سنة 2024 «شابوه» مسرح الثقافة الجماهيرية

سنة 2024 «شابوه»   مسرح الثقافة الجماهيرية

العدد 907 صدر بتاريخ 13يناير2025

وتمر سنة 2024 على المسرح المصري، ومع بداية عام جديد تكون تلك الوقفة، رغم أن مشاريع العام الجديد قد تحددت وفق نظام العام المالي المعمول به بدء من منتصف العام وحتى منتصف التالي له، ولكنه تقليد نتبعه بعمل «كشف الحساب» مع رحيل كل عام ميلادي، ولنبدأ بطرح الأسئلة؛ هل من عروض قدمت خلال الموسم المنقضي يمكن وأن تكون بمثابة إضافة لمسرحنا المصري؟، هل من عروض قدمت خلاله ستظل عالقة بالذاكرة؟، هل من ظاهرة لفتت الانتباه إليها سلبًا أو إيجاباً؟ هل من مبادرات جديدة تستدعى الانتباه إليها؟، هل نحن على طريق التأصيل لمسرحنا المصري والحفاظ على هويته؟، هل من أثر فعلي على المستوى الدولي لمسرحنا؟، هل من تأثير للتقدم التكنلوجي على عروضنا وهل من تغيير طرأ على خريطة المسرح بمصر؟ هل مست عروض المسرح قضايا المجتمع وهل تفاعلت مع ما يدور بالوطن أو بالعالم من أحداث ..؟ ماذا تحقق؟
بالطبع لن يجيب مقالنا المتواضع هذا على كل تلك الأسئلة، لكننا نطرحها على المهتمين بالشأن المسرحي، وبدوري أتفاعل معها وأبدي بالرأي ليضاف إلى أراء أخرى ربما يكون منها ما يترك أثرا لدى أصحاب القرار ..، لن أطيل في المقدمة؛ ولأبدأ الولوج إلى المتن مباشرة؛
وبداية؛ أتوقف عند الظواهر والمبادرات، وأولها من شأنه التأثير على مستقبل الصناعة المسرحية بمصر ويهدد تواجدها، متمثلاً في ظاهرة تآكل منافذ العروض الرسمية وتناقص دور العرض، والتي كان أخرها قرار إزالة مسرح فاطمة رشدي دون التفات لأثره وتاريخه، ولا عزاء للمسرحيين!، ونفس المشكلة تعاني منها الهيئة العامة لقصور الثقافة وان لبست ثوبًا أخرًا، ألا وهي المسارح المغلقة لأسباب مختلفة بين التجديد أو الترميم أو لعدم توافر الشروط الأمنية أو لاستثمارها لصالح عروض السينما ..، وبالطبع هذا من شأنه انصراف الكثيرين من مبدعي المسرح - شباب وكبار على حد السواء - ومن ثم تأثر مستقبل المسرح، ولا عزاء للمسرحيين!
ومن الملفت للنظر قلة العروض المنتجة بمسرح الدولة «البيت الفني، وقطاع الفنون الشعبية، وصندوق التنمية الثقافية، الأوبرا» وهو ما يعني بالتبعية إغلاق أبواب المسرح أمام الجماهير لفترت خلال العام، ناهيك عن أن أيام العروض باتت محددة بثلاثة أيام أسبوعياً بما يعطي إيحاءً باستمرار العروض طوال العام على عكس حقيقتها من الواقع، كما أنه رغم قلة عدد المسرحيات المنتجة فإن نسبة منها عروض مونودراما، وبالطبع فإن ميزانياتها أقل من المسرحيات، كما أنها لا تتيح فرصاً لمشاركة عدد أكبر الممثلين، ولا عزاء للمسرحيين!
ومن المشكلات التي ظهرت - بدون سابق مقدمات - خلال عام 2024 لتزيد من هموم المسرحيين، التعامل بالفاتورة الإليكترونية مع المبدعين، بالرغم من أن تعاملاتهم - تعاقدات أو مكافآت - تكون رسمية، أي متاح للمؤسسة خصم الضريبة وفقما يتراءى لها من المنبع، يأتي هذا في ذات الوقت الذي يتضرر فيه الفنانين من صغر قيمة ما يتحصلون عليه – تعاقدات، مصروف جيب، مكافآت – بما يستوجب المواساة في ظل الغلاء المعيشي، ولا عزاء للفنانين!
