العدد 952 صدر بتاريخ 24نوفمبر2025
مقدمة: عن خلود الأسطورة وتجدد الرؤية
منذ أن أبصرت شخصية كارمن النور فى رواية بروسبير ميريميه ثم تحولت إلى أوبرا شهيرة لجورج بيزيه، ظلت هذه المرأة المتمرّدة رمزًا للغواية والحرية، امرأة تحيا على حافة الخطر وتواجه الموت بابتسامة عاشقة.
إلا أن العرض الذى قُدم مؤخرًا فى مسرح الطليعة قد أعاد قراءتها من منظور مغاير، حيث اختار المخرج أن يستحضر روح الكلاسيك فى قالب عربى فصيح، ليقدّم معالجة بصرية ودرامية تزاوج بين الأصالة الأوروبية والوجدان المصرى، معلنًا منذ اللحظة الأولى أن المسرح ليس مرآة للنص بل مساحة لإعادة كتابته بعين الحاضر.
---
أولًا: البنية السردية وتقنية الفلاش باك
اختار المخرج ناصر عبد المنعم، أن يتعامل مع النص الكلاسيكى لا بوصفه حكاية عن الحب والغيرة فحسب، بل كرحلة داخل وعى البطلة، ولذلك استخدم تقنية الفلاش باك ثلاث مرات رئيسية:
فى مشهد السجن، ومشهد التعرف على الزوج السفاح، ومشهد اللقاء بمحارب الثيران. الفلاش باك هنا ليس تكرارًا زمنيًا، بل بنية سيميائية تكشف عن تشظّى الذاكرة وعن صراع الذات مع مصيرها.
فكل عودة للماضى تفتح طبقة جديدة من الدلالة، وتحوّل الزمن إلى فضاء نفسى دائرى لا بداية له ولا نهاية، حتى ليصبح تكرار مشهد النهاية فى الختام تكرارًا مقصودًا يؤكد فكرة القدر المغلق الذى لا فكاك منه. هكذا يغدو الزمن نفسه علامة على الحتمية التراجيدية، ويتحول السرد المسرحى إلى بنية دائرية تحاكى الدوران الأبدى بين الرغبة والفناء.
ثانيًا: سيميائية المكان والديكور
يُعدّ الديكور فى هذا العرض نظامًا دلاليًا متكاملًا، إذ يتحوّل المكان من إطارٍ بصرى إلى نصٍّ موازٍ للحكاية. المخرج اعتمد على ديكور ثابت فى هيئة حانة مكتظة بزجاجات الخمر ومقاعد خشبية، رمزًا لعالم الغواية والانفلات، يقابله ديكور متحرك يتبدل وفق السياق الدرامى:
أوراق التاروت التى تفتح باب المصير، بانر متغير يصوّر شوارع إشبيلية ومصنع التبغ وسوق المدينة، وسجن حديدى يعكس القيود الخارجية، بينما الغرفة التى تُقرأ فيها التاروت تمثل السجن الداخلى للبطلة - سجن الرغبة والخطيئة. فى هذا التكوين، يتحول المكان إلى سيمياء مزدوجة:
فالحانة رمز للجسد، والسجن رمز للقدر، وأوراق التاروت تمثل النص الموازى الذى يقرأ المستقبل ويكتبه فى آن. وبذلك يصبح الديكور مرآة لرحلة كارمن من الحرية إلى الفناء، ومن الجسد المنطلق إلى المصير المحكوم سلفًا.
ثالثًا: سيميائية الجسد والأداء
كارمن فى هذا العرض ليست مجرد امرأة جميلة، بل جسد يكتب اللغة على الخشبة. حركاتها الراقصة تتجاوز الإغراء إلى الفعل الوجودي:
هى ترقص كى تبقى، وكى تقاوم. يقدّم المخرج الجسد هنا باعتباره نصًّا سيميائيًا يحمل تناقضات الأنثى: الطهارة والفتنة، البراءة والذنب، الحياة والموت. وقد عبّر عن هذا التناقض بعبارة مكثفة تقول الكثير: «كارمن روح شريفة ذات جسد عاهر، جميلة جدًا لتموت، قاسية جدًا لتعيش.» الرقصات جاءت متباينة فى الإيقاع والحركة، لكل مشهد لغته الجسدية الخاصة:
فى مشهد المصنع تنبض الحركة بصرامة جماعية، وفى الحانة تتفكك الخطوات فى فوضى الغواية، أما فى السجن فتصبح الحركة بطيئة متقطعة كأنها نَفَس يحتضر. الجسد إذًا يتحول إلى علامة سردية تكمّل ما تعجز اللغة عن قوله.
