يعرف الجمهور فى الجزائر الممثلة صبرينة قريشى، فى حضورها اللافت منذ سنوات على خشبات المسرح، والنجاحات المتتالية التى حصدتها ولا تزال تحصدها. فى العروض التى تشترك فيها مع فريق عمل من الممثلين لا يمكن أن تخطئها العين، وأيا كانت مساحة الدور. فى كل دور تقوم به تضع بصمتها الخاصة، كما يفعل كل فنان يمتلك الموهبة من جهة ولديه القدرة على إدارة هذه الموهبة من جهة أخرى، نجاح قريشى هو فى هذا المزج الجيد من كلا الجانبين، الموهبة وتطويرها بالتجريب الدائم واستغلال الفرص وابتكارها من خلال العمل مع مسارح الدولة فى العديد من المشاريع الفنية أو مع الجمعيات والتعاونيات، والقدرة على إدارة الموهبة بحيث توضع فى كل مرة فى المكان الصحيح، فيتحول كل عمل فنى جديد إلى خطوة مهمة فى طريق ترسيم اسمها كفنانة خاصة لها جمهورها الذى يقطع التذكرة من أجل رؤيتها على المسرح. هذا الحضور، وهذا القَبول هو ما مكّنها أن تحمل على كتفيها مسئولية مونودرام وتنجح فى تثبيت المتلقين فى مقاعدهم إلى آخر العرض ومتابعتها والابتهاج والضحك للمواقف التى تحكيها والتصفيق المطول عليها ضمن مفاصل العرض ثم التصفيق الأطول عند انتهاء العرض. اللافت فى الجزائر أنّ المونودرام صنعة (إذا صحت هذه الصفة) يحتكرها الممثل الرجل إلا فى شواهد معدودة تثبت القاعدة ولا تنفيها، قريشى فى عرض “زهية” تثبت أن المونودرام النسوى يمكن أن يكون ناجحا وناجحا جدا إذا اجتمعت فيه المفردات الفنية المطلوبة أولها الممثلة الكفؤة.تتكئ معظم المونودرامات على القضايا الاجتماعية ولن يكون «زهية» (تأليف وإخراج سيف الدين بوهة) عرضا مختلفا من هذه الزاوية، إنها امرأة جزائرية بسيطة تجد نفسها فى غرفة تحقيق بتهمة الاعتداء والضرب وإلحاق الأضرار بممتلكات الغير. من خلال أجوبتها على أسئلة محقّق لا نراه، تروى زهية سيرتها منذ الطفولة داخل بيت تهيمن عليه سلطة الذكور: أم مسنّة ألقت بشؤون البيت على كتفى ابنتها وستة إخوة يستغلّونها ويعاملونها كخادمة. تتكفّل برعايتهم جميعا ثم تزويجهم، يأخذ كل واحد غرفة إلى أن لا يبقى لها مع أمها إلى المبيت فى المطبخ، ثم تتولّى رعاية أبناء إخوتها كما رعتهم هم، يتحوّل البيت بل المطبخ وحده إلى فضاء للرعاية الجماعية يُلغى فيه وجودها الشخصى. فى لحظة وعيٍ متأخرة وبعد سنوات من خدمة إخوتها وزوجاتهم وأبنائهم تكتشف عبث هذا الدور حين تطلب منها ابنة أحد إخوتها أن تربى أطفالها أيضا كما ربتها هى وإخوتها وأبناء أعمامها، يروى المونودرام أيضا بتفاصيل كوميدية علاقتها برجل يدعى «السعيد»، عامل بسيط فى ورشة بناء، تراه رمزا لأمل عاطفى أخير، لكنها تفقده بدوره حين تزور المكان فلا تجد الورشة ولا الرجل. ينتهى العرض حين يخلى المحقق سبيلها المحقّق قائلا: «نتمنالك حظ سعيد»، تظن أنه يتحدث عن «السعيد» الذى تحبه فتضحك وتجيب: «أنا جاية يا السعيد»، وتخرج جريا بحقيبتها وينتهى العرض.