العدد 952 صدر بتاريخ 24نوفمبر2025
منذ أن قررتُ أن أكون ناقدًا - وكان ذلك منذ سنوات طويلة - ظلت هذه العلاقة تشغلني: علاقة الناقد بالفنان. طبيعتها، حدودها، ما يعطيها توازنها، وما يهددها.
ورغم كل الكتابات التي قدمتها في هذا الفلك، ومنها مقالي القديم «الناقد ليس قاضيًا» الذي نشر في «مسرحنا»، فإنني أجد نفسي اليوم مضطرًا للعودة إلى السؤال نفسه، مدفوعًا بجدل صاخب يشبه «خناقات الحارات» أكثر مما يشبه نقاشًا فنيًا، عقب خبر صدور كتاب توثيقي لنقاد شباب يخطون خطواتهم الأولى في هذا المجال الصعب… الصعب حقًا. وسأبين مدى صعوبته لاحقاً.
لكن قبل أن أبدأ، أؤكد أن ما أكتبه هنا ليس أكثر من وجهة نظر لشخص لم يدّع يومًا -ولن - أنه امتلك ناصية العلاقة بين النقد والإبداع في حدودها الأكمل.
الحدود… قبل الحوار
في ظني أن خطأ العلاقة يبدأ حين يتوهم أحد الطرفين أنه يملك الآخر.
الفنان يتخيل أحيانًا أن من حقه توجيه الناقد، والناقد يظن - أحيانًا - أن المعرفة تمنحه سلطة على الفنان. وهذا وهمٌ متبادل، ومصدر أغلب سوء التفاهم.
العلاقة كما أراها لا تقوم على هيمنة، بل على وضوح أدوار:» الفنان يخلق..الناقد يضيء».
لا يصح للفنان أن يمد يده لقلم الناقد، ولا للناقد أن يمد يده لريشة الفنان. وبينهما مساحة آمنة، إن احترمها الطرفان، حفظت الإبداع من التدخل، والنقد من التعدي.
الخطأ المتبادل
في البداية دعونا نفهم أولا من أين يأتي الخطأ؟ لماذا يخطئ الفنان؟ ولماذا يخطىء الناقد؟
الفنان هو ابن لحظته، يعمل بقلبه وروحه ومشاعره المتوترة. ولهذا يصبح شديد الحساسية تجاه أي ملاحظة نقدية، مهما كانت محايدة أو بنّاءة. وقد يتحول لديه النقد إلى تهديد لا إلى مساحة للفهم.
خطأ الفنان الأكبر أنه أحيانًا يخلط بين نقد العمل وجرح شخصه. يرد بانفعال،أو يتعامل مع الناقد بوصفه خصمًا لا شريكًا في الفهم.
بينما النقد الحقيقي لا يتعامل مع الفنان، بل مع العمل في بنائه ودلالاته وشكله ومعناه.
الفنان الذي يقرأ النقد بهدوء ويتعامل معه كخريطة، يتطور. والذي يقرأه كاتهام… يتوقف.
ولماذا يخطئ الناقد؟
خطأ الناقد يأتي من الجهة العكسية. حين يتوهم أن المعرفة تحول رأيه إلى «حكم»، أو أن لغته يمكنها أن تكون سوطًا.
إن أسوأ ما يفعله ناقد هو أن يكتب بجملة لاذعة من أجل لفت الانتباه، أو ينسى حساسية الفنان. فالنقد أخلاق قبل أن يكون منهجًا. واللغة التي لا تراعي الإنسان - مهما كانت محكمة - ليست نقدًا بل استعلاء.
من هنا تحديدا يمكننا أن نفهم لماذا تحدث الصدامات بينهما ؟
وفي رأيي أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية دافعة لهذه الصدامات:
أولها: غياب ثقافة الحوار. وذلك لأن المجتمع نفسه اعتاد منطق المحاكمة لا النقاش، فينعكس ذلك على علاقة الفنان بالناقد.
