على مستوى ما قبل الكلمة، أى على مستوى الإحساس الصافى والمشترك بين البشر.
ويُختتم هذا الفصل بفكرة فلسفية بديعة مفادها أن التجريب الجسدى هو فعل وجودى ضد التكلّس، وأن الممثل الذى يتوقف عن الإصغاء إلى جسده يفقد صلته بالحياة. فالجسد عند الكاشف ليس مجرد أداة تمثيل، بل وثيقة وجود تشهد على لحظة التقاء الإنسان بفنه وبالعالم من حوله. ومن ثم، فإن تدريب الممثل على الوعى الجسدى هو فى الحقيقة تدريب على الحياة نفسها: على الإصغاء، على التوازن، على الصدق، وعلى الحرية.
وبذلك، يُصبح هذا الفصل بمثابة بيانٍ فلسفى للجسد الحيّ، يعلن فيه الكاشف أن التجريب فى المسرح لا يمكن أن يُختزل فى المنهج أو الأسلوب، بل يجب أن يبدأ من الجسد بوصفه الحقل الأول للتجربة والمعرفة والإبداع. فكما لا يمكن أن يوجد فكر بلا لغة، لا يمكن أن يوجد تمثيل بلا جسدٍ واعٍ، قادرٍ على أن يفكّر، ويتذكّر، ويحلم، ويعبّر دون أن يتكلّم.
الفصل الرابع: الممثل بين التدريب والتعلّم — من الانضباط التقنى إلى الوعى الإبداعي
فى هذا الفصل، يقدّم الدكتور مدحت الكاشف أحد أكثر الطروحات عمقًا ونضجًا فى الكتاب، إذ يتناول العلاقة الجدلية بين مفهومى التدريب والتعلّم فى تكوين الممثل، بوصفها علاقة متحركة تتجاوز حدود التقنية إلى رحابة الوعى الإنسانى.
فالممثل فى رؤيته ليس متدرّبًا يكتسب مهارات أداء فحسب، ولا متعلّمًا يتلقّى معرفة جاهزة، بل هو كائن فى حالة تعلّم دائم، لا يفصل بين الجسد والعقل، ولا بين الممارسة والمعرفة، لأن التدريب عند الكاشف هو وسيلة لاكتشاف الذات بقدر ما هو وسيلة لاكتساب المهارة.
يرى الكاشف أن مصطلحى «التدريب» و«التعلّم» كثيرًا ما يُساء فهمهما فى سياقات المسرح العربى. فكلمة التدريب توحى أحيانًا بالتكرار والانضباط الآلى، بينما التعلّم يُفهم باعتباره نشاطًا ذهنيًا نظريًا. لكن الحقيقة، كما يوضح المؤلف، أن كلا المفهومين يتكاملان فى التجربة المسرحية، إذ لا يمكن أن يكون هناك تعلّم حقيقى بلا ممارسة، ولا ممارسة خلاقة بلا وعيٍ نقدى ومعرفى.
وهكذا، يصبح الممثل فى نظر الكاشف كالعالم الذى يُجرّب ويكتشف ويُعيد صياغة فرضياته من خلال التجريب العملى المستمر.
ينطلق الكاشف من قاعدة أساسية مفادها أن التدريب هو شكل من أشكال المعرفة التطبيقية، وأن الممثل الذى يتعامل مع التمارين بوصفها واجبًا ميكانيكيًا يفقد جوهرها الفنى. فالتدريب فى المسرح ليس إعدادًا للجسد فحسب، بل إعداد للوعى أيضًا، لأن كل تمرين يحمل فى طياته سؤالًا معرفيًا حول الإدراك، والإحساس، والتفاعل، والوعى بالزمان والمكان. لذلك يؤكد الكاشف أن التدريب هو «مختبر الوعى»، وأن الممثل أثناء التمرين لا يُعيد تنفيذ تعليمات بل يعيش رحلة بحثٍ معرفية يكتشف فيها إمكاناته الكامنة.