ومن الظواهر التي لا يخطئها رجل الشارع “كثرة المهرجانات” الرسمية - الكبرى والصغرى – التابعة لوزارة الثقافة، بخلاف مهرجانات المؤسسات الرسمية الأخرى “الشباب والرياضة، الجامعات، الشركات”، وكذلك المهرجانات الخاصة ذات الرعاية الرسمية من مؤسسات الدولة أو الرعاة من القطاع الخاص، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في تلك المهرجانات من حيث توزيعها على خريطة طوال العام وألا تنحصر في شهور أربعة من السنة فقط، أيضًا من حيث فلسفة وأهداف كل مهرجان فلا تكون مجرد مهرجانات للعروض وفقط، كذلك من حيث المشاركين في تلك المهرجانات بحيث لا تتكرر وجوه المستفيدين منهم حتى تتاح الفرصة لظهور كوادر جديدة، مع أهمية بحث علاقة المهرجانات بالعروض المسرحية المنتجة من حيث الأثر سلبيا أو إيجابياً حتى يتم الاستفادة منها في تصويب المسار.
ومن الظواهر الجديدة، تلك التي فجرها عرض “ماكبث المصنع” والتي فتحت بابًا للنقاش حول إمكانية توظيف “الذكاء الاصطناعي” في الكتابة والعروض المسرحية، وقد كان نجاحه سبباً في إيجاد مؤيدين له مع وجود معارضين في ذات الوقت ولكل منهم مبرره، بين تأييد لضرورة تحرير كلاسيكيات النصوص من محدداتها وإعادة إنتاجها في ظل تكنولوجيا العصر الحديث ومواكبتها، وبين تجنيها على الملكية الفكرية، وليخرج علينا العام الفائت بواحدة من القضايا المستحدثة التي لا يمكن تجاوزها لما يمكن وأن يكون لها أثرًا على المشهد الكامل لمستقبل المسرح المصري، بما يستلزم الاهتمام بدراستها وأثرها على الإبداع وما يمس حقوق الملكية الفكرية، وأجد من الضرورة بحث تلك القضية لما لها من تداعيات تمس الهوية الثقافية للمسرح المصري، وشخصياً أرفض الاعتماد على الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالفكر بينما أرحب باستخدامه فيما يتعلق بالتقنيات الإخراجية.  
وحتى لا يكون المشهد بمثابة الإظلام التام، أشير لوجود ومضة بدت في صورة مبادرة حملت عنوان “سوكسيه” أطلقها الفنان “أشرف عبد الباقي”، تمنح من خلالها فرصة للفرق المسرحية للتعبير من خلالها عن إبداعها المسرحي باستضافة عروض الفرق المستقلة المميزة لتقديمها على مسرح نجيب الريحاني، مع تقديم كل أشكال الدعم التسويقي اللازم لها من دعاية للعروض ودعوة للجمهور، وهو دور مؤسسي لم من تأتي به وزارة الثقافة، بما يستوجب تسليط الضوء عليه لربما تحتذى به جهات أخرى.
ومن المظاهر الجيدة أيضًا خلال عام 2024، انتظام انتاج الثقافة الجماهيرية على عكس عهدها السابق، إذ بات الإنتاج ينتهي في أوائل مايو، وتنظم التصفيات والمهرجانات لعروضها قبل انقضاء العام المالي، وهي واحدة من الحسنات التي تحسب للإدارة المركزية للشئون الفنية والإدارة العامة للمسرح بالهيئة، ولا يتوقف الإنجاز على الانتظام فقط، بل وظهور الإنتاج المسرحي بشكل متميز فنياً، نافس - رغم ضعف ميزانيات انتاجه - عروض البيت الفني للمسرح الاحترافية التي تتكلف مئات الآلاف، بل وتتفوق عليها.
وعن المسرحيات الأفضل خلال 2024؛
من الموضوعية بداية؛ الإشارة إلى تعدد جهات انتاج المسرح بمصر، بما يتعذر مشاهدتها جميعاً ويصعب الجزم بأفضل العروض، إلا أن أهم تلك الجهات يتاح لعروضها المميزة المشاركة في المهرجان القومي للمسرح المصري، هذا من جانب، وكذلك يكون الرأي وفق ما اتيح لي مشاهدته، وبالإضافة للمشهد النقدي العام وبعض الاعتبارات الفنية والتي منها المردود الجماهيري وتكلفة الإنتاج، بما يمكن التحديد لبعض عروض أحدثت أثراً مميزاً في المشهد المسرحي، وأولها مسرحية “الطاحونة الحمرا” لفرقة قصر ثقافة الجيزة، ومسرحية “طقوس الاشارات والتحولات” لفرقة نادي المسرح بقصر ثقافة السلام بالقاهرة، وأيضاً مسرحية “أوبرا العتبة” من انتاج مسرح الطليعة.
