العدد 910 صدر بتاريخ 3فبراير2025
على مسرح الجيزويت قدَّم المؤلف والمخرج هاني طاهر مسرحيته (عفاريت زولا) والتي استحضر فيها أربع بطلات هربن من روايات الفرنسي إيميل زولا إلى المسرح على طريقة برانديللو في “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” ليستعرضن حكاياتهن ويشتبكن مع زولا – الغائب الحاضر – ومع الجمهور ومع المخرج الذي يتداخل مع الحكايات حتى يتخذ في النهاية موقع المدافع عن زولا ضد اعتراضات الأشباح على الطريقة التي شكَّل بها زولا شخصياتهن والمصائر المأساوية التي دفعهن إليها.
عبر هذه الحبكة التي تفتح العوالم الفنية والدرامية على بعضها، تتنوع التداخلات بين الفنون، وتتراكم المستويات والتقنيات المسرحية، كما تتعدد أشكال الدراما وتجليات الشخصيات، ما ينعكس على مستويات الحوار فيجعلها متباينة، وما يساعد المسرحية على طرح فلسفاتها عبر الجدلية العامة بين العوالم الفنية وعبر الجدلية الخاصة بين ثلاثة أركان: المخرج (صُنَّاع الفن)، والأشباح (نواتج الفن)، والجمهور كممثل للواقع المجتمعي.
تتداخل المستويات المسرحية مع الظهور المفاجىء للأشباح؛ تصبح لدينا مسرحية داخل مسرحية، مسرحية أم ومسرحية داخلية. المسرحية الداخلية – في مستواها العام – تمثل دراما موازية للدراما الأم، فإن كانت الأم تناقش علاقة المخرج بالممثلين فالداخلية تناقش علاقة الشخصيات الروائية بالمؤلف (زولا). على أن هذه المسرحية الداخلية – وعبر مستوياتها الخاصة – تتفتت إلى أربع مسرحيات صغرى تحكي فيها البطلة الواحدة حكايتها وتتحول الثلاث الأخريات إلى مستمعات. تتوازن القوى في هذا التداخل بحيث تصبح كل مسرحية من الخمس ذات حضورين: مرة كمسرحية أم تفرض نفسها على الخشبة ومرات كمسرحية (داخلية) تنزاح لحساب مسرحية أم أخرى. فمثلا، حين يغيب المخرج في الكالوس وتجلس البطلات الثلاث يستمعن لمادلين، تصبح سردية مادلين هي الأم بلا شك.
يتحطم الجدار الرابع (على طريقة بريخت) عبر كسر الإيهام. المخرج يفعل ذلك مرتين بالحديث مع الجمهور. سوزانا تفعله ثلاث مرات؛ الأولى حين تؤدي استعراضا في المساحة بين الخشبة والمتفرجين؛ والثانية حين تقطع المساحة الفاصلة بين صفي المقاعد، والثالثة حين تجلس بين الجمهور لتتابع العرض كمتفرجة. أما مادلين فتحقق ذلك بوسيلتين، الأولى حين تغني مقاطع قصيرة تُشعِر الجمهور أنه في حفل، والثانية حين تسأل الجمهور: «حد هنا اسمه چاك؟». وأخيرا فكرة الراوي في ذاتها تحقق هذا الكسر طوال الوقت، فالشخصية تقص معاناتها على الجمهور بالأساس، تحاوره وتتجادل معه، وتستهدف تعاطفه مع مأساتها قبل تعاطف المخرج أو بقية البطلات.