ولإبراز هذا المفهوم، يعقد الكاشف مقارنات دقيقة بين مدارس التدريب العالمية. فيبدأ بمدرسة ستانسلافسكى التى جعلت التدريب وسيلة للوصول إلى «الصدق الداخلي»، ثم ينتقل إلى جروتوفسكى الذى نظر إلى التدريب كوسيلة لتطهير الجسد والعقل معًا، ثم إلى سوزوكى وباربا اللذين جعلا من التدريب طقسًا جسديًا وروحيًا يمهّد للوصول إلى «الحضور الكامل».
ومن خلال هذا المسار المقارن، يوضح المؤلف أن كل تلك التجارب، على اختلافها، تشترك فى هدفٍ جوهري: تحقيق الوعى الذاتى لدى الممثل، لأن الممثل الذى يتدرّب دون وعيٍ بما يفعل لن يتعلّم شيئًا، والممثل الذى يتعلّم دون ممارسة سيظل أسير النظرية.
ثم ينتقل الكاشف إلى تفصيل العلاقة بين التدريب والانضباط، مؤكدًا أن الحرية الإبداعية لا تتناقض مع الانضباط، بل تنبثق منه. فالممثل الذى يُخضع جسده وعقله لنظامٍ من التمارين اليومية لا يفعل ذلك بدافع القسر، بل من أجل أن يبلغ التحرّر المنضبط — أى تلك الحالة التى يصبح فيها الجسد مستجيبًا لعقل الممثل، والعقل منفتحًا على طاقات الجسد.
ويشبه المؤلف هذه العلاقة بعلاقة الموسيقى بآلته: فالموسيقى الذى لا يتدرّب يوميًا لا يمكنه أن يرتجل بإبداع، لأن الحرية دون تدريب تتحول إلى فوضى، والتدريب دون وعى يتحول إلى رتابة. ومن هنا تأتى فلسفة الكاشف فى هذا الفصل، حيث يرى أن التدريب هو طريق إلى الحرية، لا نقيضها.
وفى محورٍ آخر من الفصل، يطرح الكاشف رؤية تربوية بالغة الأهمية، إذ يؤكد أن دور المخرج أو المدرّب لا يجب أن يكون سلطةً تعليمية تقيد الممثل، بل دور الموجّه والمحفّز. فالتجريب فى التدريب لا يعنى أن يُملى المدرّب قواعد صارمة، بل أن يفتح للممثل فضاءات من الاكتشاف الذاتى. ومن ثمّ، يتحول التدريب إلى حوار مفتوح بين المدرّب والممثل، حيث تُستبدل العلاقة الرأسية (المعلم/التلميذ) بعلاقةٍ أفقية قائمة على التبادل الفكرى والبحث المشترك.
ويستشهد الكاشف هنا بمدارس تربوية حديثة، مثل فلسفة «باولو فريري» فى التعليم الحوارى، مؤكدًا أن الممثل لا يتعلّم عندما يُلقَّن، بل عندما يُتاح له أن يجرّب ويخطئ ويعيد المحاولة.
ويفصّل المؤلف كذلك فى أن الممثل الحقيقى لا يتدرّب لأجل عرضٍ بعينه، بل لأجل أن يكون حاضرًا فى كل لحظة من حياته الفنية. فالتدريب عنده حالة دائمة من اليقظة، لا مرحلة مؤقتة تسبق العرض. ولهذا، فالممثل الذى يظن أن التدريب ينتهى بمجرد صعوده إلى الخشبة هو ممثل توقف عن النمو. أما الممثل التجريبى، فيعيش فى حالة تعلّم مستمرة، لأن كل عرضٍ جديد يقدّمه هو تجربةٌ جديدة للتدريب ذاته، إذ يختبر بها أدواته من جديد.
