مسرحية مترجمة تبحث عن مترجمها!!

مسرحية مترجمة تبحث عن مترجمها!!

العدد 949 صدر بتاريخ 3نوفمبر2025

أحتفظ تحت رقم «223» بنص مسرحي مخطوط مكتوب بالآلة الكاتبة باللغة الإنجليزية، وهو ترجمة لمسرحية «البوفيه» لعلي سالم، ومكتوب على غلاف الملف بخط اليد «مرفوضة للحفظ»!! وفي داخل الملف وجدت وثائق مرفقة، تبدأ تاريخياً في 7/4/1973 وهو تاريخ مسجل على خطاب رسمي من خطابات الجامعة الأمريكية بالقاهرة، جاء فيه الآتي: “السيد/ مدير إدارة الرقابة والمصنفات، تحية طيبة وبعد. نتشرف بالإفادة بأن طلبة قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سيقدمون مسرحية «البوفيه» باللغة الإنجليزية على مسرح الجامعة الأمريكية. علماً بأن المسرحية سبق أن قُدمت على خشبة مسرح الحكيم في عام 1968. رجاء التكرم بالعلم وإبداء الرأي. وتفضلوا سيادتكم بقبول وافر التحية والاحترام. [توقيع] دكتور «عثمان فراج» مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة».
ولي ملاحظتان على هذا الخطاب، أولهما أن كاتب الخطاب يقول إن المسرحية قُدمت من قبل على مسرح الحكيم، ولكنه لم يقل إنها قُدمت باللغة الإنجليزية، بل يقصد أنها مُثلت بالعربية أمام الجمهور، أي أن التصريح بتمثيلها تم بالفعل من قبل، مما يعني أن التصريح بتمثيلها مرة أخرى وفي داخل الجامعة الأمريكية أمر مفروغ منه وتحصيل حاصل .. هكذا توهم صاحب الخطاب!! والملاحظة الأخرى أن الخطاب لم ينص على اسم المترجم، بل الصياغة توحي فقط بأن الطلبة سيقدمون المسرحية على خشبة مسرح الجامعة، فهل هذا يعني أن الطلبة هم أصحاب الترجمة، أم أن كاتب الخطاب هو المترجم كونه أستاذاً في الجامعة؟!! هذا أمر غير واضح ويحتاج إلى بحث!!
وبالعودة إلى الوثائق المرفقة بالنص، وجدت تقريراً للرقيبة «نبيلة حبيب» قالت فيه: “غرفة مكتب واسعة بها مكتبة هائلة تحتل الحائط كله. مكتب فخم يجلس خلفه مدير المسرح على كرسي ضخم وبجواره أباجورة كبيرة. يطلب المدير من عامل البوفيه إدخال المؤلف لمناقشة مسرحيته التي قدمها .. يقابل المدير المؤلف بابتسامة مهذبة ويرحب به ويطلب له تحية، ويظلا يتبادلان المجاملات. ولكن المؤلف يطلب من المدير مناقشة المسرحية ويشير المدير على المؤلف بحذف كلمة من المسرحية، ويرفض المؤلف ويهدد المدير بكل الطرق لحذف الكلمة وإملاء شروطه ولكن المؤلف يتمسك بموقفه ويهدد المدير بضرورة التغير وينهار المؤلف من كثرة الضغط عليه ليعترف ولا يجد المؤلف ما يعترف به ويصمم المدير على معرفة الحقيقة وأن المؤلف يخفي شيئاً وينفي المؤلف معرفته بشيء أو بأفراد ولكن المدير يضيق عليه الخناق وينهار المؤلف تماماً. ويطلب له المدير شراب الكركديه الذي دائماً يشربه حتى يوافق على كل طلبات المدير ويبدأ في مناقشة سلطة المدير الذي يخبره أنها مستمدة من هذا الكرسي الذي يجلس عليه. ويقف المدير لإحضار بعض الأوراق لإتمام التعديلات بالمسرحية ويجلس المؤلف على الكرسي ويبدأ في مناقشة سلطة المدير الذي يخبره أنها مستمدة من هذا الكرسي الذي يجلس عليه