نقد الأداء المسرحي الكتابة الحية كإبداع فينومينولوجى(2)

نقد الأداء المسرحي  الكتابة الحية كإبداع فينومينولوجى(2)

العدد 952 صدر بتاريخ 24نوفمبر2025

•  المظهر كمعنى 
 فى المسرح والأداء، غالبًا ما يُحلل التفسير من منظور الاستقبال والإدراك، أو فى سياق المشاهدة والدراسات الدرامية (الشكلان 2-11 و 3-11). ولا يركز اهتمامى بالتفسير فى سياق النقد على علاقة نموذجية بالتفسير، بل على علاقة تكوينية بالمظهر وظاهرة الإدراك. ويتعلق التحول من التقييم إلى التفسير، الذى تجلّى فى التجارب الحديثة ذات الطابع النقدى فى الأداء، بالاستثمار فى آثاره السياسية وظهوره فى العالم.
 وهذا يعنى أيضًا الالتزام بخلق المعنى كمظهر، ويذكرنى هذا بعمل سوزان سونتاج فى كتابها «ضد التأويل». تتساءل: «كيف سيبدو النقد الذى يخدم العمل الفنى، لا أن يسلبه مكانته؟»
انه الغد. لقد كان الأمس منذ لحظة. وهو كذلك منذ برهة، ولكنه يوم جديد، لأنه يُنفذ من جديد ويعاد تنفيذه
البلاغة هى فن استخدام الكلام للاقناع والتأثير والبهجة 
البلاغة هى الاستخدام الموسع للزخرفة، والحيلة فى الخطاب المنطوق أو المكتوب. 
البلاغة هى ارشادات أدائية 
البلاغة هى استراتيجية سردية

البلاغة هى الازدواجية 
فى التحليل النفسى، ترتبط الازدواجية بالغريب، والغريب له بعد جمالى، الغريب هو الأضواء الخرافية، الغريب هو المعرض، معرض بمهرجون، المهرجون مشوهون، المهرجون بشر، المهرج لا يمارس الجنس مع الميت, المهرج لم يحصل على فرصة أبدا 
المهرج متسرع وليس مؤلف. المهرج هو بريخت، والانقطاع والعدوى. المهرج مضحك. المهرج ذاكرة تاريخية. المهرج مبدأ. المهرج مخرب. 
(الشكل 2-11. لقطة من عرض كيزولا (تأجيل/نسخة) ديانا داميان مارتن)
تُجادل سونتاج بنوع من الانخراط النقدى يُفضّل الشفافية، أى «اختبار إشراقة الشىء فى ذاته» (1964، 10). ترى سونتاج أن هذا النهج النقدى يُقرّ بشكل العمل الفنى ومحتواه على حد سواء، ويسعى إلى إبرازه، بدلاً من التنقيب عن معناه. وتُعدّ سونتاج مُفكّرةً رئيسيةً فى سلسلةٍ من النقاد المهتمين بالحوار المفتوح بين الفن والنقد، وهو ما ينعكس فى النماذج التى ظهرت فى تجارب أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. ورغم التزامها بقيمة المظهر، إلا أن هذه النماذج، مع ذلك، تتميز أيضًا بتحول: من حدث الأداء إلى حدث النقد.
 الدوائر وهى تخبو 
فى تأخير/نسخة الإدخال. تشير ديانا داميان مارتن إلى الغرابة فيما يتعلق بتخريب المهرجين. تكتب: «ادخل يا مهرج». لا أسمع شيئًا فى المحتوى الذى تم التوصل إليه الذى يمكن أن يُفسر ذلك الدافع نحو حماية الذات الذى دفع الأنا إلى إسقاط هذا المحتوى على الخارج كشيء غريب عنها.
نجمة فى الزاوية، كل شيء يصبح هادئًا. 
يسأل: هل تود أن تتحول إلى حجر؟ أسمع نكات واضحة وفقدان للوعى بالمجاز. 
يسأل: ما هى اللغة؟ ديانا داميان مارتن أخذت ل غ ت ى بالأمس. 
تكتب: عندما يحلم رجل بمكان أو بلد ويقول لنفسه، مازلت أحلم، هذا المكان مألوف لى، لقد كنت هناك من قبل، فربما نفسر المكان على أنه أعضاء أمه التناسلية أو جسدها. 
فتقول «سقطة» فيضحك الجميع، هذه الدائرة مغلقة 

