العدد 907 صدر بتاريخ 13يناير2025
ماذا أفعل هنا؟.. سؤال يتكرر في أذهاننا كلما واجهنا صراعًا داخليًا مع الزمن ، ظل الزمن واحدًا من أكثر المفاهيم تعقيدًا وإثارة للتفكير، إذ يمر بلا توقف، كعنصر ثابت في حياة الإنسان، ومع ذلك قلة منا يدرك قيمته الحقيقية ، البعض يحارب الزمن، محاولًا استغلاله بكل الطرق، بينما هناك من يعيش كعقارب الساعة، يدور بلا هدف واضح أو توقف للحظة لإعادة ترتيب الأولويات ، أو حتى لإيجاد معنى أعمق لحياته.
يقول “وليام شكسبير” الزمن بطيء جدًا لأولئك الذين ينتظرون، سريع جدًا لأولئك الذين يخافون، طويل جدًا لأولئك الذين يعانون، وقصير جدًا لأولئك الذين يحتفلون، لكن بالنسبة لأولئك الذين يحبون، الزمن أبدي ..هذا الصراع الأزلي بين الإنسان والزمن وبين القيمة واللامبالاة يتجلى بوضوح في العرض المسرحي “حيث لا يراني أحد”، هذا العمل من تأليف وإخراج محمود صلاح عطية، وبطولة بولا ماهر، محمود بكر، ومرنا نديم، ويعكس بجرأة قضية فلسفية وإنسانية محورية وهى التقدير المفقود في عالم يركز على الإنتاجية دون الاعتراف بالأفراد الذين يعملون خلف الكواليس.
الصراع بين العقرب القديم والجديد
الطريق لفهم هذا العرض يبدأ من تصميمه البصري ،نرى على خشبة المسرح رقعة مستديرة على شكل ساعة زمنية، تُمثل المكان والزمان معًا ، الجمهور يحيط بها من كل الجهات، وكأنه يشارك الزمن في مراقبة الشخصيات “العقارب”وهي تحاول التكيف مع واقعها ، في مركز هذه الرقعة يقف عقرب الثواني القديم الذي يؤدي دوره “بولا ماهر” وهو شخصية تمثل الخبرة والإنهاك بعد سنوات طويلة من العمل المتواصل بلا مقابل يُذكر ، مقابل ذلك يظهر العقرب الجديد الذي يؤدي دوره “محمود بكر” معبرًا عن روح الشباب المفعمة بالطموح والرغبة في إثبات الذات، ولكنه يواجه ضغطًا قاسيًا من نظام غير عادل ، وأمال وطموحات للتغيير ثقيلة الحمل على جيل يحركه الحماس دون إدراك لمؤهلاته الحقيقية.
تبدأ القصة عند استبدال العقرب القديم بالجديد، فتتصاعد الأحداث عبر مواجهة حادة بين الجيلين ، هنا يقدم “بولا ماهر” أداءً استثنائيًا، متقمصًا شخصية تحمل سنوات من التضحيات غير المرئية، متأرجحًا بين رغبته في الاستمرار وحاجته إلى الراحة ، وهو بملابس رثة قديمة لكنها منمقة بما يوحى برسمية هذا الزى المفروض عليه بحكم الوظيفة ،على الجانب الآخر ينقل “محمود بكر” براشقة ملفتة مشاعر الحماس الممزوجة بالخوف من الفشل، في عالم لا يمنح الفرص للجميع بالتساوي ، هذا الصراع يعكس أكثر من مجرد تعاقب الأجيال ، إنه يمثل تساؤلاً وجودياً حول القيمة الانسانية ..هل نحن مجرد أدوات فى عجلة الزمن؟..أم أننا قادرون على تحديد قيمتنا بأنفسنا؟.
رمزية العاطفة في مواجهة الروتين
وسط هذا الصراع بين العقل والعمل، تدخل “مرنا نديم” في خلسة من الزمن لتجسد رمزية العاطفة فى حياة الإنسان والعقارب أيضاً ، شخصيتها تمثل تلك القوة الإنسانية التي تسعى لتحقيق توازن بين العقلانية والوجدان ، وبحركاتها التعبيرية مع القليل من الرقص تضفي “مرنا” أبعادًا جديدة على الحبكة معبرة عن مشاعر الندم والإجبار والتمني ، فتكون كصوت داخلى للشخصيات يذكرهم بأهمية التمسك بإنسانيتهم.