ويذهب الكاشف أبعد من ذلك حين يرى أن التعلّم المسرحى لا يقتصر على الجوانب التقنية أو الجمالية، بل يمتد إلى الجانب الإنسانى. فالتدريب، فى جوهره، تربية روحية وسلوكية. إنه يعلّم الممثل الصبر والانضباط والتواضع والإنصات للآخرين، وهى قيم لا تنفصل عن الإبداع. ومن هنا يصبح التدريب التجريبى مساحة لتربية الإنسان قبل الفنان، إذ يعلّمه كيف يعيش اللحظة، وكيف يتعامل مع الجسد بوصفه صديقًا، ومع الآخر بوصفه مرآةً للذات.
ويتطرق المؤلف أيضًا إلى أهمية الزمن فى التدريب، مشيرًا إلى أن الإبداع لا يولد فى العجلة، وأن الممثل لا يمكن أن يتقن أدواته فى بيئة تفتقد الصبر. فالتجريب عنده عملية تراكمية تحتاج إلى وقتٍ طويل من التكرار والتأمل. وهنا يستحضر مفهوم «التدرّب عبر الزمن» الذى يشبه إلى حدٍّ بعيد فكرة «التصوّف الفني»، حيث يتحول التدريب إلى ممارسة يومية تشبه الصلاة أو التأمل، لا هدفها إتقان التقنية فحسب، بل بلوغ صفاءٍ روحى وجمالى.
ويختم الكاشف هذا الفصل بتأكيد أن العلاقة بين التدريب والتعلّم هى علاقة جدلية لا تنفصم، وأن الممثل الحقيقى هو من يوحّد بين الاثنين فى تجربته اليومية. فالتجريب فى هذا السياق ليس غايةً بل وسيلة لتجديد الوعى والفكر، ولإبقاء الممثل فى حالة حيوية دائمة. ومن ثمّ، يصبح التدريب فعل مقاومة ضد الجمود، والتعلّم فعل مقاومة ضد الجهل، وكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة اسمها الحياة الفنية.
وفى هذا المعنى العميق، يغدو هذا الفصل بمثابة درسٍ فلسفى فى التربية الإبداعية، إذ يؤكد الكاشف أن المسرح لا يعلّم الأداء فحسب، بل يعلّم الوجود نفسه. فكل تمرينٍ يمرّ به الممثل هو تدريبٌ على الإصغاء للحياة، وكل تجربةٍ على الخشبة هى تعلّمٌ جديد لما يعنيه أن تكون إنسانًا حاضرًا بكلك — جسدًا وعقلًا وروحًا.
الفصل الخامس: إعداد الممثل للدور وتطوير الشخصية التمثيلية — من التجربة إلى الخلق
يُعدّ هذا الفصل بمثابة ذروة البناء الفكرى والجمالى فى كتاب «التجريب فى تدريب الممثل»، إذ يجمع فيه الدكتور مدحت الكاشف بين نتائج الفصول السابقة ليقدّم رؤية متكاملة حول التحوّل من التدريب إلى الأداء، ومن الوعى إلى الخلق الفنى. فبعد أن استعرض فى الفصول السابقة علاقة الممثل بذاته وجسده وفكره، ينتقل هنا إلى المرحلة التى تتجلّى فيها كل تلك العناصر على الخشبة: مرحلة بناء الشخصية التمثيلية.
ويقدّم الكاشف هذا الموضوع ليس من منظور تقنى بحت، بل من زاوية فلسفية وإنسانية ترى فى عملية إعداد الممثل للدور تجسيدًا لمفهوم التجريب كرحلة خلقٍ مستمرة.
يبدأ المؤلف هذا الفصل بتفكيك المفهوم التقليدى لـ «الشخصية المسرحية» الذى اعتاد كثير من الممثلين التعامل معه كقالبٍ ثابت أو صورةٍ جاهزة تُستعاد من النص. ويؤكد أن هذا الفهم يقتل التجريب ويحوّل الأداء إلى عملية تكرارٍ ميكانيكية. أما فى الرؤية التجريبية، فالشخصية ليست كيانًا مكتملًا، بل كائن يتكوّن أثناء الأداء. إنها تولد فى لحظة التمثيل الحيّ، وتتشكّل وفق التفاعل بين الممثل والنص والجمهور والمكان واللحظة الزمنية. ومن هنا يصبح إعداد الدور عملية «ولادة» متجددة، لا إعادة تمثيلٍ لشىءٍ معروف سلفًا.