•     نيشا 
(الشكل 3-11. لقطة من عرض كيزولا «الدوائر وهى تخبو» نيشا رامايا) 
 إذا تحدثنا عن نقد الأداء من حيث قدرته على إظهار المعنى، فإننا نتحدث عن بُعد جمالى لهذا التفاعل. تستند حجة سونتاج إلى أن الفن عملية ظهور، وأن النقد، فى علاقته به، يمكن أن يُدمر هذا الظهور بقدر ما يُسهم فى ظهوره. ويتجلى هذا جليًا فى اقتباس الفنان ويليام دى كونينج الذى يبدأ مقاله، والذى يتحدث عن المحتوى باعتباره «لقاءً أشبه بـ»الموضة». إن «الوضة» الذى يتحدث عنه دى كونينج سهلة الفهم، ولكنها غير مكتملة، فهى بطبيعتها مؤقتة ومجزأة.
يتميز عرض «كيزولا!» أيضًا برغبته فى ترابط المعنى واستقلاليته. بمعنى آخر، بينما تسعى الكتابة إلى المساهمة فى عملية جماعيّة للمعنى مستمدة من الأداء، وتسعى أيضًا إلى الخروج عنه. وقد يبدو هذا متناقضًا، لكنه يتميز بتحول إدراكى، حيث لا تكون الذاتية شكلًا، بل وسيلة لتسييس المظهر نفسه. ويُذكرنى هذا بتأكيد بيجى فيلان فى دراستها لاضفاء الطابع المؤسسى الأداء، «غايات الأداء The Ends of Performance»، فى هذا السياق تحديدًا: «يكمن التحدى الذى نواجهه فى حب الشيء الذى فقدناه دون استيعابه تمامًا بحيث يصبح نحن بدلًا من أن يبقى هو نفسه». لا تدّعى «كيزولا!» امتلاك نفس مجال صنع المعنى الذى يتميّز به الأداء؛ بل تُلبّى دعوةً من خلال تأليف رحلة مختلفة. هذه الرحلة متعددة فى كيفية تناولها لوجهات المشاهدين المختلفة، وشخصية فى كيفية رسمها لتلك الروابط ذاتها.
 تبحث مقالة سونتاج عن مفهوم مختلف لتجربة الفن، مفهوم يقاوم الاستغلالية الآلية للرأسمالية. هذا الالتزام بصنع المعنى واستقلاليته المتنازع عليها يتجذر فى تسييس الطليعة للعلاقة بين الشكل والمقاومة الجماعية. وهذا أمر بالغ الأهمية، إذ يكشف عن جذور التزام الشكل بالفاعلية السياسية، فى ارتباط وثيق بتاريخ النقد فى المداولات الديمقراطية.
 لا يعمل عرض «كيزولا!» تمثيليًا، بل من خلال عملياته التكوينية والوجودية للظهور. اذ يُشار إلى الظهور هنا بشكل أساسى فى سياق كتاب سونتاج «ضد التأويل Against Interpretation»، فى مقابل أنشطة التفسير التى تُهمل أهمية تشابك الشكل مع المضمون. ولتوضيح ذلك، أنتقل إلى مفهوم بديل للذاتية السياسية فى أعمال حنة أرندت، وتفاعلها الفلسفى مع التفكير والمظهر والمجال العام. تربط أعمال أرندت بين المظهر كوسيلة للمشاركة السياسية والاعتراف ومفهوم التعددية. ما الذى يمكن أن يظهر، من خلال هذه الأجساد التى تكتب بمعزل عن غيرها، وتلعب باللغة وضجيج العالم الرقمي؟ 
    •    النقد والفكر والفعل 