الإخراج: بين الحركة والرمزية
“محمود صلاح” مخرج العرض نجح في تقديم رؤية إخراجية مبتكرة، مستفيدًا من الرمزية البصرية والحركة المسرحية ،الرقعة المستديرة لم تكن مجرد ديكور،بل كانت عنصرًا دراميًا أساسيًا ، حركة الشخصيات عليها كانت مدروسة بدقة، تُظهرالحرب الضروس داخل عقل الإنسان بين العمل والتقدير ، ولعبت الإضاءة دورًا رئيسيًا في إيصال تضارب المشاعر ،على سبيل المثال.. المشهد الذي يجمع العقربين ومرنا ، استخدم المخرج إضاءة دافئة لإبراز الأبعاد العاطفية للصراع ، هذا التوازن بين الحركة والضوء أضاف عمقًا بصريًا جعل المشاهد يعيش التجربة بشكل مكثف سواء أثناء العرض أو بعد نهايته.
الموسيقى كأداة درامية أصيلة
الموسيقى كانت عنصرًا مكملًا في بناء التوتر الدرامي ، الألحان التصاعدية رافقت اللحظات الأكثر حدة ، بينما كانت النغمات الهادئة تضفي إحساسًا بالانعكاس والتأمل خاصة فى لحظات إسترجاع العقرب القديم لذكرياته ، وأثناء المواجهة التى يصحبها إعتراف بين العقربين، كانت الموسيقى تسهم في تكثيف الأجواء، مما يجعل الجمهور يشعر بثقل الزمن وتأثيره على الشخصيات ،كما كانت لحظات الصمت الموسيقي مدروسة بدقة حيث أضافت بعدًا من الترقب وأتاحت للمشاهدين فرصة للتفكير في مغزى المشهد ومشاركة صانعى العمل فى تساؤلات لا يمكن أن تكون لها إجابات محددة لدى الجميع.
فضاءات مختلفة
أحد العوامل التي جعلت العرض مميزًا هو تنقله بين فضاءات مختلفة ، لقد شاهدته فى ساحة المعهد العالى للفنون المسرحية ضمن مهرجان “القاعات” ،وشاهدته على خشبة مسرح الهناجر ضمن ملتقى القاهرة الدولى للمسرح الجامعى ،في ساحة المعهد العالي للفنون المسرحية كانت التجربة أكثر حميمية رغم عدم نضجها بشكل كاف ، حيث شعر الجمهور وكأنه جزء من الحدث ، بينما على خشبة مسرح الهناجر استخدم الفريق المسرحي تقنيات أكثر تطورًا، مما أضاف تفاصيل بصرية وصوتية أغنت التجربة ، مع مستوى من النضج الفنى والتماسك أعلى كثيراً من العرض فى ساحة المعهد ، وساعدهم فى ذلك الأستاذ “عمرو سليمان” مدير الهناجر بتجهيز خشبة المسرح لإستيعاب 120 فرد من الجمهور بجانب فريق العمل وهى تجربة فريدة أن يشاهد الجمهور العرض المسرحى من فوق الخشبة وليس من صالة العرض ، هذا التنوع في تقديم العرض ساعده على الوصول إلى جمهور جديد بتقنيات مختلفة ، مما يعكس حرفية مخرج العمل فى التكيف مع فضاءات مختلفة.
الجوائز والنجاحات الدولية
لم يكن عرض “حيث لا يراني أحد” مجرد تجربة محلية، بل نجح في إثبات نفسه على المستوى الدولي ، بدأ في مهرجان القاعات بالمعهد العالي للفنون المسرحية وحصل على المركز الأول فى مهرجان القاعات ، لينطلق بعدها للمشاركة فى عدة مهرجانات محلية ودولية ، منها مهرجان بغداد الدولى ، مهرجان شرم الشيخ الدولى للمسرح الشبابى ، مهرجان الاسكندرية الدولى بلا انتاج ، مهرجان ظفار الدولى بسلطنة عمان ، مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى ، مهرجان الحرية ، ويحصد العرض العديد من الجوائز منها جوائز الافضل فى التمثيل والاخراج والديكور والإضاءة.
حيث لا يراني أحد” ليس مجرد عرض مسرحى ، بل مرآة تعكس أعمق تساؤلات الإنسان حول الزمن والتقدير ، بفضل الأداء التمثيلى المرسوم بدقة شديدة ،والإخراج المبتكر، نجح العرض في تقديم تجربة فريدة أثرت في الجمهور وأثارت تساؤلات عميقة حول معنى العمل والقيمة الإنسانية في عالم يفتقد العدالة ، ونجاح العرض محليًا ودوليًا يؤكد أن الفن قادر على تجاوز الحدود، وأن القصص الصادقة دائمًا تجد صدى في قلوب الناس، مهما اختلفت ثقافاتهم ..ويظل السؤال بلا إجابة ..ماذا أفعل هنا ؟..حيث لا يرانى أحد.