العدد 907 صدر بتاريخ 13يناير2025
إذا كان المسرح هو فضاء معبر عن المكان واللحظة الزمانية، فإن المسرح الإفريقي في مراحل تطوره تأثر –كثيرا- بثقافة المحتل رغم محاولة كثير من المسرحيين التمسك بالهوية الفنية لهذا الفن، ومع ذلك ظهرت التأثيرات واضحة. حيث “كان من الطبيعي في ظل اللغات والدراما الأوروبية الوافدة، أن يشرع الأفريقيون في التعبير بهذه اللغات الوافدة تعبيرا دراميا”(1)
وأظن أنه كان داخل الكاتب المسرحي الأفريقي في تلك الفترة صراع ما بين التقليد والتحديث، ما بين أن يتمسك بالثقافة الأم التي ورثها عن أجداده بما تحويه من أعراف وتقاليد وموروث شعبي ومخزون أنثربولوجي عميق، وما بين الثقافة الأوروبية بفضاءاتها المفتوحة على التحديث والرؤى الفلسفية والتفاصيل اليومية للحياة المعاصرة.
وربما هذا ما جعل مسرحيات البداية تتخذ بعدا مهما في النقد الاجتماعي من خلال محاولة الثورة على التقاليد كما في مسرحية “الهاتف الإلهي” للكاتب الكونغولي جاي منجا، والذي قدم فيها نقدا لأحوال الزواج التقليدي.(2)
وتدور أحداث المسرحية حول رجل بخيل يدعى بايوكي يرسل ابنته لواكا ابنة الستة عشر عاما للدراسة نظرا لأن من عادات القبيلة أن الفتاة المتعلمة تحصل عند الزواج على مهر أكبر من مثيلاتها من الفتيات، وبالفعل يتقدم للواكا شاب غني يقدم لوالديها مهرا كبيرا لكنه يشترط عليهما الزواج في التو واللحظة، لكن البنت كان لديها طموح في |إكمال تعليمها وتحقيق ذاتها، كما أن قلبها قد بدأ يميل لمدرس صغير في السن من المدرسين المتواجدين في المدرسة، لكن الأب بإسلوبه المتعجرف يحاول أن يملي رأيه عليها لكنها تجد مساندة من جدها، ويلعب هذا الجد الدور الرمزي في المسرحي فكانه الهاتف الإلهي الذي ينقذ البنت من طمع وجشع الأب ومن الزواج من العريس الذي يمتلك المال، ومن ناحية أخرى يمكنها الجد من الزواج ممن تحب.
المسرحية تنتمي إلى المسرح الاجتماعي وتدور بنية الصراع كما رأينا بين اثنين من زمانين وعصرين مختلفين الأب والابنة، وبين العاطفة والمال، في حين يوجد طرف ثالث يمثل بؤرة الإضاءة في النص وهو (الجد) الذي يمثل دور المخلص وفق الرؤية التقليدية للمسرح في بداياته كما عند الإغريق.
ومن هذا النوع جاءت مسرحية “ثلاثة خطاب وزوج واحد” للكاتب الكاميروني غليوم أويونو أمبيا،، والتي تدور أحداثها في إطار مشابه حول فتاة جامعية تحب زميلها في الجامعة وتذهب به إلى والدها ليخطبها منه، في حين أن الأب كان يتعامل مع ابنته كسلعة حيث كان قد اتفق مع شابين آخريين على خطبتها وأخذ من كل منهما مقدما للخطوبة، والعائلة كلها كانت تعرف ذلك، ويسعى الشاب الذي يزاملها إلى جمع المال وإعطائه للمتقدمين لخطبتها سدادا لما أخذه الأب منهم ثم يتمكن من الزواج من حبيبته.
في حين نجد مستوى آخر من الكتابة المسرحية يصب في بوتقة المسرح المقاوم مثل مسرحية “الثائرون” لأنجوجي، ومسرحية “مجانين واختصاصيون” لوول سونيكا، وهي بمثابة صرخة مدوية ضد المواقف المتخاذلة تجاه الحرب الأهلية في نيجيريا، حيث يكشف فيها حجم التناقض الواضح فيما سمي بالقيم المتعاكسة، فبطل المسرحية الدكتور بيرو وهو طبيب يعمل في الجيش لكنه أثناء الحرب الأهلية يعمل في الجهاز الاستخباراتي، وهو جهاز عمل وقتها على قتل المعارضين بشكل هستيري، وفي المنطقة الأخرى من المسرحية يعرض الكاتب للمجانين والمشوهين نفسيا، وعاهاتهم التي ترمز إلى تشوه المجتمع وضياعها، في حين تطفو على سطحه شخصيات انتهازية نفعية مثل شخصية الاختصاصي الذي لا يهمه سوى جمع المال والبحث عن المكاسب الشخصية حتى ولو على حساب الآخرين.
في حين تبرز نقطة ضوء في المسرحية من خلال شخصية والد الدكتور بيرو، والذي يبدو شخصا إنساني النزعة متعاطف مع الآخرين ودائءم اللوم لابنه على ما يقترفه من جرائم، ولذلك نجده يخاطبه قائلا:
العجوز: لأنك داخل النظام كالكيس الدهني في جسم الإنسان يؤذي ويضايق أو كالرغوة القذرة في حوض المياه أو كالجزء الخرب في ذلك الحوض وأنت لذلك جزء من المادة اللازمة لإعادة بناء العقل الإنساني لإعداده إلى لحظة آز السياسية ولحظة آز العلمية وأز الغيبية وآز الاجتماعية وآز الاقتصادية والخلقية وآز التي لا مفر منها، إذ لا يوجد سوى شيء واحد ثابت في النظام وذلك الشيء هو آز.(3)
وكان لسونيكا دور مهم في تطوير الخطاب المسرحي في شرق أفريقيا بشكل عام بداية من ستينيات القرن الماضي من خلال تكوينه لفرقة مسرحية أسماها “مسرح أورزيون» كانت بمثابة مركز تدريب على الفنون المسرحية المختلفة، وقد كانت جهود تلك الفرقة المتلاحقة والمستمرة دافعا لتكوين مجموعة من الفرق في نيجيريا على يد شباب من محبي المسرح، ومن أهم هذه الفرق فرقة إلدرد فاليبريسما وفرقة شرق نيجريا التي أسسها وأشرف عليها الشاعر والكاتب المسرحي جون بير كلارك.
وفي غانا ظهرت مجموعة من كتاب المسرح الذين زاوجوا مابين الاستفادة من الموروث المحلي وبين الاستفادة من الخطاب المسرحي الغربي، ومن هؤلاء الكتاب آما آتا آيدو، والتي ولدت عام 1942، وقدمت مجموعة من المسرحيات منها “أزمة شبح” 1964، والتي ناقشت ىفيها قضية اجتماعية وهي قضية الزواج خاصة زواج الرجل الأفريقي بامرأة أمريكية زنجية، فهذا الزوج المغترب هناك يتزوج من تلك المرأة لكن حين يعود إلى موطنه في مدينة أكرا يأخذ زوجته الأمريكية معه، لكنها لا تتأقلم مع المكان الجديد وتشعر بغربة شديدة وتقرر العودة مرة أخرى إلى بلدها.
أما مسرحيتها “أنووا” فتناقش فكرة الزواج والخداع قبله فالفتاة بطلة المسرحية تقع في حب شاب ترفض بسببه كل من تقدم لزواجها لكنها حين ترتبط به يتكشف عن وجهه الآخر فترى فيه شخصا غير الذي أحبته. رغم أنه يوفر لها كل سبل الراحة والسعادة كما أنها تعجز عن إنجاب طفل يؤنس حياتها التي تتحول مع مرور الأيام إلى جحيم.
وهذه الموجة من الكتابة الاجتماعية امتدت في أرجاء القارة ولدى عشرات الكتاب من جيلي الخمسينيات والستينيات منهم في كينيا نجوجي وأثيونجو، وروبيكا نجاو، وميسيري موجو، وكينيث واطيني، ومن جنوب أفريقيا لويس نكوزي صاحب مسرحية “إيقاع العنف” والتي عرضت لأول مرة عام 1965، في نيجيريا، وتدور أحداثها حول شابين يسعيان لمحاربة العنصرية ضد السلطة البيضاء في مدينة جوهانسبرج.
وقد كانت مدينة لاجوس في نيجيريا هي برودواي وسط أفريقيا حيث كانت ملجأ لكل المسرحين حتى المضطهدين سياسيا في إفريقيا الذين قدموا أعماله على خشبات مسارحها المتنوعة، وعلى ما أعتقد أن ذلك يعود إلى سبب رئيسي وهو أن هذه المدينة تضم سكانا من أجناس مختلف، كما أن بها بها جامعة من أقدم الجامعات الأفريقية وهي جامعة (أبادان) والتي قدمت للحركة المسرحية الأفريقية –بشكل عام- مجموعة من أهم كتاب ومخرجي المسرح الأفريقي على مدار قرن من الزمان، وقدمت على خشبة مسرحا البدايات الأولى لجيل الرواد.
الهوامش:
د. علي شلش: الأدب الأفريقي- عالم المعرفة- الكويت العدد 171- مارس 1993- ص106
-2-دورثي أس. بلير: الأدب الأفريقي باللغة الفرنسية- جامعة كمبردج- ص126
3-وول سونيكا: مجانين واختصاصيون- نيويورك- هل اندوانج- 1972- ص97.