 فى كتابها غير المكتمل، «حياة العقل The Life of the Mind « (1971)، الصادر بعد خمس سنوات من صدور كتاب سونتاج «ضد التأويل»، تتأمل هانا أرندت فى الطبيعة المتشابكة للتفكير والإرادة والحكم. وفى افتتاحية المجلد الأول، المخصص لنشاط التفكير، تُدرج أرندت اقتباسًا من أفلاطون يُظهر الطابع المسرحى للفكر فى تصورها الخاص: 
كل واحد منا يشبه رجلاً يرى الأشياء فى الحلم ويعتقد أنه يعرفها تمامًا ثم يستيقظ ليجد أنه لا يعرف شيئًا. (أفلاطون فى آرندت 1971: 17)
هذا الاقتباس من حوار أفلاطون «رجل الدولة»، وهو حوار سقراطى حول العلاقة بين السلطة والمعرفة. فمن جهة، تُصوّر الحجة رجل الدولة حاكمًا بحكم خبرته، ومن جهة أخرى، لا يُقدّم رجل الدولة سوى مظهر من مظاهر تلك المعرفة، دون أن يمتلكها فعليًا. ويرتبط بحث أرندت المتواصل لطبيعة المظهر ارتباطًا جوهريًا بفهم ما يُمكن أن يُشكّل فى المجال العام، كمجال للتعبير عن الحس السليم، وما يُمكن أن يُخلق فى المجال الخاص، فى النشاط الفكرى الفردى.
فى مقدمة الكتاب، تُرجع أرندت اهتمامها بالفكر والإرادة إلى عملها فى محاكمة أيخمان، وصياغة مصطلح «تفاهة الشر» المثير للجدل. وتجادل بأن ما رأته لم يكن نيةً أو دافعًا شريرًا، بل «طيشًا»، وهو ما تعنى به أن «الأفعال كانت وحشية، لكن الفاعل [...] كان عاديًا ومبتذلًا». فى الوقت نفسه، مستلهمة من عملها السابق فى كتاب «الحالة الانسانية The Human Condition « (1958)، تُجادل أرندت بأن النموذج المفترض للفكر والفعل، الذى يفصل بين الوجود فى العالم العام والوجود الخاص، هو ما يُغذى سؤالًا محوريًا: «أين نحن عندما نفكر؟». وتُبرز أرندت شاعرية المظهر، حيث تُطرح الأخلاق كمشكلة التمييز بين الخير والشر، فى سياق التفكير فى طبيعة العلانية والحكم والفكر.()
 من خلال كشفها كيف أن التفكير مُقاطِع، وفى هذا السياق، مُتنازع عليه، كما كتبت عن «الصراع بين الفكر والحس السليم». من جهة، تُمنح قدرتنا على التفكير بعض القدرة، بناءً على تمييزٍ مُحتمل بين مظهر المعرفة وعملية التفكير. من جهةٍ أخرى، يُزعزع سؤالٌ مُترتبٌ على ذلك العلاقةَ النموذجية بين المعرفة والتفكير، بسبب الطبيعة المُزاحة لنشاط الفكر نفسه.
 يؤدى إدراج أرندت لمقتطف من كتاب «رجل الدولة» لأفلاطون دورًا مزدوجًا. فهو بمثابة نسيج ضام بين المظهر والفكر، ويوحى بتأثير سياسى أعمق بكثير للتفكير على الحكم السياسى التمثيلى. يتردد صدى البعد السياسى للفكر فى تشابكه مع عمليات مواجهة الأداء، مما يجعل النقد نشاطًا ذا آثار سياسية وجمالية.
