العدد 908 صدر بتاريخ 20يناير2025
أن عملية الإقتباس والإعداد قديمة منذ نشأة المسرح في القرن الخامس قبل الميلاد مع أن التعبير لم يظهر إلا مؤخرا. فنصوص الكلاسيكيين الإغريق تعتبر إقتباسا وإعدادا درامياً عن مادة سردية هي الملاحم والأساطير.
والنص المسرحي مادة قابلة للتشكيل مراراً وتكراراً ولم تزل هناك نصوص قدمت منذ أكثر من أربعة قرون قبل الميلاد وتلقي رواجاً إذا قدمت على مسرحنا المعاصر. فما السر وراء هذا التكرار؟. تجيب الناقدة الكندية (ليندا هيتشون) عن هذا التساؤل: “أن جزء من المتعة تكمن ببساطة في فكرة التكرار مع الاختلاف مع إحياء الذكرى ولذة المفاجأة”.
وبذلك فإن متعة العمل تكمن في تكراره لكن بشكل مختلف يتلائم مع السياق الجديد الذي وضع فيه، ولذة المفاجأة تحدث للمتلقي الذي لديه خلفية مرجعية للنص الأصلي عندما يراه بشكل جديد ومختلف، يكتسب خصوصيته وتفرده عن العمل الأصلي، ولأن شكسبير له النصيب الأكبر من الإقتباس والإعداد، فنحن لا نشاهد هاملت شكسبير على خشبة المسرح إننا نشاهد هاملت سامح مهران ومازن الغرباوي وهاملتهن سعداء الدعاس وأخيرهم ماكبث محمود الحسيني كاجو. في مسرح معين وزمن معين يتواكب مع الظرف المكاني والزماني والسياق الذي تم إعداده فيه.
بذلك فإن الفنان له الحق في أن يمارس حياته ورؤيته على نص ما، يفعل به ما يشاء بشرط أن تكون النتيجة مقنعة وقوية ومتماسكة في ذاتها.. والسؤال الذي يطرح نفسه الأن هل اصبحت نصوص شكسبير في عصرنا الحديث تقدم بطرق تصل إلى حد الابتذال؟!.
تميزت شخصيات مآسي شكسبير بأن نهايتها كانت مأسوية. وهو ما رفضه العرض من خلال تجميع ثنائيات أشهر المآسي الشكسبيرية على خشبة واحدة فظهر لنا “عائلة شكسبير”؛ لأن شكسبير سبب وجودهم فيعتبر أنهم أبناءه. قُدم العرض على مسرح قصر ثقافة روض الفرج ضمن فعاليات مهرجان نوادي المسرح الإقليمي، كتابة وإخراج (سامي سلامة) عن نص “شكسبير في السبتية” تأليف (أحمد الأباصيري).
تدور الأحداث حول سيد المؤلف، عاشق لشكسبير ومتأثرا بأعماله خاصة المآسي، يعيش في بدروم مع خيالاته وأوهامه مع ثنائيات الحب الشكسبيرية التي انتهت بمأساة (هاملت وأوفيليا، روميو وجولييت، عطيل وديدمونة، أنطونيو وكليوباترا) وهو ما يسبب ضيق لحبيبته أمل الذي يحبها منذ (15) عام، ويتردد في مقابلة والدها، فتساعدها الشخصيات الوهمية على أخذ الخطوة، لكنهم يطالبونه أن يعمل على تعديل نهايتهم المأسوية وجعل كل ثنائي يتزوج وتكون النهاية سعيدة، ومع انتهاء تلك التعديلات يظهر أحمد شقيق أمل ويصدمها بالحقيقة ويخرجه من حالة الوهم التي يعيشها، بأن أمل ماتت منذ ثلاث سنوات بعد زواجهما بفترة قصيرة نتيجة حادث أثناء سفرهم، وبمساعدة أحمد يستعيد سيد وعيه، ليكون لديه أمل ليبدء من جديد.