رابعا: الأداء التمثيلى بوصفه لغة داخل اللغة
نجحت ريم أحمد فى تجسيد شخصية كارمن بأداء يتجاوز حدود التمثيل إلى حالة من التقمص الكامل،
فقدمت امرأة تشتعل بالحياة وتختنق بها فى آنٍ واحد. جاء نطقها للفصحى مدهشًا فى دقته ودفئه، خاليًا من التكلف، وكأنها تتحدث لغة الروح لا لغة المسرح. أما تعبيرات وجهها فكانت مرآة داخل مرآة: تتلون بانفعالات اللحظة، فتارة تفيض غنجًا وتمرّدًا، وتارة أخرى تنكسر فيها ملامح الكبرياء أمام حتمية القدر. شَعرُها الغجرى المتموّج بدا امتدادًا لحريتها، يهتزّ مع خطواتها فى رقصٍ يختصر التاريخ كله فى شعرةٍ متمردةٍ لا تهدأ. تنوعها فى ملابس الغجريات ما بين الأحمر الفاتح والغامق جعل من الألوان سيمياء للعاطفة ذاتها: الفاتح رمز البدايات واللهفة، والغامق رمز الخطر والاحتراق.
كما أبدعت فى النقلات بين المشاهد، فانتقلت من الغواية إلى الخوف، ومن الصخب إلى السكون، بخفة ممثلة واعية تُمسك بخيوط الدور كما تمسك راقصة التاروت بخيوط القدر. أما ميدو عبد القادر، الذى جسّد دور خوسيه الضابط العاشق القاتل، فقد قدّم أداءً يفيض بالصدق الإنسانى.
استطاع أن يُظهر التناقض بين النظام العسكرى الصارم وبين انكسار الإنسان أمام الحب. وجهه الذى يتقاطع فيه الصراع بين الواجب والرغبة جعل المشهد الأخير لحظة إنسانية خالصة، إذ بدا القتل هنا ليس فعلاً عدوانيًا بل استسلامًا لعشقٍ أكل قلبه حتى الفناء.
بهذا الازدواج بين الاحتراق والاتزان، تحققت المعادلة التراجيدية التى أرادها المخرج: كارمن التى لا تُروَّض، وخوسيه الذى لا ينجو من حبها.
خامسا: سيميائية الألوان والإضاءة
الإضاءة هنا ليست أداة تقنية، بل لغة دلالية مستقلة. تتوزع الألوان وفق البنية الشعورية للشخصيات: الأحمر يرمز إلى العاطفة والخطر والدم، الأصفر يحيل إلى الخداع واللهيب الداخلى، الأزرق يشير إلى الحلم والبرودة والبعد عن الواقع. وفى لحظة الذروة حين تعود النهاية لتتكرر، تمتزج الألوان الثلاثة على الخشبة فى تشكيل بصرى عنيف، كأن الضوء ذاته يعلن تصادُم المصير مع الرغبة، فتغدو الخاتمة بداية جديدة فى دائرة لا تنتهى.
سادسًا: اللغة وفضاء الهوية
اختيار اللغة العربية الفصحى فى عرض يحمل روحًا غجرية كان قرارًا جماليًا بالغ الدقة. فاللغة هنا ليست مجرد وسيلة تواصل، بل علامة هوية ثقافية تربط النص العالمى بالمتفرج العربى، وتمنح الخطاب المسرحى طابعًا احتفاليًا أقرب إلى الشعر الغنائى.