ويطرح الكاشف هنا مفهومًا شديد العمق، هو أن الممثل لا يصنع الشخصية بل يكتشفها. فالشخصية ليست خارج الممثل، بل كامنةٌ فيه، تنتظر أن تُستخرج عبر التجريب. وهذا الاكتشاف لا يتم إلا من خلال التمارين والبحث الجسدى والنفسى، حيث يتحوّل التدريب إلى رحلةٍ داخل الذات، تستنطق الذاكرة والانفعال والخيال معًا. وهنا يلتقى الممثل مع ذاته الحقيقية من جديد، لكن عبر مرآة الفن، ليجد أن كل شخصيةٍ يؤديها تحمل جزءًا منه، تمامًا كما تحمل روحه شيئًا من كل شخصيةٍ جسّدها.
ولعلّ أجمل ما فى هذا الفصل هو تأكيد الكاشف أن إعداد الممثل للدور لا يبدأ من قراءة النص، بل من الإصغاء إلى الصوت الداخلى للشخصية، ومن البحث فى «ما وراء الكلمات». فالممثل التجريبى لا يقرأ النص بعينه، بل بجسده وبحدسه وذاكرته. لذلك، فإن التجريب فى هذه المرحلة لا يعنى كسر النص، بل إعادة الحياة إليه. فالنص فى المسرح التجريبى ليس سلطةً مطلقة، بل مادة حية تتشكل فى يد الممثل، الذى يمنحها نبضها الإنسانى من خلال الأداء.
ويقدّم الكاشف رؤية دقيقة لآلية بناء الشخصية، فيشير إلى أن الممثل يجب أن يبدأ من الدوافع الداخلية للشخصية قبل سماتها الخارجية، لأن الانفعال الصادق هو الذى يخلق السلوك، وليس العكس. فالممثل الذى يقلّد سلوك الشخصية دون أن يفهم دوافعها يظل أسير الشكل. أما الذى ينفذ إلى عمقها فيعيشها من الداخل، فإنه يحرّرها من القالب. وهنا يبرز جوهر التجريب، فالممثل لا يتقمص الشخصية كما فى الواقعية التقليدية، ولا يبتعد عنها كما فى التغريب البريشتى، بل يعيش منطقة التماس بين الذات والدور، حيث يمتزج الوعى بالانفعال، والعقل بالجسد، والصدق بالخيال.
ويتناول الكاشف كذلك مفهوم «التحوّل» بوصفه أحد أسرار التمثيل التجريبى، إذ يرى أن الممثل حين يؤدى شخصية جديدة يمر بعملية تحولٍ نفسى وجسدى وفكرى شبيهة بالبعث أو التناسخ. وهذا التحوّل لا يعنى فقدان الذات، بل توسيعها. فالممثل لا يذوب فى الشخصية كما يذوب الملح فى الماء، بل يحتضنها داخله ثم يعيد صياغتها بوعيه الخاص.
ومن هنا، يصبح التمثيل التجريبى خبرة وجودية متبادلة: فالممثل يغيّر الشخصية، والشخصية تغيّره بدورها. وهذه العلاقة الجدلية هى التى تمنح الأداء صدقه وفرادته، لأنها تجعل كل عرضٍ جديد تجربة مختلفة لا يمكن تكرارها.