ويقف المدير بتذلل أمام المؤلف ويطلب المؤلف عامل البوفيه الذي ينفذ كل طلبات المدير. وينهار المدير ويخاف من التعذيب ويترجى الرحمة ويبدأ المؤلف في احتقار المدير ويترك له الكرسي. وما أن يجلس المدير على الكرسي حتى يعطي المؤلف رزمة أوراق مالية كبيرة يأخذها المؤلف ويوافق على كل التعديلات وهو راض تماماً. ويبدأ المدير من جديد في استقبال المؤلفين. «الرأي»: المسرحية تعرض قضية الكلمة والمؤلفين وأنهم هم الذين يوجهون الشعوب وهم الذين يرسمون السياسة المتكاملة للحياة الاجتماعية بأقلامهم. فتأثير الكلمة على الشعب تأثير رهيب وعليه فأي سلطة لا تسير على الطريق القويم دائماً أبداً تخاف من تأثير الكلمة وسلطان المؤلفين. وعليه تعرض المؤلف أنه أول فئة تتعرض للاضطهاد من الشعب هم المؤلفون والكتاب وأنهم ممكن أن يغيروا بأقلامهم وجه التاريخ .. فالمسرحية صرخة عن اضطهاد المؤلفين والكلمة والضغط المنصب عليهما والكبت الذي يعانون منه. وعليه مما سبق وللظروف الحاضرة لذا أرى عدم التصريح بالمسرحية». وتوجد تأشيرة أسفل التقرير من المدير العام «اعتدال ممتاز»، قالت فيها: «أرجو الموافقة على منع عرض هذه المسرحية للأسباب المتقدمة».
تعمدت نقل تقرير الرقيبة «نبيلة حبيب» بما فيه من أخطاء واضطراب، كي أقارنه بتقرير الرقيبة «شكرية السيد» التي قالت فيه: «الموضوع»: “يتقدم مؤلف بمسرحيته إلى مدير إحدى الفرق المسرحية لكي يناقشه فيها تمهيداً لأدائها على المسرح، ويقابله في بادئ الأمر بكل ترحيب واحترام وابتسام، ويقدم له الطلبات من البوفيه ويتفاءل المؤلف بهذا الاستقبال الحار، ولكن سرعان ما يطلب منه المدير أن يعدل في النص وفي كلمة واحدة بالذات هي «يا ابن الكلب» ويتشبث المؤلف برأيه لأن هذه الكلمة موضوعة في مكانها المناسب ولا يستطيع أن يحذفها أو يعدلها ويتعقد الموقف بينهما ويمتد إلى حد السباب بينهما، ويفهمه المؤلف أن المسرح فن، والفن هو الحرية، والحرية أن يكتب الإنسان ما يحس به ويريده، ولكن المدير يخبره على شرب نوع معين من الشراب ويقوم بتعديل النص فوراً، ويرفض المؤلف لأنه لا يحب هذا الصنف من الشراب، ولما كانت حاجة المؤلف ماسة إلى النقود ثمن المسرحية فيضطر لشرب الشراب وعمل التعديل المطلوب ليس فقط في كلمة واحدة كما سبق أن طلب المدير ولكن في نص المسرحية كله، ويحاول المؤلف أن يقنع عامل البوفيه ألا يأتي بمشروب لا يحبه الزبون ولكن عامل البوفيه لا يرد وكأنه لا يسمع يحاول المؤلف أن يصرخ في وجهه ولكن المدير يُفهمه أن هناك عقداً يرتبط به عامل البوفيه بأن الذي يجلس على كرسي المدير هو الذي يطلب، والذي يجلس على الكرسي الآخر (أي الكرسي الذي يجلس عليه المؤلف، أو غيره من الناس) هو الذي يشرب ويرضخ ويطيع طاعة عمياء، فيطلب المؤلف من المدير ورقاً أبيض للكتابة، وعندما يتحرك المدير من كرسيه يندفع المؤلف جالساً على كرسي المدير، ويبدأ في إلقاء التعليمات والأوامر إلى المدير الذي يرتبك ويتغير أسلوبه في الكلام، ويوافق المؤلف على طول الخط على كل ما يقوله ويقترحه