العدد 907 صدر بتاريخ 13يناير2025
اختار المخرج مناضل عنتر معالجة قضية حساسة ومعقدة في عرضه المسرحي “البعد الآخر”، وهو التوحد. من خلال لغة الجسد والحركة، ونجح في تقديم تجربة فنية غنية تلامس مشاعر وتحديات المصابين بالتوحد.
يناقش المخرج مناضل عنتر في هذا الحوار الدافع وراء اختيار هذا الموضوع، ونتطرق إلى الحديث حول دور الفنون الأدائية في تسليط الضوء على قضايا نفسية واجتماعية معقدة، وآماله في إعادة تقديم هذا العرض مستقبلاً في مهرجانات دولية.
ما الدافع وراء اختيارك لموضوع التوحد كموضوع رئيسي للعرض “البعد الآخر”؟ وكيف عملت على نقل تجربة المصابين بالتوحد عبر الحركة
الدافع وراء اختياري لموضوع التوحد كموضوع رئيسي للعرض “البعد الآخر” كان الرغبة في تسليط الضوء على عالم داخلي غني ومعقد قد لا يراه الكثيرون. فالتوحد ليس مجرد حالة طبية، بل هو تجربة إنسانية مليئة بالمشاعر والأفكار التي تتحدى المفاهيم التقليدية للتواصل والتفاعل. وأردت من خلال هذا العرض أن أفتح نافذة للمشاهدين ليتعرفوا على شعور المصاب بالتوحد وكيف يرى العالم ويتعامل معه.
فيما يخص الحركة والأداء الراقص، ركزت على التعبير عن التحديات التي يواجهها الشخص المتوحد من خلال لغة الجسد، باستخدام إيقاعات متقطعة، وحركات مترددة أحيانًا لتعكس صعوبة التواصل أو الشعور بالانفصال عن الآخرين. واستخدمت أيضًا تباينًا في الحركات بين الانطواء والانفجار، للتعبير عن الصراع الداخلي بين الرغبة في التواصل والخوف من التعرض للرفض أو سوء الفهم.
كما كان للإضاءة والموسيقى دور كبير في نقل هذه التجربة، حيث اعتمدت على ظلال وألوان تعكس التوتر أحيانًا والطمأنينة أحيانًا أخرى. في النهاية، كان الهدف هو إيصال حالة من التعاطف والفهم، وإظهار أن كل شخص لديه طريقته الخاصة في رؤية العالم والتفاعل معه.
ما هي الرسالة التي تريد إيصالها من خلال هذا العرض؟ وهل تعتقد أن الفن يمكن أن يساهم في تغيير نظرة المجتمع تجاه المصابين بالتوحد؟
الرسالة التي أريد إيصالها من خلال هذا العرض هي أن التوحد ليس عيبًا أو نقصًا، بل هو طريقة مختلفة للإحساس بالعالم والتفاعل معه. أود أن يدرك الناس أن المصابين بالتوحد لديهم مشاعر عميقة، وأفكار غنية، وتجارب معقدة، حتى لو لم يتمكنوا دائمًا من التعبير عنها بالطرق المعتادة. من خلال هذا العمل، أسعى لتشجيع المشاهدين على أن ينظروا بعين أعمق وأرحب إلى من يختلفون عنهم، وأن يتقبلوا التنوع الإنساني بمزيد من التعاطف والفهم.
وأنا مؤمن بأن الفن لديه القدرة على تغيير نظرة المجتمع، لأنه يتجاوز الكلمات ويصل إلى المشاعر مباشرة. عندما نرى تجربة شخص متوحد مجسدة على خشبة المسرح، نشعر بقرب أكبر من معاناته وأحلامه. الفن يفتح حوارًا جديدًا ويكسر حواجز الجهل والخوف، مما يساعد على بناء مجتمعات أكثر شمولية وتقبلاً. هدفي من العرض هو أن يشعر الناس، بعد مشاهدته، بأنهم أصبحوا أكثر وعيًا بإنسانية وتفرد كل شخص، سواء كان مصابًا بالتوحد أو غيره.
كيف استخدمت عناصر الإيقاع والحركة للتعبير عن الصراعات الداخلية والأحلام التي يعيشها المصاب بالتوحد؟ وهل كانت هناك تحديات في هذا النهج غير التقليدي؟
استخدمت عناصر الإيقاع والحركة بعناية للتعبير عن الصراعات الداخلية والأحلام التي يعيشها المصاب بالتوحد. لجأت إلى إيقاعات متباينة، تتراوح بين البطء الشديد والتسارع المفاجئ، للتعبير عن حالات الارتباك أو الضغط التي قد يشعر بها الشخص المتوحد عند التعامل مع العالم الخارجي. هذا التباين في الإيقاع يعكس التحولات المفاجئة بين الهدوء والانزعاج، أو بين الانعزال والرغبة في التواصل.