ويُخصّص الكاشف جزءًا من هذا الفصل للحديث عن التقنيات العملية لإعداد الممثل للدور فى ضوء التجريب، مؤكدًا أن الممثل يجب أن يعتمد على أسئلةٍ مفتوحة بدل الإجابات الجاهزة. فبدل أن يسأل: «كيف سأؤدى هذا المشهد؟»، عليه أن يسأل: «لماذا يحدث هذا المشهد؟ وما الذى يحرّكنى نحوه؟». ومن خلال هذه الأسئلة، يبنى الممثل طريقه الخاص إلى الدور، ليصبح التدريب رحلة اكتشافٍ متواصلة، لا منهجًا صارمًا.
ويشدد الكاشف هنا على أهمية ما يسميه «التمرين الوجودي»، أى أن يعيش الممثل الشخصية كحالةٍ من الوجود الحقيقى، لا كتصوّر ذهنى. فالتمثيل لا يتحقق بالعقل وحده، بل حين يتحوّل الوعى إلى جسدٍ نابضٍ بالحياة.
ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن العلاقة بين الممثل والمخرج فى سياق إعداد الدور، فيرفض فكرة التبعية المطلقة، مؤكدًا أن الممثل فى المسرح التجريبى شريك فى الإبداع لا منفّذ للأوامر. فالتجريب فى جوهره يقوم على الحوار، والمخرج المبدع هو من يفتح أمام الممثل مساحةً للتجريب الحرّ، لا من يفرض عليه تصورًا جامدًا. وهنا تتجلى فكرة المسرح كمختبرٍ جماعى، يُشارك فيه الجميع فى خلق التجربة، لا فى تنفيذها فحسب.
ويتطرّق الكاشف أيضًا إلى الجانب الجمالى فى تطوير الشخصية التمثيلية، فيرى أن الجمال فى التمثيل لا ينبع من الإتقان الشكلى، بل من الصدق الوجودى. فالشخصية الجميلة هى التى تلامس الإنسان فينا، والتى تنبض بتناقضات الحياة. ومن ثمّ، فالتجريب لا يسعى إلى الكمال الفنى بقدر ما يسعى إلى كشف العطب الإنسانى، لأن المسرح – فى النهاية – مرآة للإنسان لا صورته المثالية.
إن كل شخصيةٍ تمثيلية، فى نظر الكاشف، هى محاولة لفهم الإنسان فى لحظة ضعفه، فى خطئه، فى حيرته، ولهذا فإن إعداد الممثل للدور هو فى حقيقته تجريب فى فهم الذات البشرية.
ويُبرز الكاشف فى ختام الفصل فكرة فلسفية شديدة الأثر، مفادها أن الممثل فى لحظة تجسيده للشخصية يبلغ ما يسميه «الوجود المزدوج»: فهو فى آنٍ واحدٍ هو نفسه وغير نفسه، صادق ومفتعل، حاضر ومتخيل، واقعى وحلمى. وهذه المفارقة هى جوهر الفن المسرحى، لأنها تتيح للممثل أن يعيش حالاتٍ من التجاوز الدائم للواقع. فالتجريب، فى النهاية، ليس سوى محاولةٍ للعبور إلى مناطق لا تُرى إلا عبر الأداء، ولا تُفهم إلا فى لحظة الخلق.
ومن هنا، يختتم الكاشف كتابه بدعوةٍ إلى أن ينظر الممثل إلى نفسه لا كأداة تمثيل، بل ككائنٍ خالقٍ للحياة الفنية. فإعداد الممثل للدور ليس غاية، بل طريقٌ نحو اكتشاف الإنسان الأكبر داخل الفنان، ذلك الإنسان الذى يتجدد مع كل تجربةٍ جديدة، ويؤكد أن الفن، فى جوهره، ليس إلا بحثًا دائمًا عن معنى الوجود.
الخاتمة: فلسفة التجريب ومعنى أن يظل الممثل إنسانًا فى عصر الذكاء الاصطناعي
يختتم الدكتور مدحت الكاشف كتابه «التجريب فى تدريب الممثل» بما يشبه البيان الإنسانى للمسرح فى زمنٍ تتسارع فيه التحولات التكنولوجية، وتغدو الآلة شريكًا فى الفنون، والذكاء الاصطناعى قادرًا على توليد الأصوات والوجوه والحركات. لكنه، وسط هذا الزخم، يعيد التأكيد على أن الممثل، بكيانه الحى ووعيه وجسده وروحه، يظل الكائن الوحيد القادر على إعادة إنتاج الحياة على الخشبة بصدقها الإنسانى المتفرّد.