ويتذلل له خاصة عندما يقول المؤلف له إن حكاية التعامل مع الكراسي حكاية في منتهى الخطورة وأن هذا العقد لابد أن يتغير فوراً، ولكن المؤلف يرى ألا فائدة من الكلام مع المدير لأن المدير لن يفهم وكذلك عامل البوفيه لن يتغير لأن العقد الذي يرتبط به نافذ المفعول، فيقوم من على كرسيه ويتقدم به للمدير ليأخذ مكانه الأصلي ويطلب الورق الأبيض ويقوم بتعديل المسرحية تعديلاً جذرياً ويسلمها للمدير ويقبض الفلوس وينصرف. «الرأي»: مسرحية رمزية بها من الإسقاطات الكثير، أولاً: تتعرض لعلاقة الحاكم بالمحكوم أو الرئيس بالمرؤس أو المدير وبالعملاء وأن الأول هو الذي يحكم ويأمر ويلقي بالتعليمات دون نقاش والثاني هو الذي ينفذ ويطيع طاعة عمياء وبلا نقاش. ثانياً: بها كثير من السباب والقذف العلني الزائد عن الحد والخارج عن حدود الأدب، فقد أتى بهذا السباب فقط ليؤكد ذاتية المدير ومدى بطشه وسيطرته على مرؤسيه ممن يتعامل معهم بحكم مركزه. ثالثاً: الجهل التام بعقلية الحاكمين والذين يجلسون في مكان الصدارة، الذين لا هم لهم إلا إثبات وجودهم على كراسيهم فقط وأن لغة التخاطب بين الرئيس والمرؤس هي لغة الوضع بين الكراسي (هذا كرسي الرئيس وهذا كرسي المرؤس). رابعاً: أسلوب الجمود والبطش الكاذب، وعدم المرونة والسيطرة على المركز أو الكرسي الذي يعتليه الإنسان، وسياسة عدم التغيير أو التطور مجاراة للأساليب الحديثة في العمل. خامساً: لذلك أرى عدم الترخيص بعرضها».
وفي نهاية هذا التقرير كتبت مديرة عام الرقابة «اعتدال ممتاز» تأشيرة، قالت فيها: «هذه المسرحية تعالج كبت حرية الكلمة وحرية الفرد حيث يتحكم أصحاب الكراسي من أصحاب الرأي ويرغمونهم بسلطانهم ومالهم على الخضوع والتسليم، مما لا يتفق عرضه والفترة الدقيقة التي تمر بها بلادنا والتي تدعو إلى تضافر القوى رؤساء ومرؤسين حكام ومحكومين .. والذي يزيد من حساسية هذه المسرحية أنها مترجمة إلى اللغة الإنجليزية وستعرض على جمهور بعضه من الأجانب والأوروبيين وموضوعها وأحداثها فيها مساس وصور غير مشرفة لمجتمعنا فكأننا بهذا نسيء إلى سمعة بلادنا في الداخل والخارج .. أرجو الموافقة على المنع وشكراً».
يتضح لنا مما سبق أن إجماعاً من قبل الرقباء على رفض المسرحية، لأنها تشوه صورة المجتمع المصري، وتظهره بأن أسياداً يجلسون على كراسي السلطة أو يملكون المال، يتحكمون في المرؤوسين أو فيمن يحتاجون إلى المال من أجل العيش، لدرجة تغيير الضمائر والآراء والكتابات!! لكن «اعتدال ممتاز» - مديرة الرقابة – توقفت عند أمرين مهمين: الأول أن الظروف الحالية غير مناسبة لعرض مثل هذه المسرحية، وكانت تقصد حينها فترة ما بعد هزيمة يونية 1967 وحتى حرب الاستنزاف وقبيل اندلاع حرب أكتوبرا!! والأمر الآخر يتعلق بأن المسرحية ستعرض باللغة الإنجليزية، وداخل الجامعة الأمريكية وأمام الأجانب، مما يعني تعرية المجتمع المصري أمام الأجنبي الذي سينقل مثل هذا التعري للمجتمع إلى الخارج، أو على أقل تقدير سيرسخ في وجدانه، وهذا يُعد تشويهاً لمصر داخلياً وخارجياً.