تتحول الفصحى إلى جسر بين الشرق والغرب، تُعيد إلى المسرح العربى قدرته على استيعاب الكلاسيك دون أن يفقد روحه المحلية.
سابعا: دلالات التكرار وبنية القدر
عودة مشهد النهاية ليكون هو ذاته مشهد البداية تمثل ذروة البنية السيميائية للعرض. فالتكرار هنا لا يعنى الاستعادة، بل الاعتراف بالقدر. إنها دورة الحياة والموت التى لا فكاك منها، حيث كل حبٍّ يحمل فى جوهره بذرة فنائه، وكل رقصة على حافة الخطر هى نبوءة بانطفاء قادم. بهذه الدائرة المحكمة، يخلق المخرج ميتاسردًا بصريًا يجعل المتلقى أسيرًا لزمن لا ينقضى، تمامًا كما كانت كارمن أسيرة لرغبتها فى أن تعيش بحرية، حتى لو كلّفها ذلك الموت.
ثامنًا: براعة الإخراج وسيميائية الفلاش باك
يؤكد المخرج ناصر عبد المنعم فى عرضه كارمن أنه من المبدعين القلائل الذين يمتلكون وعيًا بصريًا وسيميولوجيًا متكاملًا؛ فهو لا يستخدم الصورة على الخشبة لمجرد الإبهار، بل يُحمّلها دائمًا دلالات نفسية واجتماعية تتجاوز حدود المشهد إلى عمق الفكرة. وقد جاءت تقنية الفلاش باك فى رؤيته الإخراجية كأداة درامية تُعيد الزمن إلى الداخل لا إلى الوراء، فتحوّل العرض إلى شبكة من المرايا، يتقاطع فيها الماضى بالحاضر فى بناءٍ دائرى يُبرز مأساة البطلة.
فى مشاهد السجن والتعرّف والقتل، لا يُعيد ناصر عبد المنعم تصوير الأحداث بترتيبها الزمنى، بل يقدّمها كاسترجاعات مشبعة بالذاكرة والندم، فتغدو الزمنية ذاتها علامة على اضطراب الذات، وتتحوّل اللحظة المسرحية إلى فضاء يجمع بين التذكّر والاعتراف والنبؤة.
بهذه الحرفية، نجح المخرج فى جعل الفلاش باك وسيلة لقراءة الشخصية لا مجرد بناء سردى، ليتحوّل العرض إلى حلم متكرر، تسعى فيه كارمن إلى الهرب من قدرها، بينما يطاردها مصيرها داخل الدائرة نفسها.
كما أظهر المخرج براعة لافتة فى توظيف الحركة والإضاءة لتأكيد هذا البعد الزمنى المتشظي؛ فكان الانتقال بين المشاهد يتم بانسيابية بصرية تامة، تعكس سيطرته على أدوات العرض وضبطه لإيقاع الصورة المسرحية. هكذا برزت حرفيته الإخراجية فى جعل المشاهد يعيش داخل الذاكرة لا خارجها، ويقرأ الزمن بوصفه علامة، والحدث بوصفه مرآة للروح.
وختاما أقول إن المسرح بوصفه لغة قدر:
يقدّم هذا العرض من كارمن قراءة سيميائية بصرية للصراع الأزلى بين الحرية والقدر، ويعيد اكتشاف الشخصية لا من خلال النص الأصلى، بل عبر العلامات التى تصنعها الأجساد، والألوان، والديكور، والإيقاع. إنه عرض لا يعيد تمثيل الحكاية بل يكتبها من جديد بلغة الصورة. وفى هذا المعنى، يصبح المسرح عند المخرج ليس سردًا للحب، بل طقسًا للكشف عن الإنسان حين يواجه حتميته الأخيرة. وبينما تنطفئ الأضواء على جسد كارمن الملقى، يبقى فى الذاكرة سؤالها الأبدي: هل نعيش كى نحب، أم نحب كى نموت؟
سؤال تكتبه الخشبة بعلاماتٍ من جسد وضوء وصمت، فى واحدة من أكثر القراءات إخلاصًا لروح التراجيديا وجمالها.