فالكتاب، فى جوهره، لا يتحدث عن فن الممثل بقدر ما يتحدث عن الإنسان نفسه — عن طاقته على التجدد، وعن حاجته إلى التجريب بوصفه وسيلة لفهم ذاته ومواجهة العالم.
يرى الكاشف أن التجريب، كما عرّفه عبر فصول الكتاب، ليس ترفًا فكريًا ولا نزوة جمالية، بل هو موقف وجودى من الحياة والفن. إنه طريقة فى التفكير، ونمط فى العيش، وإصرار على أن يظل الفن فعلًا من أفعال الحرية. ففى عالمٍ تتكاثر فيه الصور الرقمية وتتراجع فيه التجارب الحيّة، يصبح التجريب فى المسرح شكلًا من المقاومة: مقاومة التكرار، ومقاومة الزيف، ومقاومة اختزال الإنسان إلى معطياتٍ رقمية أو تمثيلاتٍ افتراضية.
وفى هذا السياق، يتعامل الكاشف مع الممثل لا بوصفه منفذًا للتجارب، بل بوصفه صانع التجربة ذاتها. فالممثل هو من يعيد اكتشاف الإنسان كل مرةٍ يصعد فيها إلى الخشبة، وهو من يذكّرنا بأن الفن لا يُختزل فى التقنية أو الصورة أو التأثير البصرى، بل فى الصدق الإنسانى الذى ينبض من الجسد الحيّ.
هذا الجسد، الذى كرّس له المؤلف فصلًا كاملًا فى الكتاب، يصبح فى النهاية رمزًا للحضور الإنسانى فى مواجهة الغياب الرقمى، وصوتًا حيًا فى عالمٍ تغزوه الآلات الصامتة.
ويطرح الكاشف فى خاتمة رؤيته سؤالًا فلسفيًا كبيرًا:
هل يمكن للذكاء الاصطناعى أن يُدرّب ممثلًا كما يدربه الإنسان؟
ثم يجيب، بوعيٍ فنى عميق، أن الذكاء الاصطناعى قادر على محاكاة الحركة والانفعال، لكنه لا يستطيع أن يشعر. والمسرح، فى جوهره، ليس تمثيلًا للانفعال، بل انفعال حقيقى يُعاد خلقه فى لحظةٍ حيّة.
إنه فن الحضور المباشر، والفعل الآنى، والارتجال، وكلها عناصر تنتمى إلى المجال الإنسانى الخالص. لذلك يؤكد الكاشف أن الممثل هو آخر قلاع الإنسان فى مواجهة الاغتراب التقنى، وأن المسرح التجريبى هو الساحة التى لا تزال تحتفظ بحرارة الروح وصدق التفاعل الإنسانى.
وفى تحليله العميق، يُعيد الكاشف تعريف مفهوم «التجريب» فى ضوء هذه الرهانات الجديدة. فالتجريب فى زمن التكنولوجيا لا يعنى فقط البحث عن أشكال فنية جديدة، بل يعنى البحث عن معنى الإنسان وسط طوفان التقنية. إن الممثل التجريبى فى هذا الزمن عليه أن يجرّب لا فى أدواته فقط، بل فى علاقته بالمتلقى، فى رؤيته للعالم، فى وعيه بجسده وصوته ومكانه فى الوجود. فالتجريب بهذا المعنى يصبح فعل مقاومة ضد الآلية، وضد النمطية، وضد التفاهة المعمّمة.