“أوبرا العتبة” من العروض التي لفتت إليها الأنظار، لجرأة صناع العرض ومخرجه “هاني عفيفي” في الخروج خارج سور مسرح الطليعة وتقديم الغناء الأوبرالى في ظل نداءات الباعة الجائلين بالعتبة، وهي مغامرة محسوبة لمدير الفرقة “عادل حسان” لصالح اجتذاب جمهور مغاير، ومناقشة العرض لموضوع حيوي يتصل بالإنسان المصري المعاصر وتمكن ثقافة الاستهلاك منه بما جعلته يستهلك ما يرَوَّج له إعلاميا وعبر منصات السوشيال ميديا على حساب القيم الأصيلة والفن الحقيقي، بما ترتب عليه التهميش اللاإرادي أو الانعزال الإرادي للمثقفين وأصحاب الفكر حيث لم يعد مكانًا لهم، أيضاً عرض “حيث لا يراني أحد” من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية والذي قدم مؤخرًا ضمن عروض المسرح الجامعي، من تأليف وإخراج الطالب “محمود صلاح” وهو فنان مبشر المسرح ويتسم بقدر كبير من الخيال والوعي الفكري والفني بما يبعث على التفاؤل والأمل في مستقبل المسرح المصري.
ونقف أمام عرضي الثقافة الجماهيرية، الأول “الطاحونة الحمراء” دُرة عروض فرقها، وهو من نوع عروض “الميوزكل” الاستعراضية الغائبة عن مسرحنا بشكل عام، وقد أظهر حالة من تفاعل الجماهير لتلك النوعية وحبه لها، فهي تتسم بالحيوية والإيقاع المنضبط، وتجذب انتباه واهتمام الجمهور لمتابعتها منذ أول لحظة وحتى اللحظة الأخيرة منها، بما يدعونا لضرورة التخلي عن فكرة عدم الإقدام علي انتاجها، إذ تحتاج عروض “الميوزكل” الاستعراضية لتكلفة إنتاج أكبر من العروض التقليدية، الأمر الذي يثير الدهشة إذ أن “الطاحونة الحمر” من إنتاج الثقافة الجماهيرية، بما يعني محدودية ميزانية الإنتاج، فكيف لصناع العرض التغلب على معضلة الإنتاج؟!، أما الإجابة فهي تكمن في “روح الهواية” التي بلغت عظمتها فخرجت علينا بهذا العمل الكبير، ومن الطبيعي مكافأة تلك الروح بمزيد من التقدير والتشجيع، وهو ما لم يكن له صدى سواء من لجنة تحكيم المهرجان، أو من مسرح الدولة الذي لم يدعوهم لتقديم عرضهم على خشبة المسرح القومي أو مسرح السلام، رغم مطالبة بعض الأصوات بذلك!
المسرحية حصدت جائزة أفضل عرض بمهرجان مسرح الأقاليم بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وكذلك جائزة أفضل موسيقى “زياد هجرس” في مسابقة عروض المهرجان القومي للمسرح المصري، وان كانت تلك النتيجة بمثابة صدمة ليس لحصوله على جائزة وحيدة، بل لأن كل عناصر العرض المتميزة لم يتم ترشيحها من الأساس للمنافسة على الجوائز، بما يفرض علامات استفهام كثيرة حول نتيجة المهرجان.
مسرحية “الطاحونة الحمرا” مستلهمة من فيلم سينمائي بنفس الاسم، وقدمت في قالب غنائي استعراضي عبر معالجة درامية مميزة وتأليف غنائي أضاف لها حالة من التكامل الفني، حيث جاءت الأغنيات من نسيج العمل بما أسهم في بنائه الدرامي، كما قدم العرض مجموعة جيدة جدًا من الممثلين تفوقوا في الأداء التمثيلي، كل منهم عايش الشخصية وصدق نفسه فلم تتشابه شخصية مع لأخرى، وبالطبع؛ يحتاج هذا العرض لمقال طويل حتى نوفيه من التحليل حقه، فكتيبة العمل بدء من “الموسيقى والألحان” العنصر الأبرز بالعرض للمؤلف الموسيقي “زياد هجرس”، هو ومجموعته الرائعة من العازفين الابطال الحقيقيون للمسرحية، وقد بدا بارزا جهده التدريبي الكبير لفريق التمثيل على الأداء الغنائي.