أما من ناحية الحركة، فقد اعتمدت على تكرار أنماط معينة كإشارة إلى الروتين والتكرار الذي يمنح شعورًا بالأمان للمصاب بالتوحد. وفي الوقت نفسه، أدخلت حركات متشنجة أو غير مكتملة للتعبير عن التحديات التي تواجههم عند محاولة الانخراط مع الآخرين أو التعبير عن أفكارهم. بالنسبة للأحلام، استخدمت حركات انسيابية ومرنة تُحاكي التحرر والخيال، وكأن الشخص يهرب إلى عالمه الداخلي، حيث يجد الراحة والحرية بعيدًا عن قيود الواقع.
أما التحديات في هذا النهج غير التقليدي، فتمثلت في إيجاد التوازن بين التعبير الرمزي والحفاظ على الوضوح بالنسبة للجمهور. كان عليّ التأكد من أن الحركات والإيقاعات تُجسد الأفكار بدقة دون أن تُفقد العرض ترابطه أو تُشعر المتفرجين بالانفصال عن الموضوع. كذلك، كان من الضروري تدريب الراقصين على فهم الحالة النفسية التي يحاولون تجسيدها، ليكون الأداء صادقًا ومعبرًا، وليس مجرد استعراض حركي.
في النهاية، كان الهدف هو أن تُترجم هذه العناصر مشاعر معقدة لا تُعبّر عنها الكلمات بسهولة، وأن تفتح نافذة للجمهور ليشعروا بما يدور داخل عقل وقلب الشخص المتوحد.
في رأيك، ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الفنون الأدائية مثل الرقص المسرحي في تسليط الضوء على القضايا النفسية والاجتماعية المعقدة مثل التوحد؟
الفنون الأدائية، وخاصة الرقص المسرحي، تلعب دورًا فريدًا وفعّالًا في تسليط الضوء على القضايا النفسية والاجتماعية المعقدة مثل التوحد. هذه الفنون تمتلك القدرة على تجاوز حدود اللغة والكلمات، وتستطيع إيصال مشاعر وأفكار مجردة بشكل حسي وبصري مباشر. عندما يتم التعبير عن التوحد أو أي قضية نفسية أخرى عبر الحركة، يصبح المشاهد مشاركًا في التجربة، يشعر بها بدلاً من مجرد سماع أو قراءة وصف عنها.
الرقص المسرحي يسمح بإبراز الجوانب الداخلية غير المرئية، كالصراعات النفسية، والتوترات، والأحلام، والعوائق التي يواجهها المصابون بالتوحد. هذا النوع من الفن يعتمد على لغة الجسد التي تمتلك طابعًا عالميًا، مما يجعل الرسالة تصل لمختلف الفئات دون حواجز ثقافية أو لغوية.
كذلك، الفنون الأدائية تخلق مساحة للتعاطف والتفكير النقدي. عندما يرى الجمهور هذه القضايا مجسدة على المسرح، يتولد لديهم وعي أعمق وتعاطف مع الأشخاص الذين يمرون بهذه التجارب. الفن يكسر الصور النمطية ويطرح تساؤلات تدفع المجتمع لإعادة النظر في فهمه وتقبله للآخرين.
في النهاية، يمكن للفنون الأدائية أن تكون جسرًا للتواصل بين المختلفين، وتساعد على بناء مجتمعات أكثر إنسانية . إنها أداة لإيصال صوت من يصعب عليهم التعبير عن أنفسهم بالطرق التقليدية، وتفتح أفقًا لفهم أعمق للتنوع البشري وتعقيداته.
العرض استمر لثلاثة أيام فقط. هل هناك خطط لإعادة تقديمه في المستقبل، أو تقديمه في مهرجانات دولية؟
بالطبع، العرض كان تجربة غنية ومؤثرة، وأنا سعيد جدًا بالتفاعل الذي وجدته من الجمهور. رغم أنه استمر لمدة ثلاثة أيام فقط، كانت الاستجابة إيجابية جدًا وأثرت في الكثير من الحضور. وهناك خطط بالفعل لإعادة تقديمه في المستقبل، سواء على مستوى محلي أو في إطار مهرجانات دولية. أعتقد أن هذا النوع من الأعمال يحتاج إلى وقت ومكان مناسبين ليصل إلى أكبر عدد من الأشخاص، خاصة أولئك الذين قد لا يكون لديهم الفرصة للتفاعل مع القضايا النفسية والاجتماعية المعقدة في حياتهم اليومية.