وثانيها: ندرة المؤسسات النقدية الجادة. فالنقد في العالم العربي مجهود فردي غالبًا، ومع غياب الإطار المؤسسي تتوسع المساحات الرمادية.
وثالثها: هيمنة ثقافة النجومية، تلك التي تجعل من الناقد مصدر تهديد للفنان، والفنان – في الأغلب - حساسًا تجاه أي قراءة لا تمنحه هالة التفوق.
والآن كيف تُبنى علاقة صحية بين الناقد والفنان؟
بخبرتي المتواضعة يمكنني القول أن هناك عدة مسارات متداخلة يجب أن ينتبه إليها الطرفان :
أولها، اعتراف كل طرف بحدوده وطبيعته، مع وجود مسافة إنسانية تحفظ الاحترام دون أن تلغي الصداقة.
وثانيها الإيمان بأن النقد حوارًا لا محاكمة.
وثالثها أن على الفنان أن يقرأ النقد بصفته رؤية، لا «كمينًا».
ورابعها تواضع الناقد واعترافه بأن قراءته احتمال وليس حقيقة مطلقة.
أما الخامسة وهي الأهم من وجهة نظري فهي الالتقاء على الأرض الصلبة التي عنوانها: حب الفن.
عندما تكون هذه المبادئ واضحة، يصبح الخلاف وسيلة للفهم لا أداة للصراع.
والآن لماذا وصفت النقد بـ«المهنة الصعبة»؟
كثيرون يظنون أن النقد «أسهل» من الإبداع.
لكن الحقيقة التي خبرتها عبر سنوات طويلة أن النقد أحيانًا أصعب من الإبداع نفسه. لأسباب كثيرة، أهمها:
أن الناقد يكتب من مساحة «بين بين». هو ليس داخل العمل ولا خارجه تمامًا، بل عند الحدّ الفاصل بين الفن والمتلقي. وأدنى ميلان قد يجعله متعاليًا أو متساهلًا.
ولأن النقد يعتمد على معرفة مركّبة: فالنقد ليس رأيًا، بل قراءة مبنية على تاريخ وثقافة ومناهج وفلسفة وفنون متعددة. الناقد الحقيقي يدخل العرض ومعه مكتبة كاملة تتحرك في رأسه.
ولأن الناقد يكتب وهو يعرف أن كلماته قد تؤذي. فجرح الفنان سهل… ولو بكلمة. ولهذا يجب أن يكون الناقد دقيقًا كجراح لا كجزار.
ولأن الناقد عليه أن يكون محايد في عالم غير محايد. فوسط صداقات وخلافات ومصالح، تصبح المحايدة عملًا يوميًا شاقًا.
ولأن وجوده مطلوب دائمًا: فالفنان ينتج عملًا كل فترة، أما الناقد فعليه أن يشاهد ويقرأ ويحلل ويكتب بلا توقف.
ولأن النقد بحث دائم عن حقيقة لا تمسك. فالحقيقة الفنية متغيرة، زمنية، سياقية، متعددة القراءات. أن تمسك بكل ذلك وتفهمه وتوضحه فذلك هو الصعب الذي يقترب من المستحيل.
أخيراً أقول أن العلاقة بين الناقد والفنان ليست علاقة خصومة ولا سلطة. إنها علاقة شدّ وجذب تولّد المعنى. الفنان يعزف، والناقد يضيء، ولهذا وصفتها بـ«رقصة القلب والعقل». ولا يكتمل جمال الفن دون هذا التفاعل الحي.
والآن، ووسط الجدل الأخير، والضجيج الذي يشبه صراخ الأزقة أكثر مما يشبه لغة الإبداع، أجد نفسي أعود إلى السؤال القديم: كيف نعيد لهذه العلاقة جمالها الأول؟
وبرأيي أن الإجابة بسيطة: بالمعرفة، والتواضع، والاحترام، وحب الفن… لا أكثر ولا أقل... والله أعلم .