لهذا السبب تُعدّ أرندت نقطة انطلاق مهمة. فهى تتناول بوضوح العلاقة بين الحداثة والثقافة والمعنى فى كتابها «بين الماضى والمستقبل» Between Past and Future) 1961)، حيث تتحدث عن قلقها بشأن تداخل الثقافة مع الرأسمالية، إلا أن نطاقها الأوسع يغلب عليه الطابع السياسى. وأجد فى دراسة أرندت للتفكير طابعًا شاعريًا يُجسّد الترابط بين السياسة والأخلاق، والفردية والمجتمع. تُشكّل هذه العناصر نسيجًا ضامًا لنقد الأداء، لأنها تُشير إلى العلاقة المتوترة التى تربط الممارسة بمسائل التدبر والتمثيل. فى الوقت نفسه، يُتيح النظر إلى نشاط التفكير وانعكاساته المتأصلة إمكانية النظر إلى الأفعال التفسيرية على أنها تتسم بتعدد أنماط الانتباه. ورغم أننى لن أتطرق بشكل مباشر إلى الحدود بين العام والخاص التى وضعتها أرندت فى هذا المفهوم، إلا أننى أود أن أؤكد على التفكير كعملية لا تتسم بالسعى وراء المعرفة فى حد ذاتها، بل بالفضول (الشكل 4-11).
أعرف أن الأمر واضح، ولكنى يجب أن أفعله
آسف. 
(الشكل 4-11. لقطة من عرض كيزولا. بون عنوان) 
فى عرض كيزولا، يتجلى الفكر من خلال انفتاح؛ فالعديد من النصوص المكتوبة، بفعل القصد والظروف، غير مكتملة وتنسج خيوطًا ترابطية معًا. يشير نيك ويكفيلد إلى ثنائى بين الفنانتين ليندا مونتانو وتيشينج هسيه، معلقًا عليه: «أعلم أنه بديهى، لكن كان عليّ القيام بذلك» - وهى فكرة جانبية تكشف مع ذلك عن يقين هذا الارتباط بين عمل فنانى الأداء والمضمون المسرحى للأداء. تقدم الصورة سياقًا حول جلسة الأسئلة والأجوبة التى يشارك فيها: رجل وامرأة يتحدثان عن المستقبل. ماذا يمكن أن يكونا؟ كيف يمكن أن يكونا معًا، كما تسأل؟ يتسرب هذا إلى منشورات لاحقة تستكشف الثنائى كشكل فنى، من موسيقى البوب ??إلى الأداء، متأثرًا بالحوار الغامض على خشبة المسرح. فى سياق آخر، يُبدع غاريث داميان مارتن فى «كشف صيغة تيم إيتشلز»: «فجأة [قصة]، ومع ذلك [النهاية]». هذا التصريح الظاهرى بالمنهجية هو لعبة مزدوجة: الأولى تتعلق بإحساس السرديات التى لم تكتمل بعد، والثانية تُشير إلى تاريخ التجريب ومفهوم الفشل فى عمل الشركة. ما يبرز عبر المشروع هو تجربة تفسير، بقدر ما هو سلسلة من الأفعال التفسيرية. ما يظهر هنا هو تفكير مُعلّق، مؤقت، وغير مستقر - عملية ارتباط غريبة. 

الهوامش
•  ديانا داميان مارتن: محاضرة أولى فى فنون الأداء فى المدرسة الملكية المركزية للخطابة والدراما، لندن، المملكة المتحدة. تُدرّس برنامج بكالوريوس الفنون التجريبية والأداء، وهى أيضًا باحثة ومعلمة.
•  هذه المقالة هى الفصل الحادى عشر من كتاب «فينومينولوجيا الأداء: إلى الشىء نفسه». (مجموعة مؤلفين) إعداد: لورا كول أوموليركا - أليس لاجاى - ويل داداريو. الصادر عن بالجراف ماكميلان 2019.


ترجمة أحمد عبد الفتاح