بالنسبة للمهرجانات الدولية، لدي رغبة في تقديم العرض في أماكن تتنوع فيها الخلفيات الثقافية، لأن مثل هذه الأعمال تتطلب تبادل تجارب ورؤى من ثقافات مختلفة. من خلال هذه المهرجانات، أستطيع أن أوسع دائرة النقاش حول موضوع التوحد وأهمية تفهمه.
كيف كان تفاعل الجمهور مع عرض “البعد الآخر”؟ وهل لاحظت اختلافاً في استجابة الجمهور المصري لمثل هذه العروض مقارنة بجمهور دول أخرى؟
تفاعل الجمهور مع عرض “البعد الآخر” كان مؤثرًا بشكل لا يوصف. كان هناك لحظات صمت كاملة في المسرح، حيث شعر الجميع بما كنت أحاول نقله من خلال الحركة والموسيقى. أكثر ما لفت انتباهي هو أن العديد من الحضور تأثروا بشكل عميق لدرجة أنهم بكوا أثناء العرض. هذه الاستجابة كانت غير تقليدية بالنسبة لعروض الرقص المسرحي، حيث عادة ما يتفاعل الجمهور مع العرض بشكل أكثر عقلانية أو نقدية. لكن هنا كان الأمر مختلفًا، حيث اختبر الجميع مشاعر قوية وعميقة، وشعروا بما يعانيه الشخص المتوحد من تحديات وصراعات داخلية.
تلك اللحظات من التأثر كانت بالنسبة لي علامة على أن العرض وصل إلى أعماق قلوب الناس، وأنه خلق نوعًا من التواصل الإنساني الصادق. لم يكن فقط عرضًا حركيًا أو فنيًا، بل كان فرصة للجمهور ليتفاعلوا مع التجربة الإنسانية التي قد تكون بعيدة عنهم في حياتهم اليومية، لكنهم شعروا بها وتوحدوا معها.
ما هو تصورك لمستقبل المسرح الراقص في مصر؟
مستقبل المسرح الراقص في مصر يحمل إمكانيات كبيرة رغم التحديات التي قد يواجهها. على الرغم من أن الرقص المسرحي ليس نوعًا فنيًا شائعًا بالقدر نفسه الذي تحظى به بعض الأشكال الفنية الأخرى في مصر، إلا أن هناك حركة متزايدة نحو تقدير هذا الفن، خاصة بين الشباب والمبدعين الذين يبحثون عن طرق جديدة للتعبير عن الأفكار والمشاعر.
وفي رأيي، المسرح الراقص في مصر يمكن أن يتطور ليصبح أكثر تنوعًا، بحيث يشمل موضوعات إنسانية واجتماعية أكثر تعقيدًا، ويستقطب جمهورًا أوسع. مع تطور الوعي الثقافي، بدأ الجمهور في إدراك أهمية الفن كوسيلة للتعبير عن القضايا النفسية والاجتماعية، وليس فقط كوسيلة للترفيه. أعتقد أن هناك إمكانيات كبيرة للمسرح الراقص ليكون أداة قوية لطرح مواضيع حساسة
عندما يتم دمج الرقص مع القضايا المعاصرة والأفكار الجريئة، يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للتعبير الفني في مصر. ولدى العديد من المبدعين في هذا المجال القدرة على توسيع دائرة الوعي وتغيير المفاهيم التقليدية عن الرقص. في المستقبل، قد نشهد المزيد من الدعم للمسرح الراقص من المؤسسات الثقافية والجهات الداعمة، مما يسمح له بالنمو والتوسع.
إذا استمر الفنانون في تقديم عروض مبتكرة تلامس القلوب وتفتح حوارات ثقافية واجتماعية، يمكن أن يصبح المسرح الراقص جزءًا أساسيًا من المشهد الثقافي في مصر، ويحقق حضورًا قويًا في المهرجانات المحلية والدولية.
في رأيك، ما الذي يميز المسرح المصري عن غيره من المسارح في المنطقة العربية؟ وهل هناك عناصر خاصة تعكس الهوية المصرية في الأعمال المسرحية؟
المسرح المصري يتميز عن غيره من المسارح في المنطقة العربية بثرائه الثقافي وتنوعه، فضلاً عن كونه أحد أقدم وأهم التقاليد المسرحية في العالم العربي. يعود هذا التميز إلى تداخل العديد من العناصر الثقافية والاجتماعية في مصر، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية والقدرة على التعبير عن قضايا معاصرة وموروثات تاريخية في آن واحد.