أصاب مخرج العرض “حسام التوني” برؤيته في تواجد فريق الموسيقى على خشبة المسرح، لم يشغله المساحة المستقطعة لهم إذ أن تواجدهم بدا وكأنهم جزء من فريق التمثيل، يتفاعل كل منهم مع الأخر بين معايشة الأحداث والمشاعر، فهو مخرج كبير متمكن من أدواته، يعي مساحة خشبة المسرح وكيفية استغلالها، وتضفيره استعراضات “محمد بحيري” بالشكل الجيد الذي جاء متناغمًا مع الحركة على المسرح وخاصة في دخول فريق الراقصين وخروجهم، أما النص فهو للكاتب “أحمد البنا” صاحب الرصيد الكبير من النصوص المسرحية، والذي اجتهد كثيرا في كتابة هذا النص المأخوذ عن فيلم سينمائي لـ”بازلومان”، ولم يلجأ في كتابته لأسلوب الإعداد المعتاد، بل أعطى لنفسه مساحة من الخيال والتصرف الدرامي، بما مكنه من حبكة القصة وجودة النص، وقد أضفت إليه مسحة من السحر الكلمات التوقيعية والأشعار التي صاغها الشاعر “أحمد زيدان” الذي أظهر من خلالها تمكنًا وحرفية.
وقد كان ديكور “نهاد السيد” مميزًا حيث عمل على استغلال كل مساحة خشبة المسرح، ويكمن تميز هذا الديكور في بساطته وتشكيله من خلال ميزانية محدودة، بما يستوجب التقدير لمصممته، أما عن الأزياء والملابس، فقد كانت جيدة، معبرة عن الشخصيات والإحالة الزمانية، ناهيك عن جماليات الألوان فقد كان لها أثرها الفاعل في سينوغرافيا العرض مع الديكور والكتلة المتحركة على خشبة المسرح، وقد أضاف إليها مصمم الإضاءة “أحمد أمين” الكثير، .. لن أطيل في الحديث عن العرض، فهو لا يحتاج لمن يتحدث عنه بقدر ما يحتاج للمشاهدة، الأمر الذي يفرض نفسه بالتساؤل (لماذا لا تستثمر الثقافة الجماهيرية عروضها الناجحة، لماذا تفرط في هذا النجاح، ولماذا لا يتم دعم مثل تلك العروض بالإنفاق عليها من صندوق التنمية الثقافية وتتعامل معها معاملة تحريك عروض مسرح الدولة حتى تأخذ حقها بالعرض بأقاليم مصر أو على مسارح العاصمة بما يفتح لهؤلاء المتميزين مجالات للتحقق؟!
العرض الثاني “طقوس الاشارات والتحولات”، وهو دُرة انتاج فرق نوادي المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة أيضًا، والنص واحد من النصوص الصعبة المحببة للمؤلف السوري الكبير “سعدالله ونوس”، وتتعدد زوايا الدهشة هنا، أولها أن هذا النص الذي يتحسب كبار المخرجين قبل التصدي له هو تجربة الإخراج الأولى لمخرجها الشاب، وقد أثبت جودة فنية وكفاءة في القدرة على إدارة فرقة كبيرة تزيد عن 40 عضوًا بين ممثل وموسيقي ومطرب وراقص، الثاني أنه رغم كونه عرضاً ينتمي لفرق “نوادي مسرح” بتكلفة إنتاج محدودة جدًا لا تذكر، لإلا أنه قدم لنا عرضا ضخمًا يوازي عروض فرقة قومية كبيرة بالثقافة الجماهيرية، والدهشة الثالثة كونه قدم عرضًا استعراضيًا غنائيًا، بفرقة موسيقية لايف على خشبة المسرح، وقبل كل هذا وذلك فإن العرض كشف عن مخرج شاب صاحب رؤية، استطاع أن يكثف النص الطويل بوعي شديد ليقدم لنا رؤية جديدة تتفق مع خبراته ومرحلته كشاب، وأنه مع مزيد من الخبرات ستتسع رؤاه وتكتمل ليقدم لنا أعمالًا كبيرة يعلن من خلالها عن موهبته وإمكانياته الحقيقية، بما يستوجب التقدير والدعم  لهذا المخرج الشاب “أحمد ذكي”، أما عن العرض ذاته وعناصره فمن المؤكد أنه يحتاج لمقال مستقل لا يتسع له مقالنا هذا، وقد حصل العرض على المركز الأول في مهرجان فرق نوادي المسرح الذي تنظمه الهيئة، وحصد جوائز أخرى في عناصره الفنية، كما مثل الهيئة في مهرجان القومي للمسرح المصري لينافس فرق مسرح الدولة المحترفة، وقد لفت إليه أنظار النقاد والمسرحيين، بما يؤكد على أهمية روح الهواية وأثرها بما يجعلها تخرج علينا بهذا العمل الكبير، الأمر الذي يستوجب رفع القبعة لأداء مسرح الهواة ونقول “شابوه” مسرح الثقافة الجماهيرية.


ناصر العزبي