فى «زهية» لا نجد مجرد شخصية تروى قصصا تتناسل باطراد عن يومياتها مع الحياة القاسية بقدر ما نجد وعيا يجترح (بلغة على حرب) مأزق الوجود الأنثوى داخل نسق سلطويّ تخبر به الشخصية لا بوصفها ضحية ساذجة بل كذات تمارس سردها بوعى ساخر يتراوح بين المقاومة والاستسلام والمنزل الذى تسكنه ليس إلا سجنا ولو فى شكله الرمزى فالأم والأخوة والزوجات والأبناء يشكّلون منظومة مغلقة من الاستغلال والتطبيع مع اليومى التافه والمرهق والقاتل. تتحول زهية إلى أمّ للجميع وللا أحد، مربية، خادمة، أداة رعاية، دون أن يُعترف بها كذات، إنها تمارس كل وظائف الحب، لكنها لا تُحب ولا تُحب ويتم اختزال الأنثى فى الوظيفة التى ليست فى الأصل وظيفتها، تُلغى كذات حرّة وتُختصر فى دور اجتماعى يعيد يوميا إنتاج عبوديتها. بيت زهية ليس فضاء منزليا بل هو مختبر للهيمنة الذكورية، فى كل مرة تتنازل فيها عن حقها فى الفضاء والراحة تتنازل عن كينونتها. والمطبخ الذى يصبح مع الوقت روضة أطفال فى أقسى درجات الإنهاك هو صورة مجازية ذكية: اختزال المرأة فى مساحة خدمة، ودفنها فى وظيفة الرعاية اللانهائية.يمكن من وجهة تفكيكية قراءة المطبخ كعلامة تتناسل فيها الدلالات، إنه المكان الذى يطهى فيه الجسد كما الطعام، وتعاد صياغة الهوية كما يعاد طبخ الوجبات. المطبخ الذى تقلصت فيه حياة زهية واختزلت بعدما كانت ظاهريا تسكن بيتا كبيرا طويلا عريضا بتعبيرها أصبح يحمل بنية العنف الرمزى فى قسوته الشديدة إذ يطبّع علاقتها مع العبودية إلى أن تصفعها ابنة أحد إخوتها رمزيا بطلب تربية أطفالها، تلك الصفعة هى لحظة وعى أو انفجار للكينونة بدل الانمحاء فى الآخرين، حين تطرد زهية ابنة أخيها فإنها تُعلن قطيعة مع النظام الأسرى أى مع السجن الذى قيّدها.لكن المفارقة أن هذا الوعى لا يقود إلى خلاص، بل إلى فراغ. فهى حين تبحث عن السعيد الذى أعجبت به فإنها تبحث عن بديل للمعنى المفقود، عن حب يعوّض الحنان الضائع. غير أن السعيد كرمز يختفى مثل كل الوعود التى يقدمها الواقع للمرأة المقهورة. عندما يقول المحقق فى النهاية نتمنالك «حظ سعيد» تضحك زهية وتجيب: «أنا جاية يا السعيد» لتكون الجملة النهائية مرثية عبثية وضحك أسود على مصير دائرى أشبه بالعود الأبدى.انتهى العرض كما بدأ، لم نعرف كيف اتهمها المحقق بتهم ثقيلة وكيف أطلق سراحها فى الأخير، اتهامات الاعتداء على الناس والممتلكات التى بها دخلت لمكان التحقيق، أيضا الشعر الأبيض الذى وضعته ثم نزعته ثم أعادت وضعه، لا يبدو أنه مسوّغ بالشكل الكافى كان التحقيق ومكان التحقيق مجرد إطار وهو إطار جميل ولو تمّ تطويره وتعميقه أكثر وتبريره أيضا، ولكن قوة التمثيل والحكاية وتوليفة العرض ككل غطّت على هذا وهيمنت على الإطار وجعلته مجرد قشرة ما بداخلها أهم بكثير منها.يمكن الإشارة أيضا إلى إحدى النقاط المضيئة فى العرض إضافة إلى المقاطع الموسيقية الشعبية والرقص المرافق لها اختيار الممثلة (والمخرج من ورائها) لبدلة زرقاء تشبه أزياء العمال salopette يحمل دلالة مزدوجة فهى من جهة رمز للكدح الدائم ومن جهة أخرى إعلان عن انتماء زهية لطبقة مسحوقة لا تملك سوى جسدها كوسيلة بقاء، الكرسى والحقيبة عنصران صامتان يضطلعان بوظيفة رمزية، استخدام الممثلة للكرسى بتعدد أدوراه إضافة إلى الحقيبة وهما كل ما نراه على الخشبة يؤكد على الصيغة المتقشفة للمونودرام حيث قوة العمل فى حضور الممثلة وجودة الأداء انطلاقا من مفردات العرض المتآلفة، ويمكن أيضا الانتباه إلى أن الممثلة لم تحضر معها قارورة ماء مثلا كما يفعل أغلب المونودراميين رغم إمكانية تسويغه دراميا للشخصية وإنسانيا للممثلة وباحتراف ودون إخلال بشروط العمل الفنى، ليس سهلا أن تخاطب قاعة مليئة مثل مسرح قسنطينة، ولوحدك، وبعرض فيه حركات وكلام وقوة وضغط وانفعالات لمدة ساعة كاملة دون أن تبل ريقك، إنه الاحتراف.