يطرح العرض تأثير فقدان من نحب والهروب من ذلك الواقع الأليم من خلال الوهم وأحلام اليقظة التي يعرفها فرويد أن هذه الأحلام تساعد الفرد على التعامل مع التوترات النفسية من خلال توفير بدائل خيالية للرغبات غير المحققة في الواقع، بالتالي الأحلام وسيلة للتعبير عن الرغبات المكبوتة.
وهو ما لجأ إليه سيد لرفض واقع موت أمل، وبصفته مؤلف وعاشق لشكسبير فيرى في ثنائيات نصوصه مرآة لواقعه فكل ثنائية مرآة لسيد وأمل، فهما أيضاً كانت نهايتهم مأسوية، وإهتمامه بإعادة صياغة المسرحيات الشكسبيرية لتكون نهايتهم سعيدة، وكأنه يحاول تغيير واقعه نفسه من خلال تلك المسرحيات، فهو يرفض الحاضر(فقدانه لأمل)، فيحاول إعادة صياغة الماضي (فترة ما قبل الخطوبة) وتغيير النهايات من أجل تجاوز ألم المستقبل (فقدان أمل).
تيمة هامة ومبرر استدعاء الشخصيات من عالم شكسبير محكم ومنطقي، ولكن لم يتم استغلالها الى أن ضلت التيمة طريقها واندثرت بسبب الكيفية التي تم طرحها من خلالها وغياب المبررات الدرامية في جعل شخصيات شكسبير تظهر بهذا الشكل الهزيل والسوقي، فقام العرض بتجريد تلك الشخصيات بما عرف عنها؛ فوضعها في بيئة شعبية، حول لغة الشخصيات الجادة الي لغة شعبية هزلية وكذلك الأفعال.
نجد هاملت أمير الدنمارك في صورة (سرسجي) يتحدث بطريقة بلطجي الحارة الشعبية، أوفيليا فتاة شعبية سوقية، روميو وجولييت في الثالثة عشرة من عمرهم يتصرفان بشكل طفولي، (كليوباترا) تلك الملكة التي حكمت مصر جعلها العرض شخصية كاريكاتورية هزلية، و(أنطونيو) جعله مغني، أما (ديدمونة) رمز الشرف والحب والوفاء التي قُتلت ظلما جعلها عاهرة تحاول إغواء الرجال طوال العرض!!، (عطيل) جعله العرض أشبه بالديوث! فكيف ذلك القائد العسكري المهيب الذي يتسم بالغيرة الشديدة لذلك قتل زوجته لمجرد شكه أنها تخونه، يصبح بهذه الصورة رغم علمه بما تفعله ديدمونة من مغازلة الرجال ويظل متمسكا بحبه لها؟!، على الرغم أن جميع شخصيات العرض تخاف من عطيل بالإضافة إلى تكوينه الجسماني القوي والسيف الذي لا يفارقه، لا يفعل شئ.
فلا يوجد مبرر درامي واحد على تصوير الشخصيات بهذه الصورة، ولكننا إذا افترضنا أننا أمام حالة وهمية في عقل سيد -والأحلام تسمح بالفنتازيا- فهو له الحرية أن يتخيل شخصياته كيفما شاء لكن علينا أن لا نغفل أنه مؤلف وعلى دراية كاملة بأبعاد وكل ما تتسم به الشخصيات التي كتبها شكسبير بالإضافة إلى صورة شكسبير نفسه التى كانت فى مستوى مرتفع من مركز عمق المسرح ، وكما جاء في العرض أنه مؤلف مهم وله كتب كثيرة ومنتشرة. فأين المبرر أن يرى عالم شكسبير بهذه الصورة؟!.
فلم يحتفظ من سمات شخصيات شكسبير سوى ملابسهم التي كانت من تصميم (تقى حكيم) فكل شخصية ارتدت ما يدل عليها من نص شكسبير. بالإضافة إلى ملابس سيد وأمل وأحمد الواقعية.