خلال هذه الحبكة متعددة المسارات تصبح لدينا عدة خيوط درامية تتفرق وتتجمع تحت سؤال عام يختص بعلاقة المؤلف بالشخصية التي يبتكرها، ويختص أيضا بعلاقة الفنان بالمتلقي وهي جدلية تدور في الأساس حول هذا المنتَج (الشخصية الفنية)، إذ تقول سوزانا: (بس اللي بيقرا بيشتم الأبطال الأشرار) فيجيبها المخرج: (وبيتأثر بالأبطال اللي زيكم واللي حصلّهم). لدينا مستوى حكائي (سردي) تقص فيه الشخصية معاناتها في مونولوج متقطع يكتسي بنبرات متنوعة بين الحزينة والساخرة والمتمردة، ويتخلله نوع من التداعي الحر الذي قد يتاح للشخصية الفنية أكثر مما يتاح للإنسان العادي. لدينا المستويان الغنائي والاستعراضي وهما متداخلان. يتألق فيهما المخرج بأغنية فرنسية يقوم خلالها باستعراض راقص. كما تؤدي رغدة جلال (مادلين) الغنائية بطريقة خاصة تستهدف الوصول إلى مستوى الغناء الشعبي وإضفاء المزيد من الكوميديا التي تفرضها رغدة من البداية جنبا إلى جنب مأساة مادلين. تُلحِّن رغدة (ما عرفتش أقول له إيه) على طريقة الموال الشعبي، كما تغني (طب أنا وانت والحب إيه) على طريقة الطقطوقة القديمة، مستغلة قدراتها الصوتية الخاصة في الحالتين. وبمصاحبة أغنية (صوت صفير البلبل) تقدم سوزانا (مريم مسعد خليل) استعراضا تتنوع فيه الأداءات الحركية والتعبيرات الجسدية.
رغم الحمولة الفلسفية في خطاب المخرج والحمولات المأساوية في خطاب البطلات، إلا أن المستوى الكوميدي حاضر بقوة، ما يُحدِث اختلاطا بائنا بين المأساة والملهاة. فالمخرج يقوم بدورين رئيسيين يخلقان البعد الكوميدي: الكوميديان الذي يقص على الجمهور نكتا سخيفة والمهرج الذي يعطل المسرحيات الداخلية فتشتبك معه رغدة جلال (مادلين) وتعيده إلى الكالوس كلما ظهر على الخشبة فتتوالى المفارقات المضحكة. يستمر هذا التهديد من جهة مادلين وهذه الرهبة من جهة المخرج، عاكسين معا علاقة شبح متسلط بإنسان عادي وفارضين حالة كوميدية سلسة وغير مصطنعة. تكتسب مادلين حضورها الكوميدي من هذه السلطة التي تجعلها أقوى البطلات الأربع، كما تضفي سوزانا حضورا كوميديا بمقاطعتها لبقية الحكايات. حتى سيفرين – التي ظهرت في البداية كأكثر الشخصيات صمتا وانزواءً – تضع بصمتها الكوميدية حين تسمي الروائي الذي ابتكرها «إميل زويلة».
تتنوع مستويات الحوار داخل العرض، لدينا المستوى الحكائي (الشفاهي) الذي تعبر به الشخصية عن معاناتها مازجة بين العامية والفصحى. تسرد سوزانا مقطعا فصيحا تقول فيه: «أعني بذلك الفقر الذي يرغمك أن ترتدي ثوبك الأوحد حتى تتنافر خيوطه.» لدينا مستوى مقفى على طريقة المقامات القديمة «قال لي لا الحاضر ... قلت له حاضر.» ولدينا أيضا المستوى اليومي والعادي، كأن تقول رينيه: «خدوني من هنا .. حطوني هنا.»
توازن مادلين بين قوة الشبح وهشاشة الأنثى، وتشكو سوزانا بؤسها بطريقة ساخرة لتخلق أداءً خاصا. كما تلعب (دميانة مجدي) دور رينيه الأرستقراطية الراقية والذي تتضافر فيه الملامح والملابس والأداء في خلق الأبعاد الثلاثة للشخصية. تظل سيفرين (نور إسماعيل) صامتة لوقت طويل، ولكنها خلال مونولوجها تعبر عن أنثى معذبة مرت بعدة مآسي.
يظل إميل زولا في خلفية الحكاية وفي قلبها طوال العرض، حتى يصبح في لحظة ما أُس الموضوع وأساسه. وذلك حين ترغب الشخصيات في تغيير مصائرها فيتدخل المخرج ليدافع عن الفنان ويناقش المسرح كعملية والتأليف كصنعة «الكاتب مسئوليته بتنتهي بعد كتابة كلمة النهاية»، فتبدو المسرحية كمرجعية ذاتية تنعكس على خصائص وسيطها الخاص وتناقش آلياته. يقول المخرج أنهن قد لا يحسنّ استغلال الفرصة لو سنحت من جديد، هنا تتطرق المسرحية بشكل غير مباشر إلى الفرق بين الواقع الحياتي والواقع الدرامي، فالإنسان ليس ثابتا ولا خالدا، يتعرض طوال الوقت للتغير والتطور وكثيرا ما يكشف الغطاء عن الحقائق فيتعرف عليها على أنها أوهام، أما الشخصية الروائية فثابتة رغم الزمن وخالدة للأبد.