ويستحضر المؤلف فى هذه الخاتمة بعدًا فلسفيًا متساميًا حين يشبّه الممثل التجريبى بـ«الإنسان الباحث عن الخلاص»، الذى يستخدم الجسد والصوت كوسائل للتطهر والتعبير، لا للزخرفة أو الاستعراض. إنه كائن يقف فى منطقة الحدّ الفاصل بين الواقع والحلم، بين الممكن والمستحيل، محاولًا عبر الفن أن يعيد للوجود معناه.
وهنا تكتمل فلسفة الكتاب: فالتجريب ليس غايةً شكلية، بل بحثٌ مستمر عن الإنسان داخل الفن، وعن الفن داخل الإنسان.
ويمتد التحليل إلى البعد الثقافى لهذه الرؤية، حيث يؤكد الكاشف أن الممثل العربى – والمصرى على وجه الخصوص – يمتلك ثراءً حضاريًا وإنسانيًا يمكن أن يُنتج منه صيغة تجريبية فريدة، لا تقل عن تجارب الغرب، بل تتجاوزها بخصوصيتها الثقافية والروحية. فالمسرح المصرى، الذى وُلد من تربة الطقوس الشعبية والسرد الشفهى والموروث الصوفى، يمتلك قدرة على تحويل التجريب إلى لغة محلية عالمية، تنبع من الذات لتصل إلى الآخر. ومن هنا، يدعو المؤلف إلى أن يكون التجريب العربى استعادةً للهوية عبر الإبداع، لا تقليدًا لتجارب الآخرين.
وفى هذه الدعوة تكمن روح الكتاب الحقيقية: إنها ليست مجرد تنظيرٍ أكاديمى، بل صرخة فنية وإنسانية فى وجه التكلّس، وفى وجه الخوف من التجديد. فالمؤلف يؤمن بأن كل جمودٍ فنى هو موتٌ بطيء للروح، وأن كل تجربةٍ جديدة، مهما بدت مغامرة، هى خطوة نحو استعادة جوهر الفن بوصفه حياةً. ولذلك يصرّ على أن التجريب لا يكون فى الشكل وحده، بل فى الفكر والرؤية والمنهج، وأن كل تدريبٍ حقيقى للممثل هو فى ذاته فعل تجريب، لأنه يُعيد إنتاج العلاقة بين الإنسان والعالم فى كل مرةٍ من جديد.
وفى النهاية، يظهر «التجريب فى تدريب الممثل» كأحد الكتب النادرة التى تجمع بين النظرية والممارسة، بين الفكر والفن، بين الفلسفة والجمال. إنه كتابٌ مكتوب بلغةٍ تجمع بين العمق الأكاديمى والدفء الإنسانى، فتتجاوز صفحاته حدود التعليم إلى فضاء التأمل الوجودى.
ويمكن القول إن الكاشف، من خلال هذا العمل، لم يكتب عن الممثل فحسب، بل كتب عن الإنسان الحديث فى بحثه الدائم عن المعنى، وعن قدرته على تحويل الألم إلى إبداع، والتكرار إلى تجريب، والوجود اليومى إلى لحظةٍ فنيةٍ متجددة.
هكذا يختم الكتاب مسيرته الفكرية بمقولةٍ ضمنية يمكن تلخيصها فى جملةٍ واحدة:
إن الممثل الحقيقى لا يكتفى بأن يُمثّل الحياة، بل يعيشها بعمقٍ، ويُعيد اختراعها على الخشبة فى كل مرة، لأن الفن، كما يقول الكاشف، هو «تجريب دائم فى مختبر الوجود الإنساني».
وبهذا، يظل «التجريب فى تدريب الممثل» علامةً فكرية وجمالية بارزة فى مكتبة المسرح العربى، ومرجعًا لا غنى عنه لكل من يسعى إلى فهم معنى أن يكون الممثل فنانًا ومفكرًا وإنسانًا فى آنٍ واحد، فى زمنٍ تتبدّل فيه المفاهيم وتبقى التجربة الحيّة هى المعنى الأبقى للفن وللحياة معًا.


حسن عبد الهادي