حقيقة لا أعلم ماذا تم في أمر هذا العرض، وأتمنى أن يقرأ هذا الموضوع أحد المشتغلين فيه، وبالأخص الطلاب، ربما أحدهم مازال على قيد الحياة!! أقول هذا لأنني أشعر بأن ضغطاً مورس على العاملين على هذا العرض المسرحي، وربما وصل الضغط إلى التهديد!! والسبب في ذلك إنني وجدت بعد تأشيرة المديرة السابقة بأكثر من عشرين يوماً – وهي فترة طويلة نوعاً ما في التعامل الرقابي مع النصوص – ورقة كانت الأخيرة في الوثائق الرقابية المرفقة بالنص، عنوانها «مسرحية البوفيه» وموقعة من «عدلي نور» ومؤرخة في 31/5/1973، ويقول فيها عدلي نور: حضر إلينا الدكتور «رمزي مصطفى» مخرج هذه المسرحية لفريق الجامعة الأمريكية، وأخبرني بأن تمثيل هذه المسرحية قد أرجئ نهائياً بالنسبة لسفره إلى الخارج. ولما كان هذا بمثابة سحبه للمسرحية فضلاً عن أن المسرحية مرفوضة وغير مجازة. لهذا أرجو الموافقة على حفظها وشكراً. [توقيع] «عدلي نور»”.
هكذا تم إنهاء معاناة هذه المسرحية مع الرقابة، وهي معاناة ظلت مجهولة طوال أكثر من خمسين سنة (نصف قرن ويزيد)، لولا حصولي على ملفها الرقابي!! ولكن ما يهمني معرفته الآن - وهذا دور الباحثين مستقبلاً – من هو مترجم هذه المسرحية؟!! هل طلاب الجامعة الأمريكية، كما يوحي خطاب طلب الترخيص من الرقابة، رغم عدم التأكيد على ذلك؟ أم أن المترجم هو الدكتور «عثمان فراج» بوصفه مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية، كون طلبة قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية هم من سيمثلون هذه المسرحية؟!! أم أن المترجم هو مخرج المسرحية الدكتور «رمزي مصطفى» الذي أوقف العمل لدواعي سفره؟! ومهما كان المترجم، سواء كانوا الطلبة أو مدير قسم الخدمة العامة، أو مخرج المسرحية، فالنص المسرحي المكتوب باللغة الإنجليزية مازلت محتفظاً به، وليس عليه أي اسم لمترجمه!! فهل سيظهر باحث في المستقبل ويهتم بهذا النص ويثبت اسم مترجمه، وربما يقوم بتمثيله، أو نشره بعد تحقيقه .. إلخ
وإذا أردت أن أدلي برأيي في هذه الإشكالية، سأقول إنني أرجح أن مترجم هذه المسرحية هو مخرج المسرحية – أو من كان سيخرجها لولا سفره – الدكتور «رمزي مصطفى»، وذلك لعدة أسباب، منها: أن الدكتور «رمزي السيد مصطفى» (1926 – 2015)، عمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة مع إنشاء قسم للديكور المسرحي بفرع الخدمة العامة بالجامعة، وهو القسم الذي كان سيقوم طلبته بتمثيل المسرحية!! وحسب الوثيقة الأخيرة التي تقول إن المخرج سحب المسرحية وأوقفها بسبب سفره، سنجد أن الدكتور رمزي مصطفى سافر عام 1973 – عام بحث المسرحية من قبل الرقابة والرقباء – للاشتراك في المعرض المصري باليابان، ومعرض الفن التشكيلي بالرباط!! كما أن السيرة الذاتية للدكتور تقول إنه ترجم بعض الكتب والمسرحيات من الإنجليزية أو العربية!! كل هذا يثبت – أو يشير وبقوة – أن الدكتور رمزي مصطفى هو مترجم هذه المسرحية .. والأمر يحتاج إلى جهد بحثي مستقبلاً من قبل أحد الباحثين المهتمين بالترجمة، أو على أقل تقدير تهتم بالأمر الجامعة الأمريكية وتحاول إنقاذ هذا النص بنشره أو إحياء العرض مرة أخرى وتقوم بتمثيله.


سيد علي إسماعيل