تؤدي الممثلات أدوارهن بنبرات متنوعة وإيماءات وتعبيرات تناسب الموقف. تتحرك سوزانا في كل مكان، وتبقى سيفرين طويلا في مكانها وحين تحكي تتحرك بتثاقل حزين، كما تتحرك رينيه ببطء وهدوء يناسبان أرستقراطيتها، وتتحرك مادلين بتوازن بين الصخب المتمرد والدلال الأنثوي، ويتحرك المخرج في تسارع وقفز وركض عشوائي ليؤدي أدواره المتنوعة، المضحكة والدالة في آن.
يتضح الفارق في الهيئة والملابس والمكياج والإكسسوار بين البطلات. مادلين تعقص شعرها للأعلى في كبرياء متمرد، وترتدي رداء أسود كاملا وراقيا. سوزانا ترتدي بلوزة مزركشة وبنطالا يساعدها على أداء الاستعراضات، كما أن ألوان ملابسها غير المبهجة تعكس مأساتها. سيفرين ترتدي بلوزة سوداء مع چيب حمراء تميزها عن مادلين، وتظهر بتسريحة مختلفة وتعبر بوجهها عن مأساة دفينة. أما رينيه فترتدي الفستان الراقي القصير والقبعة والجوانتي وتتحدث بهدوء يناسب الطبقة والخلفية الثقافية.
ديكور المسرح بسيط، مجموعة من الكراسي تناسب بروفة مسرحية ملغاة. هذه البساطة في الديكور تناسب الحالة السردية التي تغمر الأداء والتي تتفوق على الحالة الدرامية، فالشخصية تحكي مأساتها، لا تعيشها من جديد لتجعلنا نعيشها معها. لو دفعت المسرحية مثلا بممثل يؤدي أدوار الذكور في روايات زولا، لربما حققت إنتاجا دراميا أعلى مسرحيا من إنتاجها الذي يتراوح بين السردي والدرامي ويميل إلى الأول على حساب الثاني.
المؤثرات الصوتية أيضا بسيطة، والموسيقى حاضرة في الاستعراضات والأغنيات ورقصات (slow) التي تصاحب المواقف الرومانتيكية في حكايات البطلات. تبقى الإضاءة ساطعة طوال العرض، وكان يجدر بها أن تتفاوت بين خفوت وسطوع حسب الموقف. لم يحدث هذا إلا مرة؛ حين تدخل الأشباح في أجواء شبه مظلمة.
لا تتراوح المسرحية بين المأساوي والكوميدي دون أن تمرر رموزها وفلسفاتها. تشير المسرحية بشكل متكرر إلى شخصية (چاك) الذي يرمز لكل رجل مخادع، تستغله مادلين جيدا في فرض الحالة الكوميدية حين تقول ساخرة: “كل الچاكات بايظة، هيطلع ده الچاك السليم يعني؟” في إشارة إلى كل چاك/رجل يتلاعب بالمرأة.
تؤدي المسرحية دورها التثقيفي عبر مبادرة “اقرأ واتفرج” التي أهدت كل متفرج كتابا قبل دخول المسرح، كما يؤدي العرض دوره النقدي حين يتطرق إلى علامات فنية وثقافية معاصرة وإلى قضايا مثل التحرش ومتاجرة الأطباء بالمرضى والتفكك الأسري والسعي للسطلة والتصارع على المال.
تتضافر كل هذه التقنيات والمستويات والأداءات لتجعل من (عفاريت زولا) تجربة متراكمة الطبقات ومتفرعة المسارات. تجربة جيدة لو ركزت على تنويعات الإضاءة وتشكيلات الحركة ودرامية الحكايات الداخلية بنفس القدر الذي ركزت به على أداء الممثلات وأبعاد الشخصيات، لحققت نجاحا فوق نجاحها.