من العناصر التي تميز المسرح المصري، أعتقد أن اللغة تمثل نقطة فارقة. اللغة المصرية، بلهجتها الخاصة وأسلوبها الساخر، تُضفي طابعًا خاصًا على المسرح المصري، حيث تُستخدم بشكل مباشر وقوي للتواصل مع الجمهور. هي لغة قادرة على الجمع بين الجدية والفكاهة في آن واحد، مما يعكس تعدد أبعاد الثقافة المصرية.
كذلك، المواضيع الاجتماعية التي يعرضها المسرح المصري تتمتع بخصوصية كبيرة، حيث تتعامل مع قضايا محلية تتعلق بالحياة اليومية والتحديات الاجتماعية بشكل صريح. كما أن هناك اهتمامًا بالقضايا السياسية والاقتصادية بطريقة شديدة الحساسية في بعض الأحيان، ما يجعل من المسرح المصري وسيلة قوية للنقد الاجتماعي والتعبير عن هموم الناس.
بالإضافة إلى ذلك، الإبداع في الأسلوب والتجريب الفني يعتبر من أبرز سمات المسرح المصري. من خلال دمج المسرح التقليدي مع التجارب الحديثة مثل المسرح الراقص والمسرح التفاعلي، استطاع الفنانون المصريون خلق أشكال جديدة من التعبير المسرحي تتناسب مع العصر الحالي بينما تحافظ على الروح المحلية.
أما عن الهوية المصرية في الأعمال المسرحية، فهي تظهر في تمثيل الثقافة الشعبية المصرية بكل تفاصيلها؛ من الأغاني والموسيقى الشعبية إلى الحكايات الشعبية والشخصيات التي تمثل مختلف شرائح المجتمع المصري. هناك أيضًا حضور قوي للأماكن والتاريخ المصري، الذي يتداخل بشكل رائع في الكثير من العروض المسرحية، ليُظهر تاريخ وحاضر مصر في صورة متكاملة.
إجمالًا، المسرح المصري يحمل روح مصر المتنوعة والمعقدة، ويعكس انفتاحها على التجارب الفنية العالمية مع المحافظة على خصوصيتها الثقافية.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المهرجانات المسرحية المحلية والدولية في تعزيز مكانة المسرح المصري؟ وكيف ترى أهمية مشاركة الفرق المسرحية المصرية في هذه المهرجانات؟
المهرجانات المسرحية المحلية والدولية تلعب دورًا حيويًا في تعزيز مكانة المسرح المصري على المستويين الإقليمي والدولي. على الصعيد المحلي، تساهم هذه المهرجانات في نشر الوعي بالفنون المسرحية بين جمهور أوسع، مما يعزز ثقافة المسرح في مصر ويحفز الأجيال الجديدة على الانخراط في هذا المجال. من خلال هذه الفعاليات، يمكن للفرق المسرحية المصرية أن تعرض أعمالها في بيئة تنافسية، مما يعزز فرص الابتكار والتطوير الفني. كما تتيح هذه المهرجانات مساحة للفنانين المصريين للتفاعل مع فرق ومخرجين من خلفيات ثقافية متنوعة، مما يسهم في تبادل الأفكار والإلهام المتبادل.
أما على الصعيد الدولي، فإن مشاركة الفرق المسرحية المصرية في المهرجانات الدولية تفتح أمامهم فرصًا قيمة لعرض أعمالهم أمام جمهور عالمي. هذه المشاركات لا تساعد فقط في إبراز المسرح المصري بصفته جزءًا من المشهد المسرحي العالمي، ولكنها أيضًا تساهم في خلق جسور من التفاهم الثقافي بين الشعوب. كما أن التفاعل مع فرق من دول مختلفة يمكن أن يساهم في تطوير الأساليب الفنية والتقنيات المستخدمة في المسرح المصري، ويمنح الفنانين فرصة لتعلم مهارات جديدة وتوسيع آفاقهم.
إلى جانب ذلك، تُعد المهرجانات الدولية فرصة لتعريف العالم بالقضايا المحلية التي يعالجها المسرح المصري، مما يساهم في نقل صورة أكثر شمولية عن الثقافة المصرية وأبعادها المتنوعة. من خلال هذه المهرجانات، يمكن للفرق المصرية أن تروج لأعمالهم وتُثبت مكانتهم في الساحة العالمية، مما يساعد في فتح أبواب جديدة للتعاون والإنتاج المشترك مع الفرق الأجنبية.
فالمهرجانات المسرحية المحلية والدولية تعد منصة أساسية لتعزيز مكانة المسرح المصري، ليس فقط من خلال تقديم الأعمال الفنية، ولكن أيضًا من خلال بناء شبكة علاقات دولية تساهم في تطوير الفن المسرحي المصري ورفع مستواه الفني والثقافي على المستوى العالمي.