فمن الواضح أن العرض هدفه الرئيسي الإضحاك، سواء من تشويه شخصيات شكسبير، ورمي الإيفيهات على الشخصيات مثل كليوباترا، التنقل بين الفصحى ولغة الحارة لإثارة الضحك وكان ذلك أيضا من معيقات الدراما وعمل حالة من الإغتراب لدى المتلقي والشخصيات، فكيف -على سبيل المثال- بعد أن شاهد هاملت فى دور (السرسجي) يتقبله وهو يقول مونولوجه الشهير بجدية بالفصحى على طريقة شخصيات شكسبير؟! وبنفس المقياس على بقية الشخصيات.
والموسيقى والمؤثرات الصوتية من العناصر التى اعتمد عليها العرض من أجل الضحك، فأعتمد على الأغان الشعبية بجانب الإستعراضات وكأننا أمام كباريه أو فرح شعبي وليس خشبة مسرح. كما وظفت الموسيقى في بعض اللحظات معبرة عن حالة المشهد أثناء مشاهد مونولوجات الشخصيات، وكذلك عندما علم سيد بوفاة أمل.، والحقيقة أن الجري وراء الإضحاك تحولت الكوميديا إلى تهريج، والفرق بين المهرج والكوميديان هو أن الجمهور يضحك على الأول بينما يضحك بفعل الثاني.
جاء ديكور (عزووز) معبرا عن البدروم والحالة التي وصل لها سيد وان ما نراه من عشوائية فى المكان ما هي إلا خراب داخلي لسيد، كان في المنتصف سرير وفى اليسار المكتب، واستخدام تلك القطع البسيطة خدمة العرض في حضور حالة التوهم الذي ينتجه ذهن سيد وكأننا داخل عقله، فنجد المسرح محاطا بلوحات ورقية تتدلى من الأعلى، عمق المسرح إطارات خشبية تستخدم كصور لثنائيات شخصيات شكسبر، في منتصفهم صورة شكسبير التي ستسقط وتحل محلها صورة أمل للتأكيد أن كل ما يدور كان داخل عقل سيد.
العنصر التمثيلي كان له الثقل الأكبر في العرض بسبب ما يمتلكونه من حضور وطاقات تمثيلية تستحق التقدير بالأخص في مشاهد المونولوجات الشكسبيرية فتحية (لفيروز حسام) في دور ديدمونة، (طه تايسون) عطيل، (خالد علي) هاملت، (وعد الحكم) أوفيليا، (رضوى شريف) كليوباترا، (بيتر عياد) أحمد، (سارة عماد) أمل، (أحمد دبور) في دور سيد ولكن كنا ننتظر ان يظهر حالة التحول عندما يصطدم بالواقع بشكل أفضل، فكان أداء الشخصية بعد التحول هو نفسه قبل التحول وهذا لا يقلل من مجهوده طوال العرض وانه يمتلك موهبة وحضور.
نحن أمام عرض هدفه الإضحاك في المقام الأول، وإيصال نصيحة في النهاية من خلال حديث أحمد مع سيد بأن يركز في حياته وتخطي الماضي وأن وراء كل ألم أمل.
والتحفظ ما زال موجود أن تصبح أعمال شكسبير تظهر بشكل لا يليق بها بتقديم الشخصيات بهذا الشكل دون ضابط ولا رابط، وكما ذكرنا سلفا للفنان مطلق الحرية في اختيار ما يتوافق مع رؤيته بشرط أن تكون النتيجة مقنعة وثرية ومتماسكة في ذاتها، التحفظ ليس على تناول نصوص شكسبير بل عن عدم وجود المبررات ومنطقية الأحداث وسبب التغيرات التي طرأت على شخصيات شكسبير، فكيف لمؤلف متيم بشكسبير يرى شخصياته بهذه الصورة؟!.. فالأهم من ماذا أريد أن أقول